وحدة الدولة وحق تقرير المصير
7 صفر 1439
أحمد محمود عجاج

 

 

انتهت تجربة إقليم كردستان باجتياح القوات العراقية للأراضي المتنازع عليها، وبإصدار مذكرات توقيف ضد قيادات كردية بتهمة إهانة الجيش، وتفتيت وحدة البلاد؛ وانتهى استقلال كاتالونيا بإعلان المادة 155 التي تعطي للحكومة المركزية الإسبانية الحق بحل البرلمان والحكومة الكاتالونيين، والدعوة إلى إجراء انتخابات جديدة، وتسلم الحكومة المركزية الإسبانية إدارة الإقليم؛ في كلتا الحالتين تغلب مبدأ وحدة الأرض على مبدأ حق تقرير المصير!

 

تضمن ميثاق الأمم المتحدة عبارات تعطي لكلا المبدأين قوة وقيمة قانونية؛ فوحدة الأرض وسيادتها مضمونة في المادة 2 من الميثاق، وحق تقرير المصير مضمون أيضاً في مقدمة ميثاق الأمم المتحدة والتي تعتبر جزءاً لا يتجزأ منه؛ بذلك يصبح لكل طرف حجته القانونية، ولا يمكن بالتالي حسم الأمر إلا بامتلاك المطالبين بحق تقرير المصير، القوة المادية، والظروف السياسية الملائمة. فالقوة المادية متوافرة لإقليم كردستان، لكن الظروف السياسية كانت غائبة؛ ولذلك فشلت حكومة إقليم كردستان في تحقيق هذا الاستقلال؛ وكذلك فشل إقليم كاتالونيا، رغم امتلاكه القوة المادية، في نيل الاستقلال لافتقاده الظروف السياسية الملائمة.

بعد انتهاء الحرب الباردة، وبالتحديد بعد حادثة الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، وبعد صعود مفهوم القومية الوطنية، وانحسار التأييد للعولمة، وبروز روسيا والصين كقوتين عظميين، تغير العالم، ولا يزال يتغير، نحو عالم أكثر تقوقعاً على مبدأ السيادة الوطنية والمصلحة الوطنية البحتة. لم تعد العولمة مطلباً أميركياً، بل أصبحت عبئاً على المواطن الأميركي الذي شعر بأنها لا تخدم مصالحه؛ ولم تعد الليبرالية الرأسمالية (المتوحشة) مقبولة للمواطن الغربي؛ لأنها جلبت ما يهدد ثقافته، وسمحت للأغيار بدخول أراضيه، وتقاسم خيرات وطنه؛ كما أن العولمة ساهمت في صعود الصين اقتصادياً على حساب الغرب؛ ودفع توسع الغرب عبر الناتو إلى بلدان مجاورة للاتحاد السوفياتي روسيا إلى احتلال أجزاء من أوكرانيا وجورجيا، تحت شعار تمكين المواطنين الروس من حق تقرير مصيرهم؛ وكذلك حماية الأمن القومي الروسي.

يستشف من هذه التغييرات المتسارعة كلها أن العالم الغربي ليس له قابلية، كما كان في الماضي، للقبول بحق تقرير المصير. كذلك الصين الصاعدة لها مشكلة مع مبدأ حق تقرير المصير؛ لأنه يهدد وحدة أراضيها (إقليم التيبت ودولة تايوان)؛ وأوروبا تشعر بأن حق تقرير المصير يزعزع كيانها، وينسف توجه الاتحاد الأوروبي نحو الوحدة. وترى روسيا خلاف ذلك؛ لأنها تجد في حق تقرير المصير ذريعة للتدخل في دول الجوار، تحت مسمى حماية الأقليات الروسية، وضمان حق تقرير مصيرها؛ روسيا دعماً لهذا الحق احتلت جزيرة القرم، ثم أجرت استفتاء بمفعول رجعي لتقرير مصيره!

إن تقرير حق المصير في كردستان وكاتالونيا يحتاج لنجاحه إلى ظروف سياسية دولية وإقليمية، وقوة مادية، أكثر مما يحتاج إلى غطاء قانوني؛ ففي كردستان وجدت أميركا، الداعم للأكراد، أن دعمها الانفصال سيؤدي إلى تداعيات خطيرة، وإلى عرقلة مشروعات مستقبلية لأميركا في العراق، وفي علاقاتها مع حلفاء لها؛ كما أن حق تقرير المصير، ودعوة كردستان للانفصال ساهم في تقريب وجهات النظر بين طهران وتركيا، وفي الوقت نفسه، وجدت روسيا، التي تربطها بالأكراد علاقات تاريخية، أن من مصلحتها الوقوف على الحياد، والدعوة إلى ضبط النفس. وفق هذه الظروف، وأمام قوة الحكومة العراقية المركزية، المدعومة من جهات إقليمية، وحياد أميركي وروسي، لم يكن بوسع الأكراد الصمود عسكرياً، ولم يكن بوسعهم أيضاً تصعيد التحدي؛ لأن ذلك سيزيل كل مكاسبهم التي نالوها، ومنها الحكم الذاتي بصلاحيات غير مسبوقة.

في كاتالونيا المتمتعة بحكم ذاتي واسع، وبقوة اقتصادية هائلة، نرى حكومتها المحلية عاجزة على المضي قدماً في إعلان الاستقلال، ناهيك عن النجاح فيه. فالحكومة الكاتالونية رغم فوزها في الاستفتاء، فإنها هي الأخرى وقعت ضحية تغير الظروف السياسية الدولية؛ فالاتحاد الأوروبي يعاني من اهتزازات قرار بريطانيا بالخروج منه، ويعاني من تصاعد الموجة اليمينية القومية التي تعارض الوحدة الأوروبية، علاوة على تشكيك الناخبين الأوروبيين في جدوى العولمة الاقتصادية الليبرالية، ناهيك عن أن دول مثل فرنسا وإيطاليا وبلجيكا تخشى هي الأخرى من كيانات داخلها أن تطالب بالاستقلال إن نجح الكاتالونيون. فكاتالونيا التي كانت تُعوِّل على الاتحاد الأوروبي الليبرالي لقبولها؛ وعلى أميركا لتأييدها، وجدت نفسها منعزلة أوروبياً، وأميركياً. وقد وجد الكاتالونيون أنفسهم في مواجهة حكومة إسبانية مركزية قوية مستعدة لقمع انفصالهم ولو بالقوة.

في مقابل هاتين التجربتين توجد تجربة أخرى ناجحة، هي استقلال الكوسوفيين عن صربيا وإقامة دولتهم؛ في كوسوفو توفر العامل القانوني، وتوفرت كذلك الظروف السياسية والقوة المادية؛ فقد أدى قمع صربيا لحق الكوسوفيين إلى حصولهم على المساعدات العسكرية، وأدى ضعف روسيا آنذاك إلى تقاعسها عن نصرة صربيا. كما ساهم وجود أحادية قطبية أميركية متفهمة للحق الكوسوفي، وكذلك سياق عولمي ليبرالي يُعلي نزعة سيادة حقوق الإنسان، ساهم في إعطاء زخم كبير لحق تقرير المصير للكوسوفيين؛ مما مكنهم من تحقيق استقلالهم.

في كل هذه الأمثلة يتضح تماماً أن حق تقرير المصير ليس حقاً قانونياً مطلقاً يمكن تحقيقه بمعزل عن البيئة، بل هو حق مربوط بظروف سياسية، وبيئة دولية وإقليمية؛ وإن أي كيان أو مجموعة مضطهدة من الشعوب تريد أن تحصل على هذا الحق، عليها أن تنظر ليس في قانونية حقها، بل أيضاً في الظروف الدولية والإقليمية، وبما تملكه من أوراق مادية. ولعل ما قاله القاضي الدولي لدى المحكمة الدولية فؤاد عمون يلخص مأساوية حق هذا المبدأ: «محزن حقاً أن تقرر الأرض مصير الناس، ولا يقرر الناس مصير الأرض».

 

المصدر/ الشرق الأوسط