أنت هنا

دعائم الصناعة الفقهية
28 ربيع الثاني 1426

من أهم الدعائم التي يتوخاها كلُّ صانعٍ في صَنعَتِه دعامتان اثنتان:
أولاهما: أن يعمل المصنوعُ طرداً وعكساً فيما صُنع لأجله، فصانع السيارة - مثلاً - يتحرى فيها أن تسير إلى الأمام، وإلى الخلف، وتتجه ميمنةً وميسرة، فإن قصُرت عن بعض ذلك، وصارت كالدابة الحَرُون(1)، كان ذلك عيباً صِناعياً فيها.

ثانيتهما: أن ينضبط المصنوع بضوابط صانِعِه، بحيث يمكنه التحكم في مَسَاقِه، فلا يتفلَّت على صاحبه، ولا يجمح، ولا يطمح، وتندرج تحت هذه الدعامة وسائل السلامة الملحقة بالعين المصنَّعة، كالكوابح المنظِّمة لسرعة السيارة على سبيل المثال.

ومع أنَّ الفقه صناعةٌ لها قواعدها الخاصة، والأصلُ أنه يُلحَظُ فيها التعبد لله رب العالمين، لكن ذلك لا يمنع من تقريب الصورة، بضرب الأمثلة المستوحاة من الكون المشهود، أو التجارب البشرية الصحيحة، وقد ضُربت لنا في القرآن أروع الأمثلة، وما يعقلها إلا العالمون.

إذا تقرر هذا؛ فإن من مؤهلات الفقه القويم أن يستحضر الفقيه تلك الدعامتين في فتياه، لينتج فتاوى صالحةً للتطبيق في واقع الناس، بل مُصْلِحَةً لواقعهم، جالبةً لهم الخير والنفع، دارئةً عنهم الشر والفساد،
وعليه فإن تلك الفتاوى الجالبة للحرج البالغ، والمشقة غير المعتادة في بابها، المكلفة للناس ما لا طَوق لهم به، معدودةٌ في حيِّز الرداءة، موعودةٌ بالفناء، وإن ظلَّت أعناقهم لها خاضعين(2)، حيناً من الدهر.
كما أن فتاوى الترخُّصِ الغثِّ، حاملةٌ في تضاعيفها ما ينقضها، ويُفْسِدُ وضعَها، وسينكشف للناس ـ ولو بعدَ حين ـ ما فيها من معاندةٍ للشرع، ومناكفةٍ لقواعده.

وفي الدعامة الثانية؛ وهي انضباط المصنوع بضوابط صانعه، احترازٌ من ضربٍ من الفتاوى، تلك التي ما أن يطلقها صاحبها، حتى ينفتح للناس جرَّاءَها بابٌ من أبواب الشر والفساد، كما في "بعض" فتاوى التكفير، وإهدار الدماء، أو التبديع في مسائل الاجتهاد، فهذا النوع من الفتاوى لا ينضبط على صاحبه، إذ سرعان ما يحور عليه سلاحه الذي أطلقه، حين لم يضبط عيارَه ومسارَه، وقد قال أبو الطيب:


ومَنْ يجعلُ الضرغامَ في الصيدِ بازَه تصيَّدَه الضرغامُ فيما تَصَيَّدَا

إلى قوله:



وما قتل الأحرار كالعفو عنهم ومن لك بالحر الذي يحفظ اليدا
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا مضر كوضع السيف في موضع الندى



ومما يلتحق بهذا النوعِ أيضاً: تلك الفتاوى الفاتحة لذرائع التفاسد بين الخلق، كمن أفتى عن قريبٍ بحلِّ التأمين بجميع أنواعه، بغير قيدٍ ولا شرط !

إنَّ الفقيهَ الثقةَ؛ كما أنه معنيٌّ بالاحتكام إلى النص، فهو معنيٌّ كذلك باستصلاح الناس وتأديبهم، وإيلافهم على الحق وترويضهم عليه، بعيداً عن الترخص الغثِّ، أو الجمود المستغلق، وفي كلتا الحالتين الأخيرتين، أي الترخص والجمود، سيعثر في النصوص ما يسند رأيه الخاطئ، وإن بشيءٍ من التكلف المصطنع، بيد أنه من السَّنَنِ المشهودة في الواقع، أن حركة الحياة الموَّارة، تنفي ـ على الدوام ـ تلك الفتاوى الرديئة جُفاءً، وليس يبقى إلا البضاعة الفقهية الصالحة، النافعة للناس.

_____________
(1) حرَنَت الدابةُ: كنَصَرَ، وكَرُمَ، حُِراناً بالكسر، والضم، فهي حرونٌ، وهي: التي إذا استدَرَّ جَرْيُها وَقَفَتْ، خاصٌّ بذوات الحافر، قاله الفيروزآبادي في القاموس، مادة (حرن) (1534).
(2) أي أنَّ الناس سوف يعدلون عنها، وإن استجابوا لها بعض الوقت.