أن يتظاهر مؤيدون لليمين المتطرف في بولندا ضد المسلمين، المهاجرين وغير المهاجرين؛ فهذا أمر قد بات اعتيادياً لا جديد فيه. أما أن تكون المظاهرة الكبرى للاحتفال البولنديين بيوم استقلالهم التاسع والتسعين من تنظيم الحركات اليمينية أصلاً، ويشارك فيها نحو 60 ألفاً من البولنديين، وأن تكون "بمثابة نوع من المغناطيس لـ اليمين المتطرف والجماعات العنصرية من جميع أنحاء أوروبا"، على حد وصف صحيفة نيويورك تايمز، وأن يشارك بها يمينيون ونازيون يرفعون شعارات نازية من إسبانيا والمجر وسلوفاكيا بحسب صحيفة وول ستريت جورنال الأمريكية أو من كافة أنحاء أوروبا كما قالت CNN؛ فإن هذا يعني زخماً غير اعتيادي لحملة الكراهية ضد الإسلام.
بولندا – كما هو معلوم – تضم أقلية مسلمة ضئيلة جداً، تقدرها مصادر الجالية المسلمة بأقل من 1% من السكان، وهي بلد لم يتدفق إليه المهاجرون واللاجئون على نحو من الممكن أن يكون قد تسبب في تأجيج المخاوف بشأن الهوية البولندية، كما أنه لم يشهد أي عمليات إرهابية تنسب لمسلمين حتى الآن؛ فما الذي يدعو متظاهريها إلى الهتاف ورفع شعارات واضحة تعبر عن تلك المخاوف المزعومة؟! وما الذي يجعل أبرز لافتاتها وصرخاتها في تلك المظاهرة هي "بولندا نقية، بولندا بيضاء"، و"المهاجرون خارج أرضنا"، و"أوروبا البيضاء "، و" أوروبا يجب أن تكون بيضاء"، و"نصلي من أجل المحرقة الإسلامية"، و"الموت لأعداء الوطن"، و"بولندا كاثوليكية، وليست علمانية"، وفقاً لشبكة التلفزة الأمريكية CNN ؟!
صحيح أن كبار مسؤولي هذا البلد الذي كانت عاصمته مركزاً ومقراً لحلف وارسو الشرقي المواجه لحلف الناتو الغربي قد حاولوا النأي بهذه المظاهرة الضخمة عن تبني هذه التوجه اليميني المتطرف المعادي للإسلام والمهاجرين واللاجئين، وأكد الرئيس البولندي أندي دودا أن الأشخاص الدين رفعوا هذه اللافتات هم "أشخاص غير مسؤولين"، وهي شعارات لا توافق عليها بولندا، وسارع ستانيسواف كارتشيفسكي رئيس مجلس الشيوخ في البرلمان البولندي للتعليق على ما كتبه جيسي ليهريتش، الناطق السابق باسم السياسة الخارجية لـ هيلاري كلينتون، على تويتر أن "60 ألف نازي قد ساروا في وارسو" بأن هذه "كذبة قذرة"، إلا أن هذا لم يكن ليغير من الواقع شيئاً؛ فالنساء اللائي حملن لافتة تدعو إلى التسامح والتعايش أجبرن على التواري والجلوس بعد أن ركلن وسحلن من قِبلِ نشطاء من اليمين المتطرف، والإعلام الغربي لم يزل يؤكد على أن المظاهرة لم تكن إلا تجسيداً لبزوغ اليمين والنازية في بولندا واستعراضه وقوة حضوره، إذ قالت CNN وBBC أن التجمعات القومية هي من سيطرت على الاحتفالات هذا العام.
لا جرم أن بولندا تسعى إلى تحسين صورتها، لاسيما أمام الاتحاد الأوروبي الذي يناقش هذه الأيام إجراءات بحقها لسبب آخر يتعلق بعدم وجود حدود فاصلة بين سلطاتها القانونية والتنفيذية والرقابية، ونأيها بنفسها عن تبني مثل هذه المنصات التي تنطلق منها أصوات الكراهية في العاصمة وارسو وعدد من المدن، متفهم في ضوء ما تقدم، لكن هذا لا يستقيم عند ذي لُب في تفنيد مسؤولية النظم الأوروبية، ومنها بولندا، عن صعود اليمين المتطرف.
دوننا أمثلة لهذا:
- كمثل كثير من حوادث الكراهية التي تنفذ ضد المسلمين والمهاجرين بصفة عامة "يتعذر" على السلطات ملاحقتها؛ فلغة التحريض ضد المسلمين برغم تجريمها في القانون البولندي؛ فإنه دائماً ما تمر دون عقاب يذكر، ورغم أن المتحدث باسم المدعي العام ماجدالينا سوفا قد أكد أن" الادعاء مازال يقوم بجمع أدلة الشرطة بما في ذلك لقطات من كاميرات أمنية"؛ فإنه لا يتوقع أن يسفر ذلك عن توجيه أصابع الاتهام إلى أشخاص أو الحركات المنظمة لهذه المظاهرة الضخمة، تماماً مثلما سيتم تجاهل حادث الاعتداء الذي تلاها على مسجد ومركز الثقافة الإسلامي في وارسو على أيدي ملثمين دون إدانة واضحة.
- لا تنبت مثل هذه الجرائم عن سياق عام يشجعها سواء من أجهزة أمنية تتواصل مع اليمين المتطرف، أو غطاء سياسي، كالذي الذي استظل تحته المنظمون إذ رفعوا شعار "نريد الله" للمظاهرة، وهو الشعار الذي دغدغ به الرئيس الأمريكي اليمين البولندي أثناء زيارته لبلادهم العام الماضي، ولقد كشفت تقارير متلفزة سابقة عن علاقة وثيقة تربط اليمين المتطرف في اليونان على سبيل المثال بالأجهزة الاستخبارية اليونانية. ينضاف إلى هذا، شهادة اليسار نفسه – وهو جهة "محايدة" إن جاز التوصيف -، حيث اتهم تنظيم "اليساريون في بولندا" المشاركين في المظاهرة بخرق القانون واتهم دار البلدية والشرطة بعدم الاستجابة.
- إلى هذا الغطاء، ثمة غطاء إعلامي، أو لنقل: تحريض سافر تتحمل مسؤوليته وسائل الإعلام الرسمية؛ فالتليفزيون الرسمي البولندي TVP – على سبيل المثال – هو ذاته كان مسؤولاً عن موجة تحريض ضد المسلمين بلغت ذروتها مع استضافته بتاريخ 6 يونيو 2017 في برنامج "Minęła Dwudziesta" "ميريام شديد " رئيسة منظمة استيرا والمعروفة إعلاميا بمعاداتها للإسلام والمسلمين والتي تدعو إلى محاربة الدين الإسلامي في أوروبا، والعقيد بيوتر فروينسكي الضابط في الخدمات الخاصة و ييجي تارغالسكي خبير خدمات خاصة، والذين وصفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه "قاتل"، علاوة على اتهامات أخرى مشينة، محرضين على الإسلام ذاته متهمين إياه بإشاعة الإرهاب. ما أعطى رسالة تشجيعية للمتطرفين المعادين للإسلام من جهة، ومن جهة أخرى عزز الفرضية القائلة بأن هذه الأوساط اليمينية تلقى دعماً من الأجهزة الاستخبارية البولندية.
- لا يقتصر العداء للإسلام على أوساط شعبية – كما تقدم – فهناك إجراءات واضحة تقوم بها السلطات بدون اكتراث لمشاعر الأقلية المسلمة، وتحدياً مباشراً لعلمانية الدولة القائمة على احترام الأديان (أو يفترض هذا!)، فبولندا، شأنها شأن ألمانيا والنمسا اللتين حظرتا "التبشير" بالقرآن عبر توزيع المصاحف وتداولها في الطرقات، قد صادرت هي الأخرى عدة آلاف من المصاحف، بحسب موقع لا لأسلمة أوروبا باللغة البولندية نقلا عن راديو wnet.fm في يوليو الماضي، قال الراديو إنها ربما استخدمت في التوزيع "كمنشورات في شوارع بولندا للبدء بالعمل على التبشير الإسلامي"!
- الإجراءات السالفة الذكر يحظرها القانون البولندي لاعتبارها تتعارض مع حرية التعبير والعقيدة والرأي، كما أن التحريض على الإسلام ونبيه صلى الله عليه وسلم يحظرها قانون الإذاعة البولندي، والذي ينص على أنه "يجب أن لا يحتوي التحريض على الكراهية أو التمييز على أساس العرق أو الدين أو الجنسية"، وكما تقدم؛ فإن التظاهرات التي تدعو إلى الكراهية وتغليب القومية على الوطنية والمناهضة للتعايش بين أطياف المجتمع البولندي محظورة، والتورط في أنشطة تحريضية كهذه يستوجب محاكمة قد تفضي إلى السجن عامين وفقاً للقانون البولندي.. لكن كل هذا بسبيل التحريض على الإسلام وأهله قد ضُرب به عرض الحائط.
إن ما تقدم ليس استثناءات اعتباطية؛ فالأصل واضح، ويعززه شهادة الشيخ يوسف شديد إمام ومدير المركز الإسلامي الثقافي التعليمي في مدينة بوزنان الكبيرة، رئيس الرابطة الإسلامية في بولندا، في حوار مع موقع بولندا بالعربي، حيث قال: إن "الإعلام الحكومي البولندي له دور في نشر هذه الأفكار الخبيثة وغسل دماغ المجتمع ومن ثم توجيهه إلى الكراهية والعنف تجاه المسلمين؛ فلا يكاد يمر يوماً بدون الطعن في الإسلام والمسلمين في الإعلام رغم أن المسلمين لا يشكلون أكثر من 0.06 % من المجتمع البولندي! ومن الضروري أن نعلم بأن هذه الحوادث تزداد يوماً على يوم وبشكل مخيف. مثلاً لا مجال للمرأة المسلمة التي تلبس الحجاب أو كل من لون بشرته يوحي بأنه مسلم أن يمشي بدون مضايقات في الشارع وهذا كله بحسب ما أسمعه من قصص عندما ألتقي بالجالية المسلمة في مختلف أنحاء بولندا وكذلك بحسب ما يقال في بعض وسائل الإعلام البولندية".
وليس غريباً على بولندا التي تحتل المرتبة الثانية بنسبة 56% بعد إيطاليا كأكثر الشعوب رفضاً للأجانب وفقاً لمركز "بيو" للأبحاث (أمريكي). (المصادر غير الرسمية "التترية" تقدر عدد المسلمين في بولندا بنحو 35 ألفاً من أصل 38 مليون بولندي بما نسبته 0.092% وهي نسبة ضئيلة جداً يستغرب أن تجلب كل هذا العداء لاسيما أن أيا منها لم يمارس أي أعمال عنف وإرهاب)
تحريض الإعلام، تراخي السلطة، تشجيع الأجهزة الأمنية، توجيه الكنيسة البولندية، كلها عوامل زادت من فرص ترصد اليمين المتطرف للمسلمين في بولندا، ولربما لصغر حجم الجالية المسلمة في بولندا لا يثير ذلك اهتماماً يذكر لدى المسلمين عموماً، ونخبتهم المثقفة خصوصاً، لاسيما مع تفجر أنهار الدم المسلم في كثير من البقاع المسلمة حول العالم، لكن بأي حالٍ فالنموذج الذي عُرض هنا يستأهل النظر إليه وتأمله، كونه نسخة يمكن تكرارها في كثير من بلدان أوروبا، فحين تتبدى الصورة واضحة في بولندا لتأثير التحريض الإعلامي والتجيير السياسي والحشد الشعبوي؛ فإن أثر الاضطهاد والتهميش يمكن توقعه حتى في أكثر دول أوروبا "تسامحاً" وحرية.
لا مبالغة أبداً إن قيل بأن مجرد عدم تمكن مسلمة من المرور بسلام في طرقات وارسو ما دامت هي محجبة هو إشعار باللون البرتقالي بأن محاكم التفتيش في أوروبا ليست بعيدة عن تقديراتنا. إن مصادرة نسخ القرآن لا تبعد كثيراً عن حرق المصاحف في القرون الوسطى وكتب العلم والحضارة الإسلامية. مظاهرة وارسو هذه تبعث الكثير من إشارات القلق على مصائر مسلمي أوروبا الذين ربما لا يشعرون اليوم سوى بإرهاصات مبعثرة، لكنها توشك أن تتراص لتجسد الإشكالية الكبرى لأكثر من عشرين مليون مسلم يقيمون في أوروبا الآن.