المسألة الأراكانية بين التفسير والمشروع
19 ذو الحجه 1438
أمير سعيد

كثير من مآسي المسلمين ومشاكلهم تتحد في جذور مشتركة، فأبعادها التاريخية والثقافية والسياسية تكاد تكون واحدة، وما يحصل في دولة أراكان المسلمة المحتلة من قبل ميانمار ينسحب على معظم قضايا المسلمين حول العالم التي تتشارك في أسباب تجعل المسلمين فيها في حالة استضعاف ووهن وهضم للحقوق الأولية.

 

وإذا كان أكثر من مليون مسلم في أراكان – في أقل تقدير - يعانون مخاطر القتل والتهجير القسري ويسامون ألوان العذاب المختلفة من قبل النظام البوذي ذي الاتجاه السياسي الشيوعي، وعدة ملايين آخرين يتعرضون لمخاطر التهميش والاضطهاد بمستويات متباينة في سائر أراضي ميانمار الآن؛ فإن البحث في أصل قضية المسلمين هناك لا يبعد كثيراً عن أخريات تشابهها حول العالم مع اختلافات بسيطة أحياناً.

 

أصل المشكلة ليس اليوم، ولا حتى منذ وقوع أراكان في قبضة البوذيين قبل نحو مائتي عام؛ فالمعطيات من قبل هذا التاريخ كانت تقود إلى مثل هذا المصير بغض النظر عن توقيت الاحتلال.

 

قاسم مشترك بين تلك المناطق التي كانت حواضر إسلامية فغدت مناطق يحكمها البوذيون أو الهندوس أو غيرهم في أطراف العالم الإسلامي يجمعها بداية تراجع الدولة العثمانية مع إغراق الأسطول العثماني في العام 1770م (1184 هـ)، حيث بدأت كل القوى المعادية تشعر أن تلك الدولة قد انكفأت على ذاتها، ولم تعد قادرة على حماية الأطراف الإسلامية حتى تلك التي لم تكن خاضعة بالفعل لها، لكنها تستقوي بها كحليف محتمل في الشدائد، فشرعت تلك القوى في استلاب الممالك الإسلامية وإنهاء الوجود الإسلامي في مناطق أخرى، من دون اكتراث بإلّ أو ذمة.

 

ولم يكن إغراق الروس للأسطول العثماني حينها إلا علامة واضحة على تراجع تلك الدولة عن دورها "الحضاري" قبل العسكري في رعاية المسلمين في العالم، سبق هذا تراجع ثقافي وغبش واضح في مفهوم الأخوة الإسلامية، وتباعد متدرج في العلاقة مع القوميات المسلمة غير التركية، من قبل كان الاهتمام بتدريس العقائد، وإشاعة التعليم الشرعي وغيره في تدني شديد.

 

عرف المسلمون تداول مراكز القوة في محيطهم الشاسع، كانت تبزغ دولة إسلامية في إثر أفول أخرى، غير أن تلك الفترة كانت تشهد تراجعاً في كل المحيط الإسلامي، كانت دولة العثمانيين قد هرمت وأذنت بالرحيل، لكن لم تقم في الأمة نهضة في طرف آخر، وقد كان من بين هذه الأطراف التي غابت عن دورها الحضاري، تلك البلاد والدول والإمارات في شبه الجزيرة الهندية وآسيا الوسطى وما حولهما. كان المسلمون في أراكان – كغيرهم – قد دالت لهم الأمور لقرون لكنهم لم يستغلوا الفرصة السانحة، فلا حدثت لديهم نهضة علمية، ولا وحدوا صفوفهم مع المحيط الإسلامي، ولا أدركوا طبيعة موقعهم كثغر من ثغور المسلمين يستأهل اهتماماً بالغاً بأمنه واستقراره، فلم يدركوا حينها، ولا بعد ذلك أهمية تموضعهم في خرائط القوة الرادعة؛ فبدهي أن الأطراف لا تملك رفاه الدعة والاستكانة والاطمئنان إلى دوام الحال بخلاف القلب الذي قد يتأخر ابتلاعه من القوى المعادية.

 

عدم الاهتمام بترسيخ العقيدة الصحيحة الخالية من الشوائب والبدع والخرافات المقعدة المخلفة عن النهوض الحضاري، وتراجع النهضة العلمية وغياب المدارس الدينية الواعية، والانبتات عن قلب العالم الإسلامي، لغة وثقافة، والخمول في الاضطلاع بالمسؤولية الأمنية وعدم إدراك أبعاد المخاطر المحدقة بالعالم الإسلامي لاسيما أطرافه الواهنة حينئذ، ثم أخيراً سذاجة سياسية وخفة عسكرية خلفت هذا الاستضعاف والوهن والانكماش الذي أفرزه التخلف الحضاري والتفرق الشديد.

 

في هذا التوقيت، كأن العالم الإسلامي قد صحا من نومه فوجد أن البريطانيين والفرنسيين وغيرهم قد أصبحوا أعظم الأمم تسليحاً وأقوى نظاماً، لم تكن الجبهة الداخلية متماسكة أو قادرة عن صد أي عدوان من هنا أو هناك؛ فكانت الانهيارات متلاحقة؛ فلم تكن إسطنبول قادرة على حماية العالم الإسلامي برمته من جهة، ولم تكن دوله وأطرافه قادرة على النهوض وحدها بالمهمة العظمى (مثلما كان الحال عند تراجع الخلافتين الأموية والعباسية حين نهضت ممالك أخرى بالمهمة)، وهي إقامة دولها على أسس عقدية حضارية تدرك المخاطر وتتأهب لها وتضطلع بدورها في نشر دينها.

 

ما تلا هذا كله تحصيل حاصل، وحوادث مشتركة، وقعت هنا وهناك، احتلال، ومذابح، وتهجير، وتغييب ديني، وتأخير علمي، ونهب وتركيع اقتصادي.. الخ، كله ظواهر لمشكلة واحدة، وهذه المشكلة تفاقمت على مر القرون والعقود؛ فأنتجت هذا الواقع الذليل الذي يعيشه المسلمون في ميانمار وغيرها.

 

الآن، ميانمار تسعى لاستغلال فرصة متاحة لها بالإطلالة المباشرة على خليج البنغال الاستراتيجي عبر تهجير معظم مسلمي الأراكان، والاستيلاء على ثروات نفطية ومعدنية تضمها منطقة الساحل البنغالي، إذ "تُشكل الثروة الاقتصادية الطبيعية في أراكان مطمعاً، حيث الطبيعة والأنهار، وخشب التيك الشهير، والشلالات التي لو تم استثمارها لتوليد الكهرباء ستزود ميانمار كلها بالطاقة، فضلاً عن وجود البترول والغاز الطبيعي، وأشياء كثيرة تريد الحكومة السيطرة عليها"، بحسب عبدالله بن سلامة معروف، رئيس المركز الروهينغي العالمي، وكذا الخلاص من قطاع كبير متماسك من الأقلية المسلمة في ميانمار، وتركيع البقية المتناثرة في سائر المناطق.

 

والفرصة تلك لا تتعلق بضعف الروهينغيا المسلمين في الأراكان فقط، وإنما في حالة التمزق التي يعيشها العالم الإسلامي، وتفجر العديد من الصراعات في قلبه، وانعدام الظرف الدولي الذي يسمح بعرقلة مساعي نظام نايبيداو في تهجير معظم سكان الأراكان المسلمين، حيث لا يبدو واضحاً ما إذا كان بعض الأطراف الإقليمية المسلمة أو غير المسلمة يتبنى أجندة معاكسة لسياسة جنرالات نايبيدوا أم لا، كما تجد كثير من العواصم المسلمة ثقلاً في تحمل تبعات اتخاذ موقف معاند للصين والهند والولايات المتحدة وروسيا في تأييدهم المبطن لما يحصل من مجازر ضد مسلمي الروهينغيا.

 

القصة قديمة إذن، وحلولها معقدة بلا ريب، لكن لا مناص من البحث عن حل سريع؛ فالواقع على الأرض لا يتحمل "التنظير" والبحث طويلاً في جذور المأساة؛ فالضحايا غير قادرين على تحمل العبء وحدهم، لاسيما إذا كان عبء الأجداد والأحفاد معاً، وما ينبغي التفكير به في حلول طويلة الأمد (استراتيجية) يناط بقادة الرأي والشخصيات والهيئات والكيانات المخلصة في العالم الإسلامي كله إيجادها والعمل على تحقيقها.

 

والمطلوب الآن أن يتنادى إلى ذلك أولو النهى في العالم الإسلامي، من العلماء والمفكرين وغيرهم من المخلصين للبحث في حل سريع، وهو غالباً لا يخرج عن سيناريوهات محددة يتعلق أحدها بالاعتراف بالضعف وفقدان الدعم الفعال وعدم القدرة على تغيير الواقع هزيمة وبالتالي ضرورة الرحيل من منطقة الصراع واللجوء إلى غيرها بسرعة وعدم التمسك بالأرض على أهميتها استناداً إلى "الواقعية وحقن مزيد من الدماء".

وثانيها بالتصدي للعدوان المستمر على النحو الذي ذكره مبعوث رابطة العالم الإسلامي لأراكان الشيخ محمد بن ناصر العبودي في كتابه "بورما الخبر والعيان"، والمنشور قبل ربع قرن (1985م) إنها ممكنة إذا ما توحدت القوى الأراكانية في الداخل والخارج واتفقت على حل تسمح به جغرافيا الأراكان الجبلية، وهو صعب وشائك بالنظر إلى فشل تجارب كثيرة سابقة ونجاح أعدائها في حرفها عن مسارها.

وثالثها بالاستمرار في التمسك بالأرض أملاً بنجاح الضغط الخارجي من الدول الإسلامية وبعض الدول الأخرى، وهو الحل الذي يبدو باهظ الثمن لصعوبة تحقيقه.

 

أيا ما كان ما يصار إليه؛ فإن الروهينغيا لا ينبغي أبداً أن يحملوا هم قضيتهم وحدهم، ويتعين أن تقدم لهم النصائح في هذا الخصوص، وألا يقتصر جهد المخلصين نحوهم على الجانب الإغاثي وحده، على أهميته الملحة؛ لأنه بالنظر إلى التحديات الراهنة، وإلى المشكلات المشابهة؛ فإن التأخر في إسداء النصح يعد تسليماً مباشراً لمصائر البسطاء الذين يجدون أنهم مدعوون في محنهم بين حريق الأخاديد، والغرق في البحار والأنهار، والموت صبراً أن يفكروا "استراتيجياً" وأن يستشرفوا المستقبل ويرسموا السيناريوهات في حلكة الظلام!

 

يتعين أن تحمل هذه القضية دافعية جديدة للعالم الإسلامي برمته لوضع قاطرتهم على سكتها الصحيحة، وفي أول طريقها يبدو ضرورياً أن يُرسخ العلماء والدعاة والمفكرون والمثقفون الإيمان بالقضية لدى المسلمين على وجهها الصحيح وطرحها على وجهها الصحيح، العقدي، والتاريخي، والمبدئي، حتى لا تتحول كباقي القضايا إلى مجرد بكائية تاريخية عابرة، وفي الطريق فإن الأمة، كل الأمة، معنية بأن تدرك بأن تفرقها وابتعادها عن الشعور التضامني الأخوي الشامل سيسير بشعوبها إلى مصائر متشابهة إن لم تدرك طبيعة تحدياتها، ووجوب اعتصامها بمنهجها الإسلامي بكل مفرداته ومقوماته. إن قضية الأراكان مرشحة لنصاعتها كقضية واضحة جداً للاضطهاد الديني، والاستضعاف التام، والتخاذل العام، لأن تبرز كقضية جامعة يبدأ من عندها تذكير الأمة بمشروعها الأصيل: { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } والذي يضع رسول الله صلى الله عليه وسلم لبناته بقوله: "مثل المؤمنين في توادهم و تراحمهم و تعاطفهم مثل الجسد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسّهر والحمّىّ" رواه مسلم..