في عام 1941م كانت مصر توشك أن تدخل الحرب إلى جانب بريطانيا ضد قوات المحور التي تجتاح شمال أفريقيا، وكان المصريون يعلمون أن دخول الحرب يأتي ضد مصلحتهم، فهي حرب بين قوتين صليبيتين، قوة الحلفاء بزعامة بريطانيا من جهة وقوة المحور بزعامة ألمانيا من جهة أخرى، وكلاهما معادٍ للإسلام، ولكن مصر دولة محتلة من قبل بريطانيا وتحكم من خلال حكومة موالية للمحتل، فمن بديهيات الأمور والحال كهذه أن تصدر قرارات الحكومة المصرية لمصلحة المحتل حتى وإن كانت تتعارض مع مصلحة مصر.
والشعب المصري كأي شعب محتل مغلوب على أمره، لا يستطيع التعبير عن رأيه، وإنما يحتاج الأمر إلى نوعية معينة من الرجال تستطيع أن تصدع بالحق أمام الطغاة والمتجبرين، ولا تلتفت إلى ما قد يترتب على ذلك من قرارات تعسفية قد تلحق الضرر بأشخاصهم أو مصالحهم، وشخصية موضوعنا هو شيخ الأزهر في ذلك الوقت الشيخ/ محمد مصطفى المراغي رحمه الله الذي قال من على منبر الجامع الأزهر كلمته المشهورة: "إنه لا ناقة لنا ولا جمل في هذه الحرب" فسرت كلمته في المجتمع المصري سريان النار في الهشيم.
فالكل يتحدث بما قاله إمام الجامع الأزهر ويستحسن هذا القول ويؤيده، ومن لم يستطع أن يعبر عن آرائه بالأمس أصبح يتحدث أمام الجماهير وبالمنتديات العامة عن الويلات التي قد تجرها هذه الحرب على مصر، فما كان من الحكومة المصرية أمام هذا الضغط الشعبي الهائل إلا أن تدعو البرلمان المصري للانعقاد لتعلن أمام النوّاب قرارها بعدم دخول مصر الحرب، وتطلب منهم المصادقة عليه، وتمت مصادقة النوّاب على هذا القرار بالإجماع، أما الشيخ المراغي فقد أطيح به من إمامة الجامع الأزهر، وهذا الأمر كان متوقعا لدى فضيلته، ولكنه لا يأبه لذلك فهو يحمل هم الأمة لا هم المنصب.
فالأمم دائماً بحاجة إلى من يوقظها من غفوتها ويشحذ همم أبنائها لدفع الأخطار التي قد تهدد مستقبلها، فما قام به الشيخ المراغي قد سبقه إليه الكثير من أبناء هذه الأمة، وسيأتي من بعده أيضاً الكثير من الرجال الذين يحملون بين جوانحهم هموم الأمة، فلن تعقم أمة محمد _صلى الله عليه وسلّم_ من إنجاب مثل هؤلاء الأفذاذ، فالذين يظنون أن الأمة قد هزمت ولن تستطيع النهوض من كبوتها وأن عليها مجاراة ما يجري على الساحة الدولية، والاحتكام إلى ما تقرره شرائعهم الظالمة واهمون، فسيأتي يوم يعزها الله بنفر من أبنائها يوقظونها من غفوتها، ويرفعونها من كبوتها، وليس ذلك على الله بعزيز.
فالحرب بين الأمة وأعدائها سجال فيوم لها ويوم عليها ولكن العاقبة للمتقين كما وعدنا ربنا سبحانه وتعالى- على لسان موسى عليه السلام "قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ" (الأعراف:128)، وفي سورة الحج "وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ" (الحج: من الآية40). قال المفسرون: أي ينصر دينه، فهذا وعد من الله _سبحانه_ بالنصر والتمكين لأمة محمد _صلى الله عليه وسلّم_ ولكنه وعد مشروط بالعمل على نصر دين الله برفع راية الجهاد حسب ضوابطه الشرعية، فان لم تف الأمة بهذا الشرط فالبديل العذاب الأليم والاستبدال كما ورد في قوله _تعالى_: "إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" (التوبة:39).
فالمسألة فيها ثواب وعقاب، ثواب بالنصر والاستخلاف للعاملين وعقاب واستبدال للمتخاذلين، فقد تخذل بعض الأمم المصلحين من أبنائها كما خذل بنوا إسرائيل موسى عليه السلام وقالوا: "فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ" (المائدة: من الآية24). فعاقبهم الله بالذل والخذلان إلى قيام الساعة، فهذا جزاء من عرف الله وعصى أمره، فالله _سبحانه_ يمتحن الأمم بالمصلحين من أبنائها، فإما تهتدي بهديهم وترشد وإما تأبى وتستكبر وتضل ويكون مصيرها الهلاك، نسأل الله العافية.
اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيد ك الخير انك على كل شيء قدير، اللهم أبرم لأمة محمد _صلى الله عليه وسلّم_ أمر رشد يعز به دينك وترفع به راية الجهاد لتكون كلمة التوحيد هي العليا ويذل به عبّاد الصليب وأبناء القردة والخنازير ومن دار في فلكهم وأتمر بأمرهم من الخونة والمنافقين.