أنت هنا

مناهجنـا أين الخلل ؟
20 رجب 1424
الشيخ فهد العيبان

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد:
فالعلم والتعليم والتربية ضرورة شرعية أوجبها الشرع، وحث عليها، ودعا إليها، وحذر من تركها والإعراض عنها.
يقول _تعالى_ آمراً نبيه _صلى الله عليه وسلم_: "فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ" (محمد: من الآية19).
"قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ" (الزمر: من الآية9)، "وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً" (طـه: من الآية114).
وهذا المنهج الرباني في الدعوة إلى العلم والتعلم هو الذي سلكته أمة الإسلام، فليس هناك أمة من الأمم نظرت إلى العلم نظرة احترام وتقدير وتبجيل كما فعلت هذه الأمة في أيام حضارتها الزاهية، فهو عندها من أعظم القربات إلى الله _تعالى_.
بل إن الأمة المسلمة لا تعرف حداً للتوقف عن العلم والتعلم إلا الموت، سئل عبد الله بن المبارك _رحمه الله_ إلى متى تكتب الحديث؟ فقال: "لعل الكلمة التي أنتفع بها لم أسمعها بعد"، وقيل للإمام أحمد _رحمه الله_ إلى متى يكتب الرجل الحديث؟ فقال للسائل: حتى يموت.
إنه ما من أحد عاقل على وجه الأرض إلا وهو يعلم يقيناً أن العلم والتعلم هو سبب صلاح الإنسان، وأنه لا تستقيم حاله إلا بالتعلم،
ولكن السؤال الذي يجب أن يطرحه كل عاقل، هو: لماذا أتعلم؟ وكيف يكون التعليم إيجابياً نافعاً يحقق الأهداف التي من أجلها يتعلم الإنسان؟
إن الحقيقة الربانية التي دلنا عليها كتاب ربنا، هي: أن العلم الذي آتاه الله لآدم وذريته إنما هو لعمارة الدنيا والآخرة، عمارة الدنيا بالسعي في مناكبها وتحصيل الرزق فيها، وعمارة الآخرة بإقامة توحيده وتحقيق العبودية له _سبحانه_.
وهذه الحقيقة الواضحة والمستفيضة في كتاب ربنا وسنة رسوله _صلى الله عليه وسلم_ قد غفل عنها أكثر أهل الأرض اليوم.
فالناس إما منكبون على العلم والتعلم لعمارة الأرض فقط فأعرضوا عن الآخرة، وهؤلاء قد ذمهم الله في كتابه "أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ" (الروم:9).
وصنف آخر من الناس أقبل على التعبد والتنسك وغفل عن طلب رزقه والسعي في الأرض، فأصبح عالة على عدوه ضعيفاً حقيراً لا يقوى من أمره على شيء فلم يحصل له التمكين في الأرض ولا الحكم بشريعة رب العالمين، وهذا الصنف كذلك قد خالف منهج الله "وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا" (القصص: من الآية77)، "هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا" (هود: من الآية61).
إن أمة الإسلام قد أكرمها الله بالوحي الذي دلها على الهداية ورسم لها أهدافها الكبرى التي ينبغي أن تسعى إلى تحقيقها.
ولكنها اليوم انصرفت عن منهج ربها وأخذت في السعي خلف الأمم الضالة تنهج نهجها وتقتفي أثرها، مغترة بما عليه تلك الأمم من بهرج الحياة الدنيا، وإلا لو أمعنت أمتنا النظر لعلمت أن الغرب ليس هو قدوتها في العلم والتعلم.
قد نقول: إن العالم الغربي استطاع أن يتقدم في العلم التجريبي، وأن يبلغ في ذلك ما لم تبلغه البشرية من قبل، واستطاع أيضاً أن يصنع الطائرة والقنبلة والدبابة، واستطاع أن يصنع الرفاهية في أعلى صورها، لكن مع ذلك كله قد فشل هذا العالم الغربي في أن يصنع إنساناً متزناً في أخلاقه وفطرته، فشل في أن يعي حقيقة وجوده وغاية العلم الذي يطلبه ويسعى إليه، ففر هذا العالم الغربي من أمية القراءة والكتابة ونجح في ذلك، لكنه سقط في أمية الجهل برسالة الإنسان وغاية وجوده، حيث جعل العلم والتعلم في إطار مادي صرف بعيد كل البعد عن فطرة الإنسان وحاجته إلى عبادة ربه وعمارة روحه والتعلق بالغاية الكبرى، وهي: الوصول إلى رضا الله وجنته.
فكانت النتيجة لهذا التقدم الغربي المادي مروعة ومخيفة، ويكفي في ذلك أن ننظر نظرة خاطفة إلى عالمنا المعاصر وما اقترفه الإنسان المتعلم الذي كانت غايته المادة فلا يبالي في سبيل تحصيلها بملايين القتلى وعشرات المجازر وما لا يحصى من المشردين والجوعى، وأما الظلم والخداع واحتلال خيرات الضعفاء فحدث ولا حرج،
أضف إلى ذلك السيل الجارف من التحلل الأخلاقي والسلوك المنحرف للإنسانية في الغرب خمور ومخدرات وقتل واغتصاب ودعارة وشذوذ وضياع وحيرة واكتئاب وأنانية وقسوة وأمراض نفسية ثم جنون وانتحار.
وهذا كله وصلت إليه البشرية المعاصرة، وبالأخص في الغرب؛ لأن العلم والتعلم أصبح خلواً من الأخلاق والقيم، وخلواً من تربية الروح بتعاليم الخالق _جل جلاله_، فنمت القدرات المادية لكن خرج الإنسان بذلك عن فطرته التي فطره الله عليها.
وأمة الإسلام اليوم حينما حادت عن منهج ربها تطلب ما عند الأمم المنحرفة أضاعت طريقها فلا هي وصلت إلى زخرف الحياة الدنيا وعمارتها ولا هي تمسكت بدينها وتراثها وقيمها.
إن مما لا بد منه أن تنظر الأمة اليوم بعين العقل والحكمة إلى بعض القضايا المهمة حتى يكون تعليمها لأبنائها إيجابياً نافعاً؛ إذ لا بد للأمة أن تعود إلى ما كانت عليه، إلى هدي ربها وسنة رسوله_صلى الله عليه وسلم_ حتى تعلم الغاية من العلم، وحتى تتربى على كيفية عمارة الأرض وعمارة الروح معاً.
إن الأمة حينما تعود إلى منهاج ربها ستعلم أن الانتفاع بما عند الأمم من العلوم التقنية والتجريبية واجب شرعي كفائي حتى يحصل لها الاستغناء عن عدوها والبعد عن تبعيته، وستعلم حينها أيضاً أن الانتفاع بهذه العلوم لا تعارض القيام بواجب العبودية لله وتحكيم شرعه وطاعة رسوله والتخلق بأخلاقه_صلى الله عليه وسلم_.
لذا فحتى يكون تعليمنا إيجابياً لا بد أن تكون مناهجنا وطريقة تعلمنا محققة لأهداف الأمة التي علمها لها ربها حتى يحصل للأمة الإعزاز والنصر والتمكين في الأرض؛ اقتصادياً، وسياسياً، وعسكرياً.
وحينما تكون الأهداف الشرعية للأمة غائبةً في مناهج التعليم وأساسيات التعلم فإن الأمة لن تصل إلى ما تصبوا إليه وستبقى في ذيل الأمم تابعة مهينة.
وحتى يكون تعليمنا إيجابياً نافعاً أيضاً لا بد أن تكون مناهج التعليم مرسخة لثوابتنا العقدية والأخلاقية والتاريخية، بحيث تظهر فيها هوية الأمة المسلمة واضحةً جلية لا لبس فيها، وهذا حق بدهي تمارسه كل الأمم اليوم، فالغرب في مناهجه يؤكد على ثوابته وسلوكياته وثقافته وتراثه، وهكذا كل أمة وشعب، فاليهود يمارسون هذا الحق، وكذا الأمريكيون الصينيون وسائر أمم الأرض.
فما بالنا اليوم يُستكثر علينا - نحن المسلمين - أن نمارس حقنا في مناهجنا بأن نرسخ فيها ثوابتنا ومعتقداتنا، بينما يُغض الطرف عن سائر الأمم والشعوب.
وحتى يكون تعليمنا إيجابياً أيضاً لا بد أن نعتني بلغة أمتنا لغة القرآن، فالأمة التي تستعير لغة غيرها لتتعلم بها أو لتعلمها أطفالها في سن مبكرة لن تُخرّج إلا جيلاً مشوهاً تابعاً لا ينتمي إلى أمته ولن ينصرها أو ينصر قضاياها أو يحرر أرضها المغتصبة.
ولقد عرف الناس مغبة من أخذ العلم بغير لغة أمته منذ القِدَم فشاع فيهم حكمة يرددونها: إن التعليم باللغات الأخرى ينقل بعض الأفراد إلى العلم، ولكن التعليم بلغة الأمة ينقل كل العلم إلى الأمة.
وحتى يكون تعليمنا نافعاً كذلك لا بد أن نقرن العلم بالعمل، وأن نقرن العلم بالتربية.
روى الحاكم والبيهقي عن عبد الله بن عمر _رضي الله عنهما_ قال: "لقد عشنا برهة من الدهر وإن أحدنا يؤتى الإيمانُ قبل القرآن، وتنزل السورة فيتعلم حلالها وحرامها وأوامرها وزواجرها وما ينبغي أن يقف عنده منها، ولقد رأيت رجالاً يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان، فيقرأ ما بين فاتحة الكتاب إلى خاتمته لا يدري ما أمره وما زاجره وما ينبغي أن يقف عنده، ينثره نثر الدقل".
لقد كان السلف _رضوان الله عليهم_ يعتنون بهذه القضية غاية الاعتناء، فالعلم عندهم ليس بكثرة المحفوظ ولا بكثرة المقروء إنما العلم عندهم ما قارنه العمل وإلا فلا خير فيه.
قال ابن مسعود _رضي الله عنه_: "ليس العلم بكثرة الرواية إنما العلم خشية الله".
وقال مالك _رحمه الله_: "العلم والحكمة نور يهدي به الله من يشاء وليس بكثرة المسائل".
وقال أيضاً: "إن حقاً على من طلب العلم أن يكون له وقار وسكينة وخشية، وأن يكون متبعاً لأثر من مضى قبله".
وقيل لبعض السلف: من أفقه أهل المدينة؟ قال: "أتقاهم لربه".
كم نعاني اليوم من الانفصام النكد بين ما يتعلمه الطالب في المدرسة وبين ما يمارسه من سلوك خارجها.
فمناهجنا تعج بكم هائل من تعاليم الإسلام وأخلاقياته وآدابه، يتعلمها الطالب ست عشرة سنة، لكن لا تلاحظ لها أثراً في سلوكيات أبنائنا وأخلاقياتهم، والسبب أن المجتمع منفصل عن هذه التعاليم بعيد عن تطبيقها إلا القليل.
فالطالب يتعلم في الصباح وينقض ما تعلمه في المساء، من خلال وسائل الإعلام والشارع والبيت والسوق، فالكذب حرام في المدرسة حلال في البيت والسوق، الغناء حرام في المدرسة حلال في وسائل الإعلام، الاختلاط والتبرج مخالف لشريعة الإسلام، طبعي في الأفلام والمسلسلات، وهكذا في كثير مما يتعلم الأبناء والبنات، تناقضات ومعارضات ومعكوسات تقلب الفطرة السليمة وتحولها إلى نفسية عبثية شهوانية لا تعبأ بالآداب والسلوك والأخلاق السوية،
وحتى يكون تعليمنا ناجحاً لا بد أن يعتني التعليم بالخصوصية للمرأة "فليس الذكر كالأنثى" فللمرأة ما تحتاجه من علوم ومعارف تناسب أنوثتها وجبلتها، وللرجل كذلك ما يناسبه ويشتركان في أمور أخرى، ولذا جاءت نصوص شرعية كثيرة موجهة بخطاب خاص للمرأة يناسب فطرتها وأنوثتها، يأمرها وينهاها ويؤدبها بما يتناسب وطبيعتها.
أما هدر حق المرأة في أن تتعلم ما يناسبها، وإقحامها ميادين الرجال، فهذا معارض للفطرة وللشرع ولن ينتج عنه إلا ما نتج عند تلك الأمم المنحرفة التي ضيعت فيها المرأة أنوثتها، وأخذت تصرخ اليوم تطالب بأن تعود إلى بيتها وطبيعتها وما خلقت له.
وحتى يكون تعليمنا نافعاً، لا بد أن تكون هناك قدوة حسنة من المربين المعلمين، فإن الطالب لا يتربى على يد المربي من خلال الدروس فقط، بل يأخذ عنه سلوكه وأخلاقياته وحركاته، بل حتى طريقته في الكلام والمشي.
فأين هذه الشخصية المتزنة الطيبة القدوة في الخير الآمرة بالمعروف الناهية عن المنكر؟ أين المربي الذي يضع مخافة الله نصب عينيه حاملاً هذه الأمانة محباً لها عارفاً بصعوباتها غير متهرب عن تحملها والقيام بأعبائها؟
إن من أخطر الأمور في عملية التربية والتعليم أن تكون مهنة المعلم مادية بحتة يؤدي من خلالها وظيفة روتينية لينال أجراً مادياً فقط دونما استشعار للمسؤولية وللأمانة في تربية شباب الأمة وصغارها.
لذا فإنه يجب على كل واحد منا أن يتحمل مسؤولية التعليم، فالمسؤول عن عملية التعليم عليه واجب مراعاة ثوابت الأمة وتحقيق أهدافها من خلال وضع المناهج التعليمية السليمة، والمتابعة والتجديد في الوسائل التي تحقق هذه الأهداف، والبعد عن العشوائية في الإصلاح وتقوى الله في كل ما يأتي ويذر، فتعليم أبناء الأمة وتربيتهم أمانة وأي أمانة.
وعلى المعلم كذلك مسؤولية كبرى، فعليه أن يحتذي حذو المعلم الأول _صلى الله عليه وسلم_ وأن يقتفي أثره في تخريج جيل يحمل هَمّ هذه الأمة ويذود عنها، ويكون قدوة صالحة في مجتمعه.
وعلى الأهل مسؤولية كبرى كذلك في تصحيح مفهوم التعليم عند الأبناء والبنات.
إنه للأسف قد رسّخ كثير منا مفهوماً مغلوطاً للتعليم في أذهان الأبناء، فكثير من الناس مفهومه للتعلم والتعليم أنه نوع من الرفاهية، أو مظهر من مظاهر الوجاهة، أو لتحصيل متاع دنيوي، بينما غابت عن أذهان أبنائنا مفاهيم سامية للعلم والتعلم، حيث غاب عنهم أن العلم أولاً هو غاية لتحقيق العبودية لله رب العالمين بكل ما تعنيه معاني العبودية في مجال الاعتقاد والعبادات والسلوك والأخلاق.
وغاب عنهم كذلك أن العلم لتحقيق التمكين لهذه الأمة وسيادتها للأمم، إلى غير ذلك من المفاهيم الأخرى الغائبة، فلو سألت طالباً اليوم عن سبب تعلمه لكان الجواب واحداً هو للحصول على الوظيفة، وتحقيق متع دنيوية فقط.

وختاماً:
نقول: إن من المهم أن نعتني بهذه الركائز في مجال التعليم وغيرها مما لم يُذكر حتى يكون تعليمنا ناجحاً محققاً للأهداف التي تصبوا إليها كل أمة.
إذ من العبث أن يُحصر نجاح التعليم أو فشله أو عدم تحقيقه لأهدافه في قضايا صغيرة تافهة كتعليم اللغة الإنجليزية أو ضخامة الدروس الدينية واللغوية، أو ضرورة خلط الجنسين في المراحل الأولية، بينما تُغيّب الأمة عن الأسباب الحقيقية لنجاح أو فشل التعليم.
ومن المؤسف أن يطنطن غير المتخصصين عبر وسائل الإعلام في كل صغيرة وكبيرة من قضايا التربية والتعليم دونما عقل أو علم أو حتى خبرة، وإنما رائدهم في ذلك التقليد والمحاكاة للأمم من حولنا أما التجديد والابتكار والوقوف على الأسباب الحقيقية فهم أبعد ما يكونون عن ذلك.
فنسأل الله أن يقيض لهذه الأمة أمراً رشداً تحفظُ به دينها وتسلكُ طريق نبيها وتنتصر به على عدوها إنه جواد كريم.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.