أكبر مسجد في أوروبا.. الصورة ليست قاتمة
11 صفر 1439
أمير سعيد

في خضم ما يعيشه المسلمون من مآسٍ، وما يلقونه من اعتداءات ومؤامرات، تبدو الصورة شديدة القتامة أمام كل مسلم يتطلع إلى نهضة أمته من سباتها، ومع الإغراق في ذكر ما يعتري أمتنا الإسلامية من وهن وتراجع حضاري، تُطمر كل أخبار مبشرة – على قلتها – ويُظن بالله الظنون.

 

ورغم شح بعض الأخبار الداعية إلى التفاؤل؛ فإن دلالاتها التي قد تكون عظيمة تغيب في بحر الهموم والآلام حولنا؛ فمن يجول بنظره حول العالم لا يجد إلا مذابح وتهجير وحصار وتجهيل وتغريب وإضعاف وقهر واستبداد يمارس ضد المسلمين سواء أكانوا في العالم الإسلامي أم كانوا خارجه، لكن من دون شك ثمة ما يمكن استشرافه من خلال بعض الأخبار النادرة التي تبعث على الأمل والارتياح، لا بل حتى يمكن استشراف ما هو مبشر في الصورة العامة للمسلمين بكل ما يعانونه فيها من مؤامرات وتداعٍ أممي عليهم؛ فلا غرو أن هذا التداعي إنما يوحي بارتياب هذا العالم غير المسلمين من قيامة المسلمين ونهضتهم، ويحملهم على مزيد من تكثيف الجهود العدوانية ضده بما يدل على إدراك هؤلاء للقوة الذاتية التي يتمتع به الإسلام والقدرة الفائقة له على إحياء المسلمين من رقدتهم.

 

وسط حمم الأخبار المؤلمة والقاتلة والتي تدفع كثيرين للترجل عن جيادهم، والارتحال عن الطريق الصعبة، تأتي خافتة أصوات تبعث على التفاؤل من هنا وهناك، منها ما أوردته شبكة تي ري تي العربية من نبأ عن الشروع ببناء أكبر جامع ومجمع إسلامي في أوروبا بمدينة ستراسبورغ الفرنسية، والتي وضع فيها حجر الأساس بشهر أكتوبر الماضي لجامع الصحابي "أبو أيوب الأنصاري"، والذي سيقام على مساحة 15 دونما، ويتسع لـ3 آلاف مصل. كما سيحتوي على صالة مؤتمرات ومدرسة ومكتبة ومطعم، بالإضافة لمرآب للسيارات يتسع لـ600 مركبة.

 

إقامة جدران المسجد وقبابه ومآذنه بهذا الحجم وتلك الضخامة وهذه المساحة ليست نقلة كبيرة بحد ذاتها في سياق المعادلة الاستراتيجية للمسلمين في أوروبا على فضلها وأهميتها الشرعية، لكن ما يكسيها فضلاً فوق فضل، وإنجازاً فوق إنجاز إنما هو الموقع، والظرف، والمناخ الذي سيتم فيه ذلك، وفي حالتنا تلك؛ فإن هذا المشروع يدخل في الإطار المضاعف هذا، فهو يبعث على الفأل ويحيل إلى دلائل مهمة لابد من النظر إليها بعمق ما يمثله مستقبل الوجود الإسلامي في أوروبا؛ فالجامع هذا يبني في واحدة من أكثر الدول الغربية رغبة في تدجين الإسلام والمواطنين والمهاجرين المسلمين لديها، وهي واحدة من أشد الدول الأوروبية عداء للإسلام، ولديها تاريخ ممتد من هذا العداء، والذي كانت فيه لاسيما أثناء الحملات الصليبية قلب تلك الحملات ويدها الضاربة وحسامها المسلول، وهي واحدة من الدول "المسيحية" التي تأبت على الإسلام وقاومت الخضوع للدين الحق على الدوام اللهم إلا حين ألجأها السلطان العثماني سليمان القانوني على السماح بالصدع بالأذان في مدينة تولون إبان المد الإسلامي العظيم في أوروبا قبل قرون.

 

الجامع لا يُبنى غالباً إلا عند الحاجة لعمارته، وما لم يكن بالمدينة حاجة ملحة من وجود رواد، وراغبين في عمارة المساجد لما تحفز المتبرعون لبنائه على هذا النحو ليصبح أكبر جامع في أوروبا، وهذا يعني أن فرنسا التي هاجر إليها كثيرون من مسلمي شمال إفريقيا وغيرهم ممن كان كثير منهم غير متحمس لعمارة المساجد وارتيادها، قد أصبحوا أكثر رغبة في إقامة مثل هذه المؤسسات الجامعة التي تحيي بفيضها الشعور الإسلامي والهوية الأصيلة لهؤلاء المهاجرين وأضرابهم. لقد لُمح من هذا شعور المسلمين في هذه المدينة الفرنسية وغيرها بالحاجة الملحة لوجود مؤسسة جامعة تحتضن الجالية أو الأقلية المسلمة هناك. ويلاحظ أيضاً أن مشروع بناء هذا الجامع هو – على ما يبدو - مقاربة إسلامية تقوم بها الجالية المسلمة للخروج من أطر تدجين الإسلام وفقاً لرؤية فرنسية إقصائية لرحابة مقاصد الإسلام وأهدافه، وتطلعات أبنائه، من خلال مؤسسات مدجنة لاسيما في باريس أوغل القائمون عليها في فرنسة الإسلام إرضاء للحكومات الفرنسية المتعاقبة على حساب الإسلام ذاته.

 

وإذا كان بناء المآذن الشاهقة والاهتمام بزخرفة المساجد الكبيرة لا يعبر بالضرورة عن فترات صعود المسلمين، وقد ازدهر كثيراً في عهود الاضمحلال والخمول الحضاري الحقيقي، إلا أن حالة جامع أبي أيوب الأنصاري في فرنسا يبدو مغايراً إلى حد كبير؛ فبناؤه أيّا كان رعاته، سيكون معبراً عن تزايد الاهتمام بريادة المساجد وعمارتها، ووجود رغبة عارمة من المصلين في وجود مسجد جامع كهذا، وهذا يعني تلقائياً أن الحضور الإسلامي في فرنسا يتميز إلى حد كبير عن الانغماس في بحر المادية و"الاندماج" العميق، ويعود فيه المسلمون في فرنسا أكثر فأكثر لهويتهم الجامعة ومؤسساتها كذلك اطراداً مع حملات الإسلاموفوبيا المتزايدة في أوروبا وفرنسا بصفة خاصة.

 

إن بناء مسجد جامع كهذا لهو محض سير في اتجاه معاكس تمضي فيه أوروبا رفضاً لوجود مآذن وقباب وأصوات أذان، وحجاب ونقاب، وهوية واضحة بصفة عامة للمسلمين، وصدور قوانين مانعة لإظهار شعائر الإسلام وأذانه؛ فارتفاع مآذن جامع أبي أيوب الأنصاري رضي الله في عنان سماء فرنسا بطول 44 متراً – كما هو مزمع – ليس مسألة هينة في ظل اندفاع أوروبي نحو اتهام الإسلام وحشره في زوايا الاتهام والانكماش والتراجع. والانزعاج من أي شارة أو علامة على وجود إسلامي في قلب أوروبا يشي بأن بناء جامع على هذا النحو من الصعوبة بمكان؛ فإن تم - نسأل الله أن يتمه لهم -، واكتمل المشروع؛ فإنه سيمثل انعطافاً مهماً لمسلمي فرنسا، وبروزاً محموداً لأقلية كبيرة تجاوز ثمانية مليون مسلم، ترسم مستقبلها على نحو مغاير لما تسير فيه الأكثريات المسلمة في بلدانها.