لم يبعد قرار واشنطن، ولا المناخ الذي اتخذ فيه هذا القرار، ولا ردود الأفعال حوله قيد أنملة عن السنن الربانية الماضية لنواميس الحياة، ولهذا لم يكن في أي من ذلك ثمة مفاجأة.
فالقرار الأمريكي، اتخذ في مناخ غير مسبوق في العالمين الإسلامي والعربي؛ فحظوظ التصدي له والوقوف ضده تكاد تكون منعدمة من الناحية العملية، والمنطقة العربية التي كانت أولى من غيرها بممانعة هذا الإجرام الأمريكي المتمثل في الاعتراف بالقدس عاصمة للكيان الغاصب/"إسرائيل" هي في مجملها مفككة هزيلة، خرجت أربعة منها بسبب الحروب والصراعات العسكرية من المعادلة تماماً: سوريا، العراق، اليمن، ليبيا، تلك التي استولت إيران على أربعة منها، هي السابقة باستثناء ليبيا وإضافة لبنان عليها، وركعت دول أخرى لهيمنة الكيان الصهيوني لحد التحكم الكامل في سياساتها، وركبت مجموعة ثالثة قطار التطبيع خاضعة.
وفي الجملة؛ فإن المنطقة العربية تشهد أكبر صراعات العالم، والتي – للأسف – لا يقع الكيان الصهيوني في الطرف الآخر منها، لاعتباره "حليف" كلا الطرفين أحياناً أو يكاد، وقد أسفرت عن أكبر موجات ونسب ومعدل لجوء في العالم، تكفي لإقامة دولة جديدة من ساكني الخيام وراكبي مراكب اللجوء تصل إلى 14 مليون لاجئ مسلم عربي. وما يستتبع هذا أو يوازيه من أكبر عملية إفقار تحدث للمنطقة بوتيرة كبيرة جداً لا تستثني معظم الفقراء بالأصل منذ "الاستعمار" أو كثير من الأغنياء في زمن الاحتلال "الأنيق".
العالم الإسلامي كله من جاكرتا إلى طنجة يغرق في بحار التغريب المظلمة، ويخضع لعمليات تدجين متقنة تمتد من التعليم إلى الثقافة والإعلام، ولا تقف عند حدود المساجد المقدسة بشيء من إجلال أو احترام، ولا عند حقوق التعبد البسيطة والشخصية والتي تقرها "شرعة حقوق الإنسان الدولية" كما يوهمون!
بالمجمل، كان المناخ ملائماً جداً ليتخذ الرئيس الأمريكي ترامب قرار إدارته بالاعتراف بالقدس عاصمة للكيان المغتصب، والتمهيد لنقل سفارة الولايات المتحدة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، وهو بالمناسبة ليس قراراً اعتباطياً، وليس خاضعاً لمزاج ترامب ولا طبيعته غريبة الأطوار؛ فتلك الطبيعة وقفت في الواقع عاجزة تماماً عن أن تفارق الدبلوماسية وضبط النفس والحكمة حينما كان الأمر يتعلق بكوريا الشمالية النووية وذراع الصين الباطشة؛ فترامب "المتهور" – كما يقولون – ابتلع إهانات الرئيس الكوري الشمالي كيم جونج أون له، ولم يطرف له جفن فيما الصواريخ القادرة على حمل رؤوس نووية تنطلق من قواعدها عابرة فوق دول حلفاء واشنطن كل فترة وجيزة دون رادع أمريكي.
إن ما أمضاه ترامب ليس إلا تتويجاً لجهود أمريكية متدرجة لدعم الكيان الصهيوني، مضت بتسلسل تحكمت به الظروف المواتية وغير المواتية مراراً، وهو يستأنف مساره في طريق الإخضاع الكامل للمنطقة وتحقيق أحلام مملكة يهوذا تماماً. ما فعله ترامب ليس بعيداً عن المسار الذي بينه لنا الوحي المنزل من السماء، وسنن الله الربانية؛ فالله سبحانه وتعالى نبهنا إلى هذا المسار وذاك المصير البائس إذ قال: "كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة"، فهم إذ ظهروا علينا وغرقنا في هزائمنا واستسلمنا للعدو، أكان ينتظر منهم أن يراعوا عهوداً قطعوها لنا من قبل؟! أكان يؤمل منهم أن يخجلوا من تعهدات ومعاهدات وتفاهمات أمضوها كثيراً مع ممثلينا؟! لا عهد ولا قرابة ستحترم، هكذا قال الله، وصدق الله العظيم.
ثم، أكنا نتوقع أن يتوقف نزيف دمائنا لأن عدونا سيتوقف يوماً عن مواصلة إجرامه أم يكتفي بهذا القدر من الإذلال والقهر والإخضاع لنا؟! لا؛ فطالما قد ظهر علينا، وطالما استمر ضعفنا بل زاد ستزيد أثمان هزائمنا ولن تقف عند حد. إن من السذاجة أحياناً أن نفكر - وتفكر نخبتنا أيضاً! - أن نزيف ذلنا وانكسارنا سيتوقف يوماً ما؛ فالأطراف المعادية لن ترضى عنا حتى نتبع ملتها تماماً، ليس هذا استنتاجاً ذاتياً، لكنه حقيقة أخرى، بينها الله عز وجل في محكم تنزيله: "ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم".
لم يصدر ترامب القرار ليغطي على فضائحه الداخلية، ولا ليخمد الأصوات الداعية إلى مساءلته وعزله، وهو لم يفعل لأنه قد "وعد ووفى"، لم يفعل لأنه "أحمق" أو "متهور"، مثلما نواسي أنفسنا ويواسينا الآخرون بذلك، فالاستراتيجية الأمريكية التي أتت بترامب على موعد تاريخي تعي أن مناسيب المقاومة في أدنى مستوياتها وأن الفرصة مواتية لاتخاذ مثل هذه الجريمة، وأن مستويات الإدانة الرسمية إقليمياً ودولياً ستلامس حدود التأييد المبطن، وهي إدانات "مشجعة" ودافعة لاتخاذ ما هو أكبر من هذا القرار بكثير.
السنن الربانية تفسر بوضوح ما قد انزلقنا إليه، لكن لحسن القدر؛ فإن سنناً أخرى قد رسمت لنا الطريق إلى المخرج من هذا الوضع البائس؛ فالله عز وجل يقول: "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"، ويقول: "أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم"، فالحق أننا مسؤولون عما آلت إليه أوضاعنا المزرية، وبين يدينا يقع الحل، وهو تغيير أنفسنا، إلى نفوس موقنة بوعد الله سبحانه، إلى النظر إلى أبنائنا كعدة واعدة لقلب المعادلة المهينة..
إن وضع خطوط مستقبل مختلف عبر ترسيخ العقيدة الصحيحة في نفوس الجيل القادم من أبناء أمتنا، وممانعة التغريب الزاحف في كل صعيد ببناء سياج متين من الفكر الوسطي الراشد، وتربية الأبناء على حب الله وحب رسوله صلى الله عليه وسلم، والاعتزاز بمقدساتهم واستغلائها في النفوس، والسير وفق منهاج رباني قويم حكيم، سينتج نبتة مغايرة لحطام زرع ذابل زرعه المحتلون وسقاه أذنابهم. إن الأمل لم ولن ينقطع في هذه الأمة، ومحنتها ستزول يوماً، لكن قطعاً ليس بالأماني ولا بدغدغة المشاعر، فالأعداء بالفعل يغلبون وأمتنا منهزمة، ولا فكاك من نهضة كبرى وقيامة عظمى.