عناق الإرهاب والاستراتيجية الدولية يفجر نهر الدم الصومالي
27 محرم 1439
أمير سعيد

مريم عبد الله، شابة طموحة من جيل شباب صومالي متطلع للعب دور في بناء مستقبل بلادهم، بعد أن كادت تتعافى من ويلات حرب طاحنة ضربت مآسيها طول البلاد وعرضها.

 

تخرجت مريم للتو من كلية الطب بعد ست سنوات قضتها في الجامعة بالعاصمة الصومالية، وكلها أمل في أن تشارك مع زملائها وزميلاتها الإفادة من الهدوء النسبي الذي كان يخيم على العاصمة لتطوير البنية الصحية للصومال، وتحقيق قدر من الاكتفاء في الكوادر الطبية التي ظلت البلاد تعاني من نقصانها طوال سني الحرب الطويلة.

 

لكن القدر لم يمهل مريم يوماً واحداً فقط لتحتفل مع زميلاتها بحفل تخرجها من كلية الطب؛ فكانت من بين أكثر من ثلاثمائة قضوا نحبهم في التفجيرين الغادرين اللذين أسفرا علاوة على ذلك عن وقوع أكثر من ثلاثمائة مصاب آخرين.

 

وقعت الصومال منذ أكثر من ربع قرن في أتون حرب ضروس حصدت أرواح الآلاف، وهجرت وشردت وجوعت الملايين من سكان هذا البلد البائس؛ فلقد غذّت مصالح متعارضة لدول مجاورة ودولية حروباً قبلية طويلة، اكتست في أواخرها برداء ديني تذرع به مشعلوها للإبقاء على الصومال دون حد الاستقرار والاستقلال معاً.

 

النفط واليورانيوم، الموقع الاستراتيجي المتميز، الطموح الاستثماري، البوابة الشرقية لإفريقيا: مميزات جيوستراتيجية وفرص اقتصادية واعدة، شجعت الدول الكبرى والإقليمية على تهيئة البلاد لقدر من الاستقرار، وإعادة البناء والتنمية، وهذا ما قد حصل في الأعوام الماضية حين ألحقت قوات أميصوم والقوات الحكومية الناشئة هزائم متوالية بتنظيم شباب المجاهدين (موالٍ لتنظيم القاعدة)، لكن ما إن بدأت أميصوم تحزم حقائبها تاركة الصومال بعد تدريب قوى إقليمية لقوات حكومية صومالية حتى بدا أن ثمة خلافاً حول مستقبل الصومال وتحالفاته القادمة.

 

حدث التفجيران في توقيت دقيق، جعل كثيراً من المحللين الصوماليين يخالفون الحكومة الصومالية في توجيهها أصابع الاتهام لتنظيم شباب المجاهدين نظراً لضخامة التفجيرين وخروجهما عما ألفوه من عمليات تبناها هذا التنظيم الإرهابي، وضعف إمكاناته مقارنة بتكلفة هذين التفجيرين ودقة أهدافهما، لاسيما أن التنظيم لم يتبن هذين التفجيرين أو يعلق عليهما حتى الآن.

 

مهما يكن من أمر التفجيرين؛ فإن المقصود بات واضحاً، وهو ألا تتبوأ الصومال مكانتها الاستراتيجية التي تمتعت بها لقرون، حيث اتضح أن أعداء الصومال الذين أثاروا نعرات القبلية من قبل، ومولوا كل صراع فيها قد سئموا من خطوات مضت بها السلطة الصومالية لتحقيق الاستقرار وتحقيق الاستتباب الأمني، وغدوا عازمين على إعادة البلاد إلى دائرة العنف من جديد.

 

يبدو الاستقرار مستهدفاً اليوم في الصومال لإيقاف مسيرتها الواعدة نحو التنمية والاستقلال، وإعادة صياغة هوية قيمية ووطنية جامعة، وما قد نزع بالشركات الكبرى نحو العمل على استقرار الصومال لخلق بيئة ملائمة للاستثمار وفتح أسواق جديدة لها في الشرق الإفريقي قد انحرف مساره هذه المرة باتجاه التنافس الإقليمي الخطير، وتنازع الصومال بين إرادات الدول الكبرى والإقليمية المتعارضة.  

 

إننا إزاء واحدة من أكبر عمليات التفجير ليس في الصومال وحدها، بل في العالم كله، وهذا يعكس بدوره حجم التحدي الذي يواجه الصومال اليوم، ووحدته، وأمنه، واستقراره.. الأهم من ذلك كله، أن الدم الصومالي الغالي يُسفك اليوم بغزارة غير مسبوقة في جريمة دموية رعيبة، لدفع فاتورة استقلاله وتوحده ونموه. الأهم هو أن هذا دم حرام يراق بلا جريرة لمئات من الآمنين الوادعين الطيبين. الأهم أن الصوماليين الحزانى الخائفين مدعوون اليوم ليكونوا أكثر جسارة وشجاعة وتماسكاً في وجه المؤامرة الكبرى التي تهدف لانتزاع أمنهم وهويتهم واستقرارهم واستقلالهم.

 

سيخوض الصوماليون بشجاعتهم المعهودة هذه الحرب أيضاً، تلك التي تستتر خلف الإرهاب، وتعمد إلى تحطيم آمال وطموحات شعب أراد الحياة الهادئة بعيداً عن صخب أطماع الغزاة فلاحقوه بجرائمهم. الصوماليون اليوم مدعوون إلى استحضار روح البطلين جوري وعبدالله بن حسن الصوماليين اللذين خطا طريقاً لهذا الشعب المناضل لا فكاك لهما سوى بالاستمساك به والعمل على هداه؛ فالتحدي بات كبيراً، والمؤامرة بدت واضحة، وبعيداً عن الأدوات التي تنفذ؛ فإن دور الصومال في المنطقة هو المستهدف، وأمنه كبلد مسلم عربي يطل بأكبر شاطئ إفريقي على مساحة شاسعة من الممرات المائية الاستراتيجية في منطقة هي الأهم في العالم يجعله محط أنظار العالم كله، قواه الدولية والإقليمية، على غير ما يتصور البسطاء ويتفكهون!