يروى عن الإمام مالك رحمه الله: "إن العلم إذا منع عن العامة لم ينتفع به الخاصة" قال ابن الحاج مفسراً وشارحاً لهذه العبارة: "أن يحرم الخاصة فوائد العلم لأن استئثارهم بالعلم يورثهم الكبر والخيلاء فيحرمون منه، أو يحرمون ثواب العلم لأن الثواب يكثر بانتشاره".
هذا الفقه من الإمام مالك هو ما كان عليه علماء السلف، فقد كان من اهتماماتهم الصلة بالعامة ونشر العلم بينهم وتهذيب عاداتهم وأخلاقهم، فالإسلام ليس ديناً لصفوة من البشر، بل هو للناس كافة، فلا يوجد في الإسلام نظام هرمي كهنوتي يحتكر العلم ويضن به على الجماهير، وعلى الدعاة وبغاة الخير أن يتنبهوا إلى هذه القضية الأساسية ويستشعروا أهميتها وخطرها.
فجمهور الأمة (الذي يطلق عليه العامة) يتميز بإدراك للأمور، وهو يميز بالفطرة بين دعاة الحق ودعاة الباطل، بين من يشفق عليه ويحبه ويحرص على مصالحه وبين من لا يملك هذا الحرص وهذه المحبة. ورحم الله الشيخ محمود محمد شاكر، فقد وصف بأن للعامة عنده إعزاز كبير؛ لأنهم وإن كانوا قد حرموا من التعليم فإنهم قد نجوا في أحيان كثيرة من أن يصبحوا أدوات في تدمير أمتهم، والشيخ هنا يغمز من قناة بعض الذين يسمون أنفسهم مثقفين وهم دعاة للثقافة الغربية وهذا لا يعني أن نفتقد في المجتمع وجود عالم ومتعلم، وجود طبقة مثقفة، هي النخبة وهي خميرة النهوض، وهي القيادة العلمية والفكرية التي تقدر الأمور تقديراً حسناً وتزنها بقسطاس مستقيم، ولكن هذه النخبة لا تستطيع أن تقوم بعمل ذي بال إذا لم تلتحم مع جمهور الأمة، مع العامة لا ليذوبوا فيهم ولكن لرفع مستوى هذا الجمهور إيماناً وعلماً وعملاً، وإن الذين لا يهتمون بالقيادة العلمية أو بالصفوة من الأمة هم على خطأ كما الذين لا يهتمون بعامة الأمة.
إن التباعد بين هذه الثنائية (الخاصة والعامة) ما هو إلا من تراث وحقب الضعف والتشرذم، وتسلط السفهاء على العلماء مما يجعلهم أقرب إلى الانزواء، وهو أيضاً من تراث أهل الترف العقلي الذين يعيشون في أبراجهم العاجية ويحتقرون (العامة).