من بين الاعتبارات الأساسية التي تمنح للنموذج الغربي تلك القدرة الفائقة على اختراق مختلف الدوائر البشرية؛ بغض النظر عن مستواها الثقافي أو اعتبارها الاجتماعي.. اعتماد هذا النموذج بدرجة كبيرة على المدخل الثقافي لتحقيق ذلك الاختراق؛ خاصة الثقافة في مفهومها الأنثروبولوجي وبعدها الرمزي، فرغم أن النموذج الغربي تؤطره مجموعة من الأفكار ذات الإحالات الفلسفية، إلا أن ذيوع هذا النموذج كان نتيجة تحويل الأفكار الكبيرة المؤسسة لهذا النموذج إلى ثقافة يعيشها الناس وتحاصرهم في كل مجالات الحياة، فالغرب نجح إلى حد كبير في جعل الناس تتبنى قيمه وثقافته دون أن تتبنى أفكاره الفلسفية التي من خلالها تم إنتاج الثقافة وتوليد الرموز!
ومن المفيد هنا أن نشير إلى أن النموذج الشرقي/الماركسي لم يتسن له الاستمرار والنجاح؛ لأن هذا النموذج لم يستطع أن يحول الأفكار إلى ثقافة.. بل إن هذا النموذج كان يفترض- على الدوام- من المتلقي الذي يستهدفه الخطاب الماركسي أن يكون مقتنعاً ومتبنياً اعتقاداً وسلوكاً، للمنظومة الماركسية، أما النموذج الغربي فلم يكن من شروط انتشاره أن يتبنى عموم الناس أفكاره المرجعية ورؤاه الفلسفية.
لهذا الاعتبار كان الماركسي، في بلادنا العربية والإسلامية، هو ذلكم الإنسان الذي يتبنى مجموعة من المواقف من الأديان وتفسيراً معيناً للتطور الذي يحكم المجتمعات ونظرة ما للآليات التي تتحكم في هذا التطور، وهي في جوهرها تصورات عقدية وفكرية بالأساس، ولما كان من قبيل المستحيل أن يخترق هذا النوع من الخطاب كل فئات مجتمعنا العربي والإسلامي؛ عمد هذا الخطاب إلى التوجه إلى الفئات المثقفة؛ خاصة الطلابية( كما كان الحال في المغرب)، وسمي العنصر الطلابي، في وقت من الأوقات، بـ" الطليعة التكتيكية"، ولذلك ظل هذا الخطاب نخبوياً، ولم يستطع الامتداد، وكان أسير دائرة بشرية، ولم يتجاوزها إلى الدوائر البشرية الأخرى المكونة للمجتمع.
أما النموذج الغربي فإنه استطاع أن يصل إلى مختلف هذه الدوائر، وذلك باعتماده أسلوب التنوع في الأشكال التي من خلالها يقوم بإيصال أفكاره المرجعية؛ فالخط الفكري للنموذج الغربي واحد، أما تجلياته الثقافية والرمزية فمتعددة.
ربما كانت فالإنتليجنسيا العربية مثلاً، التي تأثرت بالفكر الغربي واعية بالأسس الفلسفية لهذا النموذج، أما عموم الناس ربما يحصل لهم نوع من استبطان النموذج الغربي انطلاقاً من انخراطهم في مجموعة من الأشكال الثقافية ذات الجذور الفكرية الغربية.
فالفلسفة الداروينية التي يعدها عبد الوهاب المسيري اللبنة الأساسية في الرؤية الغربية الحديثة للعالم.. هذه الفلسفة لم يتم تصريفها إلى الناس في قالب فكري مجرد، إنما تم تحويلها إلى ثقافة تجسدها مجموعة من الرسوم المتحركة والألعاب والفنون.. إلى غير ذلك من الأشكال الثقافية والرمزية، فهذه الفلسفة لم تتسلل إلى عموم الناس انطلاقاً من الكتب الفلسفية/الفكرية، بل انطلاقاً من أشكال ثقافية وفنية لا تحتاج إلى إرهاق ذهني للالتفاف حولها، بل إن الناس لا تعرف من هو داروين.. وما يقال عن الفلسفة الداروينية يمكن أن يقال أيضاً عن فلسفة هوبز؛ فالناس في عمومها لا تعرف من هو هذا الشخص ولا الفلسفة التي تنسب إليه.. لكن بفضل عملية تحويل هذه الفلسفة إلى ثقافة تجد الكثيرين في معاملاتهم اليومية يتبنون أفكار داروين وهوبز وإن لم يكونوا واعين بها!
وما سبق ذكره لا ينتبه إليه الكثير من الناس؛ بل حتى المتدينين منهم.. فتجد الواحد منهم يتشدد عندما يتعلق الأمر مثلاً ببعض المسلسلات والأفلام التي تتخللها لقطات إباحية، وهو أمر من السهل رصده، لكن في المقابل لا يلاحظون ذلك الكم الهائل من القيم الثقافية الخطيرة التي ترسل من خلال الرسوم المتحركة، وعندما تنبههم إلى هذه المسألة يقولون لك: إنها رسوم بريئة فيها قدر من التسلية، وربما استشهدوا بأحاديث نبوية لتبيان شرعية الفسحة!! رغم أن التدقيق في بعض الرسوم، كـ"توم جيري"، سنجدها ترسخ في وعي ولاوعي الإنسان/الطفل مسألة الصراع، وهي تعبير عن الفلسفة الداروينية التي ذكرناها أعلاه!
وما يقال عن "توم جيري" ينسحب أيضاً عن رسوم " البوكيمون".. التي قال عنها Ignacio Ramonet: إنها تعبير عن نظرية التطور التي جاء بها داروين.. فأعقد القضايا الفلسفية تم تحويلها إلى خطاب ثقافي يومي يستهدف كل شرائح المجتمع.
إن آفة جزء من الخطاب الإسلامي تتمثل في نظرته إلى المنتجات الثقافية والرمزية من زاوية " حلال أو حرام"!! وهذا النوع من التفكير يقود صاحبه إلى تركيز الضوء على تلك المنتجات التي فيها نوع من المخالفة الواضحة لقيمنا الحضارية.. ويغض الطرف عن منتجات أخرى تستبطن رؤية تتصادم ومنظومتنا القيمية.
خذ على سبيل المثال " التلفاز"؛ فهذا الجهاز لا يستقيم أن نناقشه من منطلق هل هو حلال أم حرام؟!! لكن من منطلق النظر في نوعية القيم والعلاقات التي ينشئها داخل المجتمع.. والاجتهاد في الكشف عن مدى انسجامها أو عدم انسجامها مع جوهر ومقاصد منظومتنا الحضارية، وسيقودنا هذا النظر بالضرورة إلى دراسة وضعية أسرنا قبل دخول هذا الجهاز وبعده.. ولنا أن نلاحظ العلاقات الجديدة التي برزت إلى أسرنا مباشرة بعد أن احتل هذا الجهاز مكانة معتبرة؛ إذ إن المساحة التي كانت تخصص لتبادل الحديث بين أعضاء الأسرة تقلصت، وربما غدا جهاز التلفاز بمثابة عضو جديد داخل مؤسسة الأسرة؛ إذ تمنح له وقتاً أكبر من الوقت الذي يمنح لباقي أفراد الأسرة، وهذا أمر له انعكاساته الخطيرة على وضعية الأسرة وعلى التماسك الأسري؛ لأن المشاكل قد تتفاقم عندما تقل جسور التواصل بين أفراد الأسرة.
ومن ناحية ثانية، كان للجدة داخل أسرنا الممتدة " قبل التلفاز" موقع متميز؛ فباعتبارها الرمزي والفعلي كانت هي الحكم عندما يقع سوء تفاهم بين الأب والأم.. ولم يقتصر دور الجدة عند هذا الأمر، بل كانت تسرد القصص الطويلة على الأطفال؛ ومن المعلوم أن القصص، كجنس أدبي، تنمي في الفرد ملكة الخيال.. وامتلاك قوة في الخيال يعد من بين أهم العناصر التي تساعد على الإبداع؛ خاصة في الجانبين الأدبي والفني.
وما يقال عن التلفاز، يمكن أن ينسحب أيضاً على أشكال ثقافية ورمزية أخرى؛ كشكل العمران ونظام الزمن ونوعية الأزياء وطبيعة المأكولات، فهذه الأشكال والرموز ينبغي ألا نناقشها فقط من منطلق هل هي حلال أم حرام؟ بل لا بد من البحث في طبيعة العلاقات الجديدة التي أوجدتها في المجتمع ونوعية القيم التي صاحبت بروزها.
انظروا مثلاً إلى " نظام الزمن" المتبع في أغلب البلدان العربية والإسلامية، وهو نظام بالمناسبة ينسجم مع قيم المجتمعات الغربية ذات النزعة الاستهلاكية، والتي لا تولي اهتماماً للشعائر التعبدية، وتصوروا مثلاً لو كانت النصوص الدينية( القرآنية والحديثية) هي التي تؤطر ثقافتنا الزمنية ونظامنا الزمني كنصوص: " بورك لأمتي في بكورها".. وكذلك الأحاديث التي فيها نهي عن اللغو واللهو بعد صلاة العشاء، فإن بداية العمل ستكون مباشرة بعد صلاة الفجر؛ وستكون مواقيت الصلاة هي المحدد الأساس لأوقات العمل، وبهذه الطريقة سنسهل على عموم المسلمين؛ خاصة ضعفاء الإيمان، القيام بصلاة الفجر في وقتها، وألا يحرموا من صلاة قال عنها المصطفى _صلى الله عليه وسلم_: " ركعتي الفجر خير من الدنيا وما فيها".
بعبارة أدق، إنه من خلال هذه الأحاديث، وغيرها نستطيع أن نولد ثقافة زمنية تناسب نصوصنا المرجعية، وإن نظام الزمن المتبع حالياً في بلداننا هو تعبير ثقافي عن مجموعة الأفكار والرؤى الفسلفية المعينة.
عود على بدء، نقول إن أي محاولة لتشكيل العقول وفق خط فكري معين لن يتأتى فقط انطلاقاً من الخطاب الفكري المباشر، بل إن تحويل هذا الخطاب إلى ثقافة ورموز يعد من أقصر الطرق لجعل الناس تلتف حول هذا الخط.
إن منظومتنا الحضارية والثقافية حافلة بترسانة هائلة من النصوص المرجعية؛ سواء كانت نصوصا مقدسة( الوحي) أو كانت نصوصا تراثية، فنحن لا نشكو من فقر على مستوى الأفكار، وربما أيضاً على مستوى النظريات؛ فنحن نملك أغنى تراث عرفته الإنسانية، لكن المشكلة تكمن في غياب جهد حقيقي لتحويل الأفكار إلى ثقافة والمبادئ إلى قيم وتأسيس علاقات جديدة داخل مجتمعاتنا العربية والإسلامية منسجمة مع مرجعية أمتنا الحضارية.
ونقول: إنه كما استطاع الغرب أن يخترق ثقافياً مجتمعاتنا العربية والإسلامية وإن لم تتبن هذه المجتمعات رؤاه الفلسفية، فكذلك بإمكان المسلمين أن يخترقوا ثقافياً المجتمعات الغربية والمجتمعات الأخرى، وإن لم تتبن هذه المجتمعات رؤانا الفلسفية.