عندما أتابع ما ينتجه المثقف العلماني المتطرف في عالمنا العربي من كتابات تثار لدي جملة من التساؤلات والانطباعات حول المصير الذي آل إليه، وهو في رأيي مصير يبعث على الشفقة والحسرة في آن واحد.
ومأزق النخب العلمانية المتطرفة يمكن اختصاره في المقولة التالية: إن مجموعة من التطورات التي شهدها واقع عالمنا المعاصر، خاصة منذ أواخر الثمانينات إلى يومنا هذا، جعلت المنظومة الفكرية والأدوات المنهجية التي يعتمدها هذا المفكر من أجل مقاربة الظواهر التي أفرزتها هذه التطورات، عاجزة عن تفسير مآلات الوقائع ومسار الأفكار!
رغم أن الأبجديات الأولى لـ" الصدق المعرفي" تحتم على الباحث أن يغير جهازه المفاهيمي والمنهجي؛ أو على الأقل أن يعدل فيه،عندما يكتشف أن هذا الجهاز لا يسعفه في فهم وتفسير الحاضر ولا يمتلك مقدرة على التنبؤ والتوقع! وعندما لا يكون الصدق- بمفهومه الأخلاقي والمعرفي- هو المميز لتطور المسار الفكري لأي مفكر وباحث.. فإن النتيجة الحتمية هي زوال الجلال عن هذا المفكر والباحث، ويغدو صغيرا في عيون ضمائر الأمة.
إن الصدق المعرفي الشامل- في رأينا- هو الذي قاد مجموعة من المفكرين الذين كانوا يقفون على الأرضية الغربية- بشقيها الماركسي والرأسمالي- إلى مراجعة منظومتهم الفكرية وجهازهم المفاهيمي وأدواتهم المنهجية، وغياب هذا الصدق هو الذي جعل مجموعة أخرى من المفكرين جامدين على اختياراتهم المفهومية والفكرية والمنهجية، وإن كانت هذه الاختيارات غير قادرة على مسايرة التغيرات التي تطال أبنية الواقع المختلفة.
وفي الحالة الأخيرة، نجد هذا المفكر يحمل اختياراته الفكرية والإيديولوجية ما لا تحتمل بنيتها الذاتية، ويطالبها بدور لا تستطيع أن تقوم به؛ فهو بهذا السلوك يمارس نوعاً من الاضطهاد تجاه أفكاره ومفاهيمه وأدواته المنهجية.
ويمكن أن نتحدث هنا عن " رق" مفاهيمي وفكري ومنهجي جديد! فلا بد، إذن، من إطلاق سراح هذه المفاهيم والأفكار والمناهج كي تختار المحيط الذي يناسبها؛ إذ عندما يتم استنباتها – خاصة- في محيطنا العربي والإسلامي فإنها تغدو غريبة ومقيدة ولا تتمتع بأي حرية.
إن مثل هذا الصنف من المفكرين في عالمنا العربي والإسلامي كمثل ذلكم الإنسان الذي، بعد أن فكر وقدر، أخرج سمكاً من الماء.. وقال له: أريدك أن تعيش في البر وأن تحدث قطيعة " وجودية" مع الماء، وعمل هذا الإنسان كل ما في استطاعته من أجل أن يتأقلم هذا السمك مع محيطه الجديد، وربما سخر علوماً ومعارف كثيرة من أجل أن ينجح في هذه المهمة، ويستغني عن الماء، وعندما يشير عليه الناس- كل الناس- بأن ما يفعله لن يستقيم أبداً، وأنه يمارس جريمة في حق هذا السمك.. يرد عليهم قائلاً: إن المشكلة ليست في السمك وإنما في المحيط البري!!
هذا الإنسان، منذ البداية، تبنى نموذجا إدراكياً مفاده أن السمك بإمكانه أن يعيش في الماء وبدون الماء على حد سواء، لكن لما تبين له بالاستقراء والمعاينة وبعد سلسلة من التجارب أن الماء هو المحيط الطبيعي للسمك، ولا يمكن استبدال المحيط البري بالمحيط المائي.. لما تبين له هذا وأدرك فشله في مهمته وجب عليه أن يغير من نموذجه الإدراكي، وهذا في رأينا أبرز مقتضيات الصدق المعرفي.
في تصورنا، ينبغي أن في البداية على أن الماء هو المكان الطبيعي للسمك، ثم بعد ذلك نبحث في الإجراءات التي تضمن للسمك مقاماً كريماً وهو في مائه؛ فهناك من السمك من يفضل العيش في الأنهار ومنه من يفضل البحار.. وهناك من له " موقف" من مسألة الملوحة، فيفضل أن تكون أقل.. وهناك من يختار عمق البحار وهناك أيضاً من يفضل أن يكون قريباً من سطح الماء.. هناك من السمك من يعيش قريباً من الشاطئ، وهناك آخر يهوى الابتعاد بعيداً عن الشاطئ.. وأيضاً ينبغي ألا نلوث مياه البحار بالنفايات، كما تفعل الحضارة الصناعية المعاصرة؛ لأن ذلك يؤذي السمك.. فكل هذه " الاختيارات" المختلفة والمتنوعة تتم كلها داخل " نسق" واحد وهو الماء.
إن الذي ينبغي أن يستوعبه العلمانيون المتطرفون، أن مجتمعنا العربي والإسلامي قد حدد المكان الطبيعي الذي يضمن له حياة كريمة وطيبة. إنه من المكابرة أن ننكر أن الإسلام هو ذلك النسق أو تلك المرجعية التي لا يمكن أن نختلف عليها.
إن أي باحث منصف سيقوده الاستقراء لتاريخ أمتنا العربية والإسلامية- حتماً- إلى نتيجة مؤداها أن مسألة المرجعية بالنسبة لأمتنا كانت محسومة لصالح المرجعية الإسلامية، وأن المجتمع العربي والإسلامي لا يمكن أن يتحرك بفعالية إلا في إطارها. نعم قد تكون هناك استثناءات في تاريخنا حاولت أن تشذ عن هذه القاعدة، إلا أنها ظلت هامشية ولا تشكل أي تأثير في مجريات الأمور والأحداث.
فعندما نأخذ على سبيل المثال مسألة " التوحيد"( رؤية وتصوراً للعالم والحياة) كمكون أساسي من مكونات المرجعية الإسلامية؛ نجد أن هذا المكون لم يقع عليه اختلاف، بل كان هو الموجه لمختلف الإنتاجات والإبداعات في تاريخنا الذهبي( إلا في بعض الاستثناءات القليلة). حتى أن " المعتزلة" عندما دافعوا عن فكرة " خلق القرآن" كان دافعهم الأساسي هو التنزيه/التوحيد؛ إذ رأوا أن في قولنا إن القرآن كلام الله الأزلي بمعنى أنه قديم، وأن الله قديم.. رأوا أن في قولنا هذا نوعاً من الإشراك بالله؛ لأنه- في رأيهم- قد جعلنا مع الله شيئاً قديماً! طبعاً كان رد الأكثرية من العلماء مفحماً على هذا المنحى من التفكير، ولكن ما يهمنا هنا هو أن نعرف أن أعقد القضايا الكلامية في ذلك العصر كان الدافع إليها هو الانتصار لفكرة " التوحيد". هكذا كان حال الأمة طوال مسيرتها التاريخية والحضارية؛ كانت تنتج وتبدع وتختلف انطلاقاً من المرجعية الإسلامية، ولم تكن تعرف فوضى في المرجعيات.
فعندما يعلن المثقف العلماني المتطرف على الملأ بأن الاجتهاد والإبداع والإعمار، عندما يتعلق الأمر بمجتمعنا العربي والإسلامي، يمكن بل ينبغي أن يتم من خارج النسق الإسلامي فإنه يرتكب جريمتين على الأقل، وهما:
الأولى: جريمة في حق جهازه المفاهيمي ومنظمومته الفكرية وأدواته المنهجية، لأنه قد وظفها واستنبتها في بيئة مجتمعية لا تناسبها.
الثانية: جريمة في حق هذا المجتمع العربي والإسلامي؛ حيث أراد له هذا الصنف من المفكرين أن يتأقلم مع أدوات وأفكار ومفاهيم غريبة عنه.
وباستطاعتنا أن نتحدث عن فشل بعض التجارب الإسلامية في الوصول إلى الأهداف التي سطرتها، فهذا موضوع يحتاج إلى نقاش طويل وهادئ.. لكن ينبغي أن نعترف أن الإسلاميين والدعاة قد أصابوا عندما وصلوا إلى اعتبار المرجعية الإسلامية الأرضية التي لا يمكن أن تتحقق أي نهضة بدونها.
فكما أننا بعد أن اتفقنا على أن الماء هو المكان الطبيعي الذي يحتضن عالم السمك ثم بعد ذلك نظرنا في الشروط الموضوعية التي تضمن لهذا السمك الحياة الكريمة.. فكذلك بعد أن نتفق على أن الإسلام هو النسق الطبيعي الذي يحتضن عالم العرب والمسلمين، وجب علينا أن ننظر في الظروف الموضوعية التي تضمن للعرب والمسلمين الحياة الكريمة المبنية على العدل.
إذن لما يغيب الصدق مع النفس ومع الموضوع ومع الناس، فإن المفكر يفقد جلاله ويصبح صغيراً في عيون الشعوب العربية والإسلامية.. بل يتحول إلى عظم بدون عقل.. يكون جسداً بدون روح، ولعل من الملاحظات التي لاحظتها- كما لاحظها غيري أيضاً- أنه في كثير من المناسبات الثقافية والفكرية خاصة في الجامعات والكليات على طول عالمنا العربي والإسلامي، نجد أن أغلب الحضور يلتف بقوة على تلك الشخصيات الثقافية التي تتسم بالصدق المعرفي والجلال الأخلاقي.. أما العناصر الأخرى فتجدها مهمشة ولا يلتفت إليها أحد؛ فهي عظام فقط بعد أن غاب الصدق وذهب الجلال.
* كاتب مغربي