عرضنا في الحلقة السابقة بعضاً من مظاهر الانحراف في واقعنا نحن المسلمين، وهي:
1- الخلل في التصوُّر الإيماني والتوحيد.
2- هجر الكثيرين لمنهاج الله وغيابه عن أداء دوره الحقيقي.
3-جهل الواقع وعدم وعيه ودراسته.
4- اضطراب الممارسة والتطبيق.
5- غياب الميزان وردّ الأمور إلى منهاج الله.
ونعرض في هذه الحلقة تكملة لهذه المظاهر، وسبل علاجها، وهي:
6- غياب النهج والتخطيط:
من السهل أن ندرك الآن، بعد العرض السابق، أنَّ من أهم أخطاء العمل الإسلامي هو غياب النهج والتخطيط عن معظم ميادين العمل أو كلّها.
كيف ينشأ التخطيط والنهج إذا عانى المسلمون من جهل بمنهاج الله وجهل بالواقع، واضطراب في التصور الإيماني والممارسة الإيمانية. إن الارتجال وردود الفعل هي النتيجة الحتمية لهذا الاضطراب والجهل، وإنَّ الأهواء وتزاحم الشعارات هي المظهر الرئيس لهذا الخلل والوهن، وإن الاختلاف والشقاق هو ثمرة ذلك كلّه، ثمرة مرّة مؤذية.
7- الاضطراب الفكري وتعدد الاتجاهات، والاضطراب النفسي:
من خلال الوهن الذي عرضناه، استطاعت أفكار كثيرة أن تتسلّل؟ إلى قلب الدعوة الإسلامية تحمل كلّ الزينة والزخارف، في ظروف كانت الحالات النفسية فيها وردود الفعل المتوقّعة تساعد على تقبّل هذه الأفكار المتسلّلة. يضاف إلى ذلك ما يتولّد في داخل الحركة نفسها من أفكار منحرفة نتيجة الضعف الذي عدّدناه سابقاً. فيجتمع انحراف إلى انحراف، وتختلط الأمور حتى يصعب على الفرد أن يُميّز بين الانحراف وغيره. وقد يصعب الأمر على الفرد العادي، ويصعب كذلك على مستويات أعلى، وزاد من ذلك وقوع نكبات ومآسٍ دفعت بعض النفوس دفعاً إلى هذا الانحراف الفكري أو ذاك. وقد ساعدت الظروف الاجتماعية والسياسية وسهولة وسائل المواصلات والضغط الدولي الهائل الذي يُغذّي كلّ اتجاهات الانحراف على ذلك كلّه على قدر من الله حقٍّ وقضاء نافذة.
ولقد كان من أخطر الأفكار التي تسلّلت: الوطنية والقومية والإقليمية والديمقراطية والاشتراكية مع جميع صورها المنحرفة عن الإيمان والتوحيد، حتى أخذ بعضهم يبحث في الإسلام عن الأدلة الشرعية لها، ونحن لا ننكر أنّ أيّ فكر في الأرض مهما كان نوعه فلا بدّ من أن يحمل زخارف تُحَبّبه إلى الناس، ولكن هذه الزخارف ليست هي الميزان الذي نَقْبل به أو نَرْفض. إن الميزان هو منهاج الله، فنرفض أن تصبح القومية عصبية تُحَدّد الفكر والمذهب والحقوق والواجبات. وننكر أن تصبح الوطنية وثناً يُعْبد من دون الله، ويزيح أحكام الدين وسلطان الإسلام.
أما بالنسبة للاشتراكية والديمقراطية وأمثالهما، فإن أحسن ما يظنّه دعاتها فيها، وما يتوهمه أصحابها، هو أقل بكثير مما يقدّمه الإسلام للإنسان على الأرض، وإن الشرّ الذي تحمله من علمانية وشرك هو أسوأ ما يحاربه الإسلام!
8- ضعف التكوين الداخلي والروابط الإيمانية وغياب النظام الإداري:
لا نقصد بذلك الروابط التنظيمية في واقع العمل الإسلامي فحسب. فهذه قد تقوى وتضعف متأثرة بعوامل متعددة ومتأثرة بجميع عوامل الضعف التي سبق ذكرها. فقد تقوى الروابط التنظيمية حتى تصبح عصبية جاهلية، تزيد انحراف الدعوة وتزيد من تمزّقها، وتصبح مظهر ضعف وانحراف ومصدر فتنة وشقاق. وتضطرب معاني الأخوة في الله والموالاة بين المؤمنين اضطراباً واسعاً.
لقد اضطربت العلاقات والروابط الإيمانية كلها اضطراباً واسعاً حين صاغ هذه العلاقات والروابط أفكار متضاربة ومذاهب متصارعة ونزعات هائجة. لم يعد الإيمان والتوحيد، ولا الولاء الخالص لله، ولا العهد الأول مع الله، ولا الحبّ الأكبر لله ولرسوله، لم يعد هذا وغيره من قواعد الإيمان وقواعد المنهاج الرباني يصوغ الروابط والعلاقات. فاضطربت تبعاً لذلك _كما ذكرنا_ قواعد السمع والطاعة، والعلاقات بين القيادة والقواعد، حتى تباينت بين تعظيم مغالى فيه، وبين تهوين مفرط ومسيء، وفي كلتا الحالتين فتنة وبلاء.
لقد غاب النظام الإداري الذي يوفّر نظام المتابعة والمراقبة والإشراف، ونظام التوجيه والنصح العملي التطبيقي، ونظام المعالجة والمحاسبة والتذكير، ليتمّ ذلك كلّه بصورة منهجيّة مدروسة محددة تحقق أهدافها وغاياتها الإيمانية. لقد غاب النظام الإداري الإيماني القائم على منهاج الله والملبِّي لحاجات الواقع، والذي يبيّن قواعد الأحكام والجزاءات والوسائل والأساليب في ميدان التطبيق لينمو مع الممارسة.
لقد أدى هذا الخلل الكبير إلى تسلل أفراد إلى مواقع لا يحقّ لهم بلوغها، لعدم توافر شروطها فيهم، وكذلك أدّى إلى أن تخسر الدعوة طاقات ومواهب كثيرة قتلتها الفوضى الإدارية والتحاسد والتباغض والتناجش والصراع على الدنيا وزخارفها وعصبياتها.
9- عدم انتقال الدعوة الإسلامية إلى الميدان:
لقد امتدّت الدعوة الإسلامية إلى أقطار متعددة في أوروبا وأمريكا وأفريقيا وآسيا. وقامت مراكز إسلامية متعددة، وهيئات وحركات ومنظمات. وأُقيمت مساجد يدوِّي منها الأذان والتكبير. وذلك كلّه فضل من الله ونعمة. ولكن النتائج التي بلغتها الدعوة الإسلامية بين تلك الشعوب وبين قادتها كانت أقلّ مما ترجوه القلوب المؤمنة. و إنك لتجد أن معظم القادة الدوليين لا يدركون حقيقة الإسلام، بالرغم من اتساع أفق بعضهم في الثقافة والتجربة. فحين يتحدث غورباتشوف في كتابه (البيروسترويكا) يبيّن أن هنالك عقيدتين وخطين في العالم هما الشيوعية والرأسمالية، ثمّ ينظر نظرة عطف وإشفاق على دول العالم الثالث، متجاهلاً الإسلام عقيدةً ونهجاً وفكراً، وكذلك يفعل قادة الغرب، وإذا تحدّث أحدهم عن الإسلام حسب الإسلام ما يراه من واقع المسلمين اليوم، أو حسب الإسلام كالنصرانية دين طقوس وشعائر لا علاقة له بمنهج الحياة البشرية السياسي أو الاقتصادي أو غير ذلك، أو رأى في الإسلام قوة إرهاب وتسلّط، أو غير ذلك من الأفكار التي يُزيّنها شياطين الإنس والجنّ.
لقد شُغلت معظم الحركات في كثير من الأحيان بالدعوة إلى أفكارها الخاصة وحركاتها أكثر مما شُغلت بالدعوة إلى الله ورسوله وإلى حقائق الإيمان والتوحيد. وشُغلتْ بالخلافات بينها أكثر مما شُغلت ببناء الأمة المسلمة الواحدة في الأرض.
وشُغلت الأمة كلّها بغير الدعوة إلى الإيمان والتوحيد، إلى الله ورسوله، ولقد حدّد منهاج الله علاقة المسلم مع غير المسلم بصورة مفصَّلة في جميع الظروف والأحوال، حتى تستقيم العلاقات على جميع المستويات على نهج إيماني. وأول هذا النهج هو الدعوة إلى الله ورسوله هو البلاغ والبيان، وعرض حقائق الإسلام من منطلق القوة والإيمان واليقين.
إنَّ كثيراً من غير المسلمين يجهلون الإسلام، سواء أكانوا من العامة أم الرؤساء. ولو أنهم عرفوا الإسلام كما أنزله الله لخفت عداوتهم وأحقادهم أو عداوة بعضهم على الأقل. إن كثيراً من الأحقاد تتوارثها الأجيال عن الأجيال في الشعوب غير المسلمة، تغرسها فيهم عصابات الإجرام والظالمون المترفون فيهم.
إنَّ الله يهدي من يشاء، ولكننا مكلفون بحمل هذه الأمانة العظيمة وتبليغ الرسالة إلى الناس كافّة. فإن قصرنا في ذلك فنحن الآثمون، نجني حصاد تقصيرنا فيما نراه من نكبات وابتلاء.
إنَّ الدعوة إلى الله ورسوله يجب أن تكون الهدف الثابت الأول في حياة المسلم، وفي حياة كلّ حركة إسلامية، وفي مسيرة الأمة المسلمة كلّها بجميع مستوياتها. إن هذه الدعوة إلى الإيمان والتوحيد هي أول الجهاد، وأول خطوة فيه إلى الجنّة، وهي سبيل المؤمنين العاملين. المؤمنون يجب أن يكونوا أشدَّ إصراراً على الحق الذي يدعون إليه، وأشد ثقة واطمئناناً بنصر الله إِذا استقاموا على الدرْب وصدقتْ النِّيّة وصحَّ النهج والعزم.
الخلل ممتد في واقع المسلمين. وهو السبب الرئيس في هزائمنا. إن ما أصابنا هو بقدر الله وقضائه وحكمته، وقضاؤه حق وقدره غالب وحكمته بالغة، والله لا يظلم أحداً ولا يظلم شيئاً. لقد ظلمنا أنفسنا!
"إن الله لا يظلم الناس شيئاً ولكنّ الناس أنفسهم يظلمون" [ يونس: 44].
وربما يقول بعضهم: إن الأخطاء بسيطة، والخلافات سنة الله، ثم يطوون ذلك بالمجاملات والمسكنات لتخفيف الآلام والأوجاع، والخلل يبقى والأمراض تبقى، ولا يجدي التخدير في العلاج.
ولا يمكن أن يتمّ التغيير في أنفسنا إلا إذا تولّدت القناعة الذاتيّة بضرورة التغيير، حين تنكشف الأخطاء، ونتبيّن هول الأخطار، ونستشعر صدق الخشية من الله وعقابه وعذابه.
ومن لم يشعر بذلك، ولم يدرك أخطاءه، ولم يتبيّن حقيقة الخطر، ولم تهزّه الخشية من الله، فلن يشعر بضرورة التغيير. والأمر كله بيد الله، يهدي من يشاء ويضلّ من يشاء.
لا بد أن نقتنع بأن ما أصابنـا من هزائم وفواجع وهوان هو بما كسبت أيدينا. وأن الواقع لا يتغير إلا إذا غيّرنا ما بأنفسنا، فذلك أمر الله وحكمته: "... إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم..." [ الرعد: 11].
ولا يمكن أن يتم علاج إلا إذا تمّ تغيير حقيقي في أمرين أساسيين،هما:
أولاً: تغيير ما بأنفسنا كما أمر الله.
ثانياً: تغيير طريقة تفكيـرنا وعملنـا إلى النهج الإيماني للتفكير والعمل.
وإِذا تم هذا التغيير، فإن أموراً أخرى ستتغيّر بصورة تلقائية. ستتغيَّر وسائلنا، وأساليبنا، ومناهجنا، وعلاقاتنا فيما بيننا ومع الآخرين. سيكون هناك تغيير واسع يوجهه الإِيمان والتوحيد، والكتاب والسنّة، بعد أن تكون الأهواء قد أُلجمت !
هذه ملاحظات عاجلة موجزة عن أهم ما نعتقد أنه يجب النصح به في هذه المرحلة الحاسمة من تاريخنا. ونؤمن أن كلّ قضيّة عرضناها هنا تحتاج إلى دراسات علمية أمينة، لتكون الحركات الإسلامية هي أول من ينقد نفسه، وأول من يتقبل النصيحة، حتى تصبح تجربة العمل الإسلامي زاداً نامياً للدعوة، فلا تبدأ كلّ حركة من نقطة الصفر، حين تموت تجارب السابقين.
وحين نذكر هذه الملاحظات ونقدم هذه النصيحة، نؤكد أهمية الأثر الطيب للعمل الإسلامي، مؤمنين أنَّ الأجر عند الله _سبحانه وتعالى_ هو أعلم بعباده، وهو أرحم بهم.
وندعو الله مخلصين أن يتقبل من الدعاة، قادةً وأفراداً، أحسن ما عملوا، ويتجاوز عن سيئاتهم، إنه هو الغفور الرحيم.