ثانياً: مقترحات للمرحلة القادمة:
مما يزيد الأزمة تفاقماً أنها تأتي في طور تبدلات وتحولات جوهرية في مسيرة البلد، يتم فرضها والترويج لها بشكل سافر في ظل ما يسمى بـ"الحرب على الإرهاب". هذه الحرب الفضفاضة والمليئة بالغموض والمفاجآت، قد أتاحت للبلد فرصة التحول من تهمة دعم الإرهاب – التي أشاعها الحليف الأمريكي بغرض المساومة والضغط السياسي – إلى أن يكون ضحية له، كما أتاحت له فتح وتفعيل العديد من الملفات والأجندات المعلقة لسنين طويلة دون حسم.
فبسبب تورط المجموعات المسلحة في الأوساط الإسلامية المحلية، بشكل مباشر أو غير مباشر، تبدو البلد مؤخراً وكأنها تشكك في أوضاعها السابقة وتتراجع عن بعضها، وعلى هذا الأساس انطلقت موجات تطوير الخطاب الديني ومحاربة أحادية الرأي وتغيير مناهج التعليم وإشاعة روح المحبة والتسامح والترويج لثقافة الحياة بدل ثقافة الموت وللمنهج الجلي بدل المنهج الخفي وبلورة استراتيجية ثقافية وطنية جديدة(...!!). في ظل كل هذه الشعارات البراقة الخدّاعة يتم اليوم إلقاء اللائمة في ذلك كله – جزافاً– على التشدد الديني الذي "ابتدعته" الدعوة الإسلامية المعاصرة وجلبته إلينا من الخارج(...!!)، كما يتردد بشكل ممجوج في وسائل الإعلام المحلية، فيدخل البلد بذلك في طور جديد، يجد فيه العديد من المتربصين السابقين فرصة للتصريح والمطالبة العلنية بالتعددية المذهبية والفكرية والثقافية وبالحرية الاجتماعية.
واللافت للنظر في كل هذه التحولات والشعارات، أنها تقتصر على مراجعة واسعة وشاملة للصبغة الدينية للبلد، وتحويلها من التشدد إلى التيسير والتسامح ومن الأحادية إلى التعدد، في نفس الوقت الذي يحرم فيه ويجرم أي مخالفة أو أي تعددية في الرأي حول أداء أو قرارات وخطوات الحكومة، وهذا تعسف واختزال وانفعال في التعامل مع البعد الديني لأي مجتمعٍ كان، وفي هذه البلد تحديداً، ولا يمكن أن تأتي الحلول المتعجلة والمفروضة قسراً في المسألة الدينية إلا بنتائج عكسية، حتى وإن كان صاحب القرار مقتنعاً بخطأ و تشدد الأحوال الدينية السابقة وحاجتها للتغيير، وحاجته هو للتوقف عن مجاملة هذه الأحوال.
فمعالجة بذور التطرف والغلو لا تأتي من خلال لعبة التوازنات السياسية المعروفة، ولا عبر تقليص نفوذ وفرص الأغلبية بتوسيع فرص الأقليات ، وخصوصاً إذا كانت هذه التحولات التعددية والانفتاح الاجتماعي يأتيان بصورة مفاجئة، وفي ظل استمرار للتشدد والانغلاق السياسي.
كل ما سبق يزيد من فداحة الأزمة الدعوية الإصلاحية، ويضاعف من مسؤولياتها ومن التحديات في طريقها، ويفرض عليها السعي الحثيث نحو تغيير حقيقي ونوعي، وفيما يلي أفكار مقترحة لشيءٍ من ذلك التغيير المطلوب.
1. توسيع دائرة الكفاءات القيادية المتخصصة:
لا بد من إشراك وتفعيل أكبر عدد ممكن من الكفاءات القيادية في كافة التخصصات، وإشعارهم بالأهمية والتواصل معهم والاستماع لآرائهم ومقترحاتهم وانتقاداتهم، وحشد جهودهم جميعاً للمطالبة بالعودة إلى الرؤية الإسلامية الصحيحة والصافية والمتضمنة للعدل والحق والهدى، والبعيدة عن الهوى والمصالح الآنية الضيقة، والتعامل في ذلك مع كل من يلتقي مع هذه التطلعات أياً كان موقعه وخلفيته، بشرط أن يتم الفصل بين دوائر اهتماماتها وقدراتها والتأكيد على عدم التداخل بينها حرصاً على فاعليتها والتناغم بينها.
ويمكن على سبيل المثال تقسيمها للدوائر الثلاث التالية:
· كفاءات علمية تربوية: تتابع العمل التربوي الدعوي، بقسميه: التعليمي الذي يعنى بتربية الطلاب في المراحل التعليمية العامة، ويقتصر العاملون فيه على المدرسين والمرشدين، وينبغي أن يكون رسمياً وببرامج معلنة، وقسمه الوعظي الذي يعنى بالدعوة التوجيهية لعامة الناس، ويرتكز على أئمة المساجد والدعاة والخطباء وهو في واقعه ظاهر ومكشوف، لكن بشرط أن يتحول جوهر هذه العملية من الإصلاح الفردي المجرد ومن الإحاطة الوجدانية والنفسية ببيئة الرفقة الصالحة المحدودة، إلى الإعداد الحقيقي للنفسية المؤمنة عن يقين وقناعة راسخة، وللعقلية المفكرة والمبدعة والباحثة عن الحق والمناضلة من أجله أمام الجميع، والمتهيأة لذلك بالثقافة الإسلامية المتزنة وبالوسطية الحقة لا المدّعاة، وأن يحرص الجميع على إطلاق روح جديدة للدعوة تتمحور حول قيمة الإنسان وكرامته واحترام حقوقه وتحريره من كل القيود والحدود إلا من تلك التي شرعها الله _تبارك وتعالى_ وقضى بها.. وبشرط ألا تتهور هذه الكرامة وتلك الحرية فتتعدى على كرامة الآخرين دون وجه حق، وألا تتعدى وتتجاوز حدود الله وأحكام شرعه القويم خصوصاً في التعامل مع الخلق، كما يفترض أيضاً بهذه الروح الجديدة أن تصرّح وتفاخر بوجودها وتعلن وتنشر برامجها.
· كفاءات العمل المؤسسي المدني، والتي ينبغي أن تشمل جميع الكفاءات المتخصصة المتبنّية للرؤية الإسلامية الصحيحة والمتفاعلة معها في عموم الأجهزة الحكومية المختلفة، وفي كافة المؤسسات الأهلية المحلية في المجالات الإعلامية والاجتماعية التأهيلية والاقتصادية والخدماتية والمهنية، ويعمل الجميع على تشكيل ما يمكن لنا تسميته بطبقة "التكنوقراط" الإسلاميين، والمطالبة الحثيثة تبعاً لذلك بتنمية ومساندة ودعم رؤيتهم الإسلامية وتوسيع دائرة تطبيقاتها المتنوعة ومعالجة العوائق والتحفظات التي تعترضها، ومزاحمة الأنماط والسلوكيات المعارضة لها ومدافعة مصالح الملأ المنتفعين بمخالفتها، ولهم أن يتحركوا على أساس أن رسالتهم ورؤيتهم التي ينطلقون منها هي الأصل في هذا البلد وعلى هذه الأرض المباركة، فلا يمكن أن يتخلوا عنها وعن مسؤوليتهم تجاهها خوفاً من نفوذ ومصالح وأهواء بعض المعرضين عنها والمنخدعين بما لدى أعدائها.
· كفاءات العمل السياسي: وهذه ينبغي أن تنتقى بعناية فائقة من بين المهتمين بالشأن العام في أوساط المتبنين للرؤية الإسلامية الصحيحة وحلولها المطروحة لمواجهة الأزمات التي أثقلت كاهل البلد وأربكت مسيرته، ولندرة هذه الطبقة في الأوساط الإسلامية ولقلة خبرتها يفترض بأصحاب القرار الدعوي أن يبحثوا بأسرع وقت عن الوسيلة الأفضل لتأهيلها وإعدادها، والإفادة في ذلك من دورات التدريب المعاصرة لمهارات العمل السياسي والجماهيري، ثم تكلف بمهمة التفاعلات والتداولات السياسية المختلفة المعبرة عن موقف الرؤية الإسلامية بصورة ناضجة ومتعقلة ومقنعة، وغير متنازلة في نفس الوقت.
وهذه الدوائر ينبغي أن تعمل باستقلال تام عن بعضها البعض، لكن مع التعاون والتكاتف وبالتنسيق والدعم المتبادل، فلا يفتات أحد على أحد ولا يستغني أحد عن أحد، فمخرجات الدائرة التربوية يعتمد عليها الجميع، وأنشطة وبرامج دائرة التكنوقراط يستفيد منها الجميع، ومواقف دائرة السياسيين يتكأ عليها الجميع. وبالمفهوم الاقتصادي، يمكن لنا التمثيل بالحاجة – في المشروع الدعوي الإصلاحي – لوجود شركة قابضة تضم عدة شركات مستقلة ذاتياً ومتناغمة في ظل الشركة القابضة، بدلاً من شركة العائلة الواحدة ذات الأنشطة المتعددة والمكبلة لحيوية قرارها بسبب مركزية واختلافات العائلة.
2. حسم الموقف من المشاركات السياسية:
أهمية حسم هذه القضية ليست مرتبطة – فقط – باحتمالات توسيع المشاركة فيما يأتي من المراحل السياسية للبلد، ولكن – من باب أولى– بالحاجة الواقعية المّاسة للخروج برؤية عملية واضحة حول القضايا السياسية المختلفة والاجتهادات المتباينة في الساحة الدعوية الإصلاحية فيما يتعلق بالخيارات الأسلم للتعامل مع تغيرات وتحولات البلد الأخيرة، ولئن كانت التخطئة واسعة لنهج التيار "الجهادي" في تعامله مع أوضاع البلد السياسية والأمنية، فإن التردد ظاهر كذلك في نهج التواصل مع الواقع السياسي الرسمي والعمل من خلاله، وإن كان هذا الأخير بدأ يحظى بالاتساع مع الاكتشافات "المتأخرة" لنفوذ هذا الواقع وتمكنه.
وعلى هذا فالمنتظر من الطرف الأكثر انتشاراً في الأوساط الدعوية والمتمسك بترفعه عن الواقع السياسي الرسمي وبتحفظه على تجاوزاته، أن يقدم النموذج العملي الفعلي للاعتدال الشرعي الذي يتطلع إليه في التعامل السياسي مع هذا الواقع، وليقدم بشكل ملموس محسوس وليس بتنظيرات مثالية، القدر الممكن من التفاعلات السياسية البعيدة عن التفريط أوالإفراط اللذين يحذر منهما، والخالية من التكالب المخجل على التواصل الرسمي ومن الإعراض الجافي عنه المؤدي لتفرد الخصوم والنفعيين به، فالإعراض السلبي في هذه المسائل لا يخدم قضية ولا يقيم حجة، والتذرع بالحذر من الانعكاسات والمآلات هو في حقيقته دليل على العجز أو نقص روح المبادرة، ويمنع من استصلاح ما يمكن إصلاحه ودفع ما يمكن دفعه ميدانياً في هذا الواقع السياسي.
فمن المفترض أن نحسن استثمار هذه المرحلة وما فيها من فرص، وألا نستمر في دوامة الأخطاء المتراكمة، بل ننتقل نحو مرحلة المبادرات المدروسة والمتزنة، والمهيأة لتحمل كل التبعات المحتملة، وذلك بإقناع صاحب القرار السياسي(...)، وفرض الخيارات الشرعية والوطنية الحقة عليه – البعيدة عن خيارات وطموحات المنتفعين من حوله – وحشد التأييد الشعبي لهذه الخيارات الشرعية، ويمكن تحقيق شيء من ذلك بتوظيف تهورات الطابور الأمريكي في البلد والتي بدأت مؤشرات التذمر الرسمي منها تتزايد، ومن خلال تفعيل وترشيد مواقف الغالبية المحافظة في المجتمع وإخراجها من السلبية القاتلة أومن التهور المربك.
ومن المهم لتحصيل ذلك ألا يجد المغرضون – في المبادرات والخطوات المطلوبة – مستنداً لتهمة الافتئات على الحاكم أو نزع عصا الطاعة ولا لتهمة تفكيك الوحدة الوطنية، بل تكون بالاحترام الواجب لمنصب السلطة وبالوسائل المقبولة شرعاً وواقعاً سياسياً عالمياً، وألا تثير التوجس من احتمالية منازعة الامتيازات التي تكونت في تاريخ البلد – كما في غيره من سائر البلاد – فهذا في الأصل ليس هدفاً للرسالة الدعوية، ما كانت هذه الامتيازات مقبولة عرفاً ولا تخالف شرعاً راسخاً ولا تهدر حقاً إنسانياً، إذ إن هدف الرسالة الدعوية ينبغي أن يكون إقامة العدل والقسط والشهادة بالحق ولو على النفس، وليس منازعة الخلق في حظوظهم الدنيوية.
3. إعلان الموقف من الأوضاع القضائية والقانونية والإدارية:
يضج واقع الناس بالعديد من المآسي والمظالم التي لا يجدون سبيلاً لرفعها في ظل الأوضاع القائمة في المحاكم والإدارات المختلفة ذات العلاقة، وكان من سياسة الأوساط الدعوية العلمية الإعراض عن تناول هذه الأوضاع بالحديث أو النقد المباشر، ربما لما تمثله من خلفية شرعية وقضائية، لكن مع التغيرات والتحولات العديدة المحيطة بنا، سيكون من الضروري إعادة النظر بهذه السياسة، والتصريح بالتحفظات الموجودة على هذه الأوضاع سواءً كانت لعوائق إدارية وإجرائية أو لأخطاءٍ علمية وتطبيقية، ولا بد من حماية حقوق الناس، ورفع الظلم عنهم، وتسهيل حصولهم على حق الشكوى، ورفع الدعاوى، والدفاع عنهم المكفول لهم وحقهم في المحاكمات العادلة، وتحصيل الحق الذي لهم أو رفع الظلم الواقع عليهم، وتفعيل إجراءات إحظار الخصوم وإيقاع العقوبات، وواقع هيئات الادعاء والتحقيق ومحاكم القضاء واللجان ذات العلاقة، الإداري والإجرائي لا يضمن تحقيق هذه المتطلبات الشرعية والعالمية، وإعلان الموقف الواضح والرؤية التفصيلية في هذا الخصوص، هو الخيار الأصوب للمرحلة القادمة.
كما أن مظاهر الفساد الإداري والمالي في بقية القطاعات لا تخفى، ومن المفترض في المشروع الإصلاحي المتكامل أن يكون له خطواته العملية في محاربة ذلك، وفي تفعيل وتوسيع جهود الشخصيات النزيهة المتألمة من هذا الواقع.
4. مراجعة الأدوار القيادية:
بمعنى أن يتفهم الجميع أن هذه المرحلة من تاريخ الدعوة وواقع العصر، تجعل من الصعوبة الوصول إلى قيادة فردية جامعة يذعن لها الآخرون، ولن يحصل هذا والله أعلم من القريبين لهذه الشخصية فضلاً عن البعيدين، ومن هنا فلا بد من جماعية الإدارة وفي هذا الخير الكثير للدعوة _بإذن الله_.
لكن لا بد من مراجعة كل الأدوار القيادية القائمة في الساحة الدعوية، وهل معايير الوصول إليها والبقاء فيها تاريخية أم استحقاقية؟ هل هي احتكارية أم تداولية؟ وهل هي إشرافية أم تنفيذية؟ وما هي آليات اختيار هذه القيادة العلمية أو السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية دون غيرها، لهذا الدور دون ذاك؟ وهل التأهيل العلمي الشرعي هو المطلوب فقط لشغل هذه الأدوار أم المطلوب أن نبحث عن البارزين في كل التخصصات؟ ومن الذين يحق لهم الترشح، ومن الذين يحق لهم التصويت والانتخاب؟ كل هذه الأسئلة يتم طرحها الآن على المدى الأوسع مع افتضاح واقع مؤسسات الحكم السياسية في المنطقة، والمفترض في الأوساط الدعوية أن تكون سبّاقة في حسم هذه القضايا وتقديم النموذج العملي الذي ترتضيه في هذا الإطار، قبل أن تفجأها التغيرات المتوقعة، ولا بد أن تدرك القيادات أن المرحلة الآن تقتضي مشاركة الناس في إدارة وصياغة واقعهم، وتفهم حاجتهم للتفاعل معهم وتسيير شؤونهم من الداخل وعلى أرض الواقع، ولا يمكن أن يتحقق ذلك فقط بالدروس النظرية والمؤلفات.
5. مراجعة آليات صناعة القرار:
من المهم أن تتوسع دائرة دراسة وصناعة القرارات الدعوية الهامة، وأن تشترك فيها كل الشخصيات ذات الدور والحضور والتأثير وأن يتم الإفادة من الجميع وألا يشعر أحد بالتهميش في هذا الإطار، وبمنظور الشركة القابضة الممثل لها سابقاً، سيكون من الطبيعي احتياجها لجمعية عمومية تتابع التطورات ومن خلالها يتم نقاش القضايا المختلفة بطريقة علمية مقنعة للجميع ويطرح فيها بدائل الحلول المختلفة لقضايا الشأن العام، وبإمكان هذه الجمعية العمومية أن توجد وتؤتي غرضها بصورة افتراضية وغير مباشرة، عبر منتديات الحوار والملتقيات المتنوعة ومراكز البحث العلمي الرصين ومجلاتها التي تصدر عنها. هذا النوع من المؤسسات ينبغي أن نسعى لإيجادها وصناعة الاحترام والتقدير لها، علّها تسهم في بلورة التصورات وتحديد الخيارات ثم صناعة المواقف بطريقة أصوب وأحكم وتوجيه الساحة نحوها، وتفعيل كل البرامج والطاقات وتنسيق الجهود بينها،
ويكون الترجيح بينها علمياً للخروج بالأصوب من بينها حسب الاجتهاد، وعند الضرورة الخروج بعدة قرارات في الموضوع الواحد يحترم فيه كل طرف اجتهاد الآخر المؤهل للاجتهاد وإن كان لا يتفق معه في هذه المسألة الاجتهادية.
6. وحدة المبدأ وتعدد الاجتهادات:
وتحقيق هذا المطلب الملح – بالصورة السابقة أو بغيرها من الصور– سيساعد على حسم التباينات التي لا يمكن التخلص منها في الظروف الحالية، وذلك من خلال تفهم هذه التباينات ودوافع أصحابها وحججهم والاعتراف لهم بحقهم في الاجتهاد واحترام علمهم وسابقتهم، ومطالبتهم بتقبل اختلاف الآخرين معهم، ومع انطلاق الجميع من وحدة المبدأ واحترام تعدد الاجتهادات، لا بد من إعلان وجود هذا الخلاف العلمي للناس وأن كل طرف يحترم الآخر في اختياراته ويعمل على التكامل معه والتنسيق والتعاون، بل ويؤيد الاجتهاد الآخر ويدعمه أمام الآخرين حفاظاً على وحدة الموقف وتربيةً للأتباع على التجرد للحق إذا لم يتضح يقيناً وقد يكون مع أي من الطرفين، وهذه الوضعية ليست مثالية مفرطة، بل هي حكمة سياسية واقعية، ونموذج الفصائل الجهادية الفلسطينية يطبقها بدقة مشكورة لهم، إذ مع اختلافهم في تفاصيل مقاومة الاحتلال تجدهم يتفقون على هذا الإطار العام ويدعمون بعضهم أمام الآخرين، ومن خلاله يصلون أحياناً إلى تنسيق بعض العمليات الميدانية فيما بينهم (رغم الاختلافات التفصيلية)، وهذه الفاعلية وهذا الجهاد المتفق على تفاصيله في النموذج الفلسطيني، هو الذي يفسر _فيما يبدو_ غياب مظاهر الغلو والتطرف في التعامل مع الواقع الفلسطيني العام (..!!).
7. الحذر من الانشغال بالنزاعات عن الهدف الرئيس:
المؤسف أن غياب الوضعية السابقة، فتح المجال لنوع من التنازع يكثر بين الأتباع ويصل إلى الرموز أحياناً، فلا بد من الحذر منه، فإذا تعذر التنسيق الكامل بين الاجتهادات المختلفة، فلا بد من التمييز بينها وتوضيح مناطق الاختلاف قولياً وعملياً واحترام حق الناس في المعرفة بذلك وترك حرية الاختيار لهم، كما يقتضي ذلك الحذر من الانشغال بالنزاعات عن الهدف الرئيس للدعوة.
8. التمحور حول الفكرة والمشروع بدل الشخصيات:
هذا الخطأ التاريخي السابق ذكره، يبدو وكأنه لا يزال متسيداً، إذ بدأ يشيع مؤخراً أن الشيخ فلان أو الدكتور فلان سيقيم مكتباً خاصاً أو موقعاً الكترونياً أو مركزاً أو غير ذلك من المشاريع التي تتمحور حول الشخصية، ونحن بهذه الطريقة نكرر الأخطاء؛ لأنه فرق كبير بين صناعة الرموز والقادة وإبرازهم إعلامياً وواقعياً وجعلهم مرجعية، وبين جعلهم هم والناس من حولهم يرجعون للمبدأ الذي ينطلقون منه و يتمحورون حول الأفكار والمشاريع التي تخدم المبدأ، فالطريقة الأولى تجعل في نفوس الأتباع هيبة ووجل من الرمز وتمنعهم من قدرة التصويب له إذا أخطأ، وتجعلهم عالة على تفكيره وتخطيطه وأوامره لا عوناً له في ذلك، أما الطريقة الثانية فتقلل من الهيبة غير الشرعية، وتمنح الجرأة على النقد، وتوفر الفرصة الواسعة أمام الجميع للمشاركة والعمل والابتكار والتطوير بعيداً عن حرج العمل الذي يأباه البعض في ظل هذه الجهة أو تلك، ويتربى الناس على التجرد بصورة عملية، كما يتخلصون من سلبية جماهيرية الرمز.
9. صناعة المؤسسات بدلاً من الرموز:
وهذا فرع على ما سبق ولكن يضاف عليه أنه لا بد من إطلاق العديد من المؤسسات في مجالات مختلفة، العلمية منها والدعوية والإعلامية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها.
لكن لا بد من إفراد المجالات التعليمية التي تتعرض لتهديد متواصل بمزيد عناية وتركيز، وخصوصاً أن توجهات التخصيص الاقتصادي لهذا القطاع تتيح المجال لإنشاء العديد منها بالشروط الدعوية التربوية المطلوبة.
والمجالات الإعلامية ذات الأهمية المتزايدة تقتضي حديثاً خاصاً بها، فلا ينبغي أن يقبل أبداً بعد اليوم استمرار الأغلبية المحافظة في البلد بدون وسيلة إعلامية حقيقية تتحدث باسمها وتدافع عن رؤيتها وقناعاتها وثقافتها المقصاة واقعياً، في حين تحظى الفئات الليبرالية بالدعم والتسهيلات المتتالية في هذا المجال، فلا بد من المطالبة الحثيثة بالترخيص لمؤسسات إعلامية متكاملة، بشرط أن يكون ذلك بالصورة المؤسساتية الحقيقية وليس كواجهة للرموز.
كما يجب التركيز والاعتناء بمراكز الدراسات والبحوث، لتقوم بدورها في رصد المتغيرات ودراسة الانعكاسات واقتراح الخيارات العملية، ولتعتني بالدور الآخر الغائب تماماً في منطقتنا والمتمثل بدراسات المستقبل و(سيناريوهات) التعامل معها، فصناعة المواقف المؤثرة تقتضي وضع الآليات لإشراك كل صاحب رأي وبصيرة وخبرة في مجاله، ويمكن أن يتوافر هذا من خلال قنوات الرصد والقياس لهذه الآراء والأفكار، من كل الطبقات وبشتى الوسائل، أو مراكز الدراسات التي تستوعب أصحاب التخصص الجادين الذين يكلفون بهذا الرصد الداخلي مع الرصد الخارجي لمواقف الرأي العام ودوائر القوى المختلفة وتأثيراتها، ودراستها وتحليلها ثم تقديم مقترحاتهم وتصوراتهم وبدائل الحلول، وهذا أيضاً ليس من المبالغات والذي يتابع خطوات ما يسمى بحزب الله اللبناني يجد أنه يملك شيئاً من ذلك وهم أقل منّا عدداً وتنوعاً للطاقات، لكن الفارق هو توفير البيئة التفعيلية المناسبة.
10. المواهب الفردية وفريق العمل:
الصفة الأبرز للدعوة المحلية هي تعدد وتنوع المواهب الفردية مع ضمور وانحسار الأنشطة والبرامج الجماهيرية العامة، والسبب الواضح لهذا التعطيل والهدر يكمن في افتقار هؤلاء للبيئة الجماعية الفعالة التي تفجر طاقاتهم وتوجهها وتسددها وتوفر لهم الأجواء والأوضاع الأنسب لإبراز وتنمية هذه المواهب. بمعنى أنهم يفتقدون لفريق العمل الذي يحركهم، فمن المعروف أن البشر يتكاملون ويتعاونون ولا يمكن أن يستقل أحد عن الآخر أو يستغني عنه وخصوصاً الموهوبين منهم، وإذا لم يجدوا هذه الروح وهذا الفريق فيمن حولهم فسيبحثون عنه عند الآخرين.
11. استيعاب التقصير بدلاً من استعدائه:
والمرحلة تقتضي بلا مراء أن نستوعب الجميع بأخلاقنا ورحمتنا وتآخينا، وألا نستعديهم لتقصير أو مشاكسة أو تمرد أو تفريط أو إفراط، وتعنيف وتحذير كل من يتسبب في حصول شيء من ذلك وإعادة اعتبار كل من أسيء إليه، والعمل على (منهجة) التقويم بدلاً من (شخصنته) _كما ذكر سابقاً_.
12. العمل على ترسيخ الثوابت:
مع التهديدات المتتالية لثوابت الأمة ومسلماتها سيكون من المهم أن يحرص القادة والمربون على إعادة التذكير بالثوابت والتأكيد عليها والخروج بالناس من دوامة الجدل والمراء غير المفيد، ومثل هذه العلنية قد تساهم في تخفيف الضبابية التي بدأت تشوب بعضاً من رسائل الدعوة الرئيسة، فيرتفع الغموض وتتضح القضية في أذهان الناس، وأهم ما ينبغي ألا يشوبه اللبس رسالة الدعوة في المجالات الثقافية والاجتماعية (وخصوصاً ما يتعلق منها بالمرأة)، إذ لا بد أن تبقى تفاصيل الرؤية حولها حاضرة ومعلنة، ومتكررة كلما دعت الحاجة.
13. استعادة ثقة الجماهير، والابتعاد عن تهييج الخصوم:
من الملاحظ أن الدور الجماهيري المؤثر، الذي كانت الدعوة المحلية تتمتع به سابقاً قد تخلخل، وأتى من ينافسها فيه باسم "الجهاد" أو باسم "الوطنية"، والمطلب الملح الآن، أن نراعي ونتفهم هذه التحولات الضخمة في واقع البلد، وأن يتم التعامل معها بناءً على أوضاعنا الجديدة فليست كما كانت سابقاً، وهذا يقتضي محاولة كسب ثقة الجماهير من جديد عبر الالتزام بالثوابت المستدل لها بالنص الصحيح وليس بالاختيار الفقهي المجرد، كما يقتضي خدمتهم والسعي بمصالحهم وتطلعاتهم، وأكثر ما يشغل الناس اليوم: إعادة شعورهم بالقوة والعزة في مقابل شعور الذل والمهانة والاختراق الذي يهددهم به الأعداء من الخارج وأذنابهم من الداخل، وهذا يستدعي الحنكة والدقة، وانتهاج طرائق وأساليب نوعية جديدة تخرجنا من الأزمة التي نتحدث عنها، ويتم فيها تعبئة كل المخلصين لدينهم وبلدهم حتى في الأوساط الرسمية للمساهمة في تحقيق هذا الأمل الذي يشغل الجميع.
وسيكون من المناسب في هذا الإطار تجنب تهييج الخصوم ومحاولة كشفهم بطريقة غير مباشرة، من خلال الخطوات والمواقف العملية والأخلاقية النزيهة في مقابل انتهازيتهم ونفعيتهم المفضوحة مؤخراً، والاستثارة المباشرة سيستغلونها على أقل تقدير بوصفها بالاستعداء والحزبية، وهذا ما ينبغي أن نهرب منه نحن قبل غيرنا، كما أن هذه الأجواء قد تشكك الأطراف الأخرى المحايدة، والتي قد تكون مرتبطة معهم بمصالح مشروعة، وقد تغلق الباب أمام عودة المتردد منهم.
ختاماً:
يعتذر الكاتب عن الجرأة والمباشرة في بعض الفقرات، أو الإساءة والتطاول في البعض الآخر، ولعل مقصد الإصلاح وباعث الإسهام في الحل يشفعان له في ذلك.
كما يعتذر أخيراً للمعترضين على التناول العلني لهذه المواضيع، فطبيعة الأزمة والتغيرات المحيطة بها واتساع الحديث عن هذه الجوانب تقتضي الوضوح والمباشرة.
والأمل بعد توفيق الله ورحمته أن تحظى الورقة بالاهتمام والرعاية والتصويب والتسديد حتى نصل جميعاً للخروج من الأزمة _بإذن الله_ .
والحمدلله رب العالمين.