انحصرت كتابات المفكر الجزائري مالك بن نبي معظمها في ما سمي تحديداً "مشكلات الحضارة"، إذ أخذ مصطلح الحضارة حيزاً كبيراً في أفكاره المنصبة حول تفسير الظواهر الاجتماعية، انطلاقاً من الشواهد التاريخية، والتحليل الموضوعي للواقع المعيشي للأمة الإسلامية، وكما يعرفه (الدكتور الأكاديمي السعودي) عبد الله العويسي "يتميّز مالك بن نبي بتكوينه العلمي وصرامته المنهجية؛ لذا كان نظره لإشكالية الحضارة من خلال منطق الوقائع، فهو يتفق مع ابن خلدون في أن التاريخ يجري وفق سنن (قوانين)، وبالتعرّف عليها نتمكن من معالجة المشكلات الإنسانية، ومن ذلك إشكاليّة الحضارة؛ لذا نظر إليها باعتبارها ظاهرة تخضع لقانون، فحاول اكتشاف قانونها من خلال مختبر التاريخ مستهدياً في ذلك بالجهود السابقة في هذا المجال، ابتداء من ابن خلدون إلى (توينبي)".
وإذا كانت منطلقات مالك ابن نبي في أبحاثه حول إشكالية التقدم، والنهوض مرة أخرى، والعودة للمسرح العالمي قبل سقوط آخر حصن للدولة الإسلامية، قد غيرت المفاهيم التقليدية لدى علمائنا التقليديين الذين وظفوا الدين كما هو، بعبارة أخرى كان تلقينهم للدين مجرد سرد للآيات القرآنية وللأحاديث النبوية الشريفة، من دون اجتهاد في بلورة الفكرة الحضارية، والغوص في مكنوناتها الحقيقية، التي هي عند مالك رابطة ثنائية عضوية بين الثقافة، وشقها المادي الذي يعنيه بالحضارة ،التي تنطلق من رباعية أساسية هي :المبدأ الأخلاقي- الذوق الجمالي- المنطق العملي- الصناعة بصفتها شروطاً لصناعة الشق المادي للثقافة، فإن منتهى الفكرة التي أراد إيصالها للمسلمين عموماً هي أن التغيير لا يتأتى من تلقاء نفسه،أو يفد من السماء، بل هو نابع من النفس التي تطمح في أن تتغير،وهذا مصداقا لقوله _سبحانه وتعالى_: "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" وهو نفس ما ذهب إليه عالم القرن العشرين الشيخ محمد الغزالي _رحمه الله_ "نحن في حاجة إلى عمل واسع وعميق ولابد أن نتحسس كياننا وجماهيرنا وقضايانا حتى نعرف أغلاط أمتنا ونداويها وعندئذ سيكون الحاكم منا "كما تكونون يولى عليكم" ؛ لأن الظلم لا يتغير من تلقاء نفسه و لا يتغير بالأماني التي تداعب أحلام الكسالى ولا بشعوب تفلسف أمورها، إنما تتغير الأوضاع حسب قوانين المولى _عز وجل_، والأمم إذا أصلحت نفسها وغيرت قوامها فلابد أن تنصلح … لا تنتظر الأمة أن فرعون يستقيل، إنما يتغير فرعون عندما يوجد موسى ويربي شعباً".
ولهذا ذهب مالك بن نبي في وصفه للأمراض التي اعترت الجسم الإسلامي بأنها أمراض نابعة من نفس الجسم، الذي يريد أن يبرأ بنقله لأدوية الغير، والطبابة ببلسم المستعمر،ويحصر أزمة المسلمين بعد خروج الاستعمار من الأراضي المسلمة في أنها أزمة فكرية قبل أن تكون أزمة عقدية؛ لأن المسلمين على كافة أصعدتهم التراتبية، من العالم إلى أبسط إنسان لا يحسن القراءة والكتابة، متفقون حول مفهومية الدين الإسلامي أنه الدين الحق الذي لا يأتيه الباطل، كما لا يأتي أبداً بعده دين آخر ليحل محل، لكن الإشكالية تقع على الفكر الإسلامي الذي يجب أن يربط عنصر الدين بعنصر المغالبة الواقعية التي هي عنوان الحضارة الغربية في شتى المجالات اليوم، وهذا الذي ينقص راهنا الأمة الإسلامية التي تحتاج حسب مالك بن نبي إلى علاج من خلال العوالم الثلاثة: عالم الأفكار و عالم الأشخاص و عالم الأشياء.
لكن لا يمكن أن نستغني عن جانب دون الآخر في نظرتنا للواقع، أو محاولتنا إيجاد حلول لمشكلاتنا الحضارية، بعيداً عن أي محور اقتصادي يتولى تحريك عجلة التقدم؛ لأن الحضارة كل متكامل لا يمكن أن تفصل عنها جزء،وتبقي فيها الجزء الآخر، ومالك بن نبي نفسه لا يحب أن يفرق بين ماهو سياسي، وما هو اقتصادي وبين ماهو أخلاقي وآخر مادي فالترابط بين جميع هذه العناصر إضافة إلى عامل الزمن هو الذي يشكل ما يسمى حضارة بكل ما تعنيه الكلمة من مداليل، وعليه فالمفهوم الاقتصادي عند مالك بن نبي ليس مجرد تحريك الآلات للحصول على أعلى قدر من الإنتاج للسلع،ومن ثمة الوصول إلى تحقيق الكفاية التي تدخل في الدورة الحضارية، بل النظرية الاقتصادية يجب أن تكون على نفس الموجة مع النظرية السياسية.
ومنه يقول مالك بن نبي: "وعملياً يجب أن تسير النظرية الاقتصادية جنباً إلى جنب مع النظرية السياسية"، إذ لا أثر لهذه النظرية الاقتصادية إلا إذا اتفق مع تجربة اجتماعية معينة "إن مبدأ اقتصادياً لا يمكن أن يكون له أثره، ومقدرته التامة على التأثير إلا في الظروف التي يتفق فيها مع تجربة اجتماعية معينة" ويقصد الأستاذ مالك بن نبي بالتجربة الاجتماعية المعينة، كل خصوصية حضارية لأي أمة، وكل بيئة ثقافية محددة، ويقدم الدليل على ذلك بما حصل لإندونيسيا التي تعد من أغنى بلاد الله ، لكنها لم تقدر على الخروج من أزمتها الاقتصادية رغم أن واضع نظرية إقلاعها الاقتصادي أحد أكبر الاقتصاديين الألمان الذين قدموا عصارة خبرتهم الاقتصادية لألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى، وهنا حسب مالك التجربة ناجحة في ألمانيا؛ لأن الدكتور شاخت ألماني، ولكنها فاشلة لأن الدولة هي إندونيسيا والشعب غير الشعب الألماني" "ويمكن القول بقدر ما استفدنا من تجارب العالم الثالث في العقود الأخيرة،إن إهمال أو تجاهل قضية الإنسان هي من الأمور التي أفقدت هذه التجارب الشرط الأساسي لنجاحها مثل ما حدث لمخطط شاخت بإندونيسيا". فالنظرية الاقتصادية عند مالك بن نبي في مثال إندونيسيا يجب أن تنطلق من الإنسان نفسه فلا يكفي استيراد التجارب الاقتصادية والنظريات الغريبة، كما تستورد الأشياء والماديات، وعليه فإنه ابتداء يجب النظر في المسلك الإنساني قبل المسلك الاقتصادي، الذي هو في الأخير انعكاس نفسي للحالة الإنسانية.
عليه يقول مالك بن نبي:"ولو تدبروا أيضاً بعض الدراسات المتعمقة في البحث عن جذور الاقتصاد لوصلوا إلى النتيجة النظرية نفسها،أي أن الاقتصاد ليس قضية إنشاء بنك وتشييد مصنع فحسب، بل هو قبل ذلك تشييد الإنسان وإنشاء سلوكه الجديد أمام المشكلات" إذن فالإنسان عند مالك بن نبي هو محور العملية الاقتصادية التي هي الخميرة الأساسية لتشكيل ما يسمى حضارة،مع عدم إغفال عنصر الزمن الذي له نفس القيمة الإنسانية، فيؤكد مالك في هذه النقطة بالذات "وهناك عنصر آخر يتمتع بالطابع النفسي نفسه، ويجب أن نحسب له حسابه في هذا التنافي، ذلك العنصر هو فكرة الزمن التي تعد أساسية جداً في تنظيم العمل في العالم الحديث تبعاً لنظرية تايلور ، فقد سيطرت هذه النظرية على مفاهيم المقدرة الإنتاجية،فساعة *الكرونومتر* التي تستخدم في حساب الثواني تستخدم في الوقت نفسه في تسعير الإنتاج . وليس قولهم – الوقت عملة TIME IS MONEY من قبل اللعب بالكلمات، بل هو تعبير دقيق عن الواقع المادي في نظر الإنجليز".
والوصول إلى تحقيق أعلى نسبة إنتاجية من خلال التوظيف الكامل لكل قوى الأمة، لا يعني تقديم الوهم الاقتصادي على الحقيقة الاقتصادية المطلقة؛ لأن العبرة دائماً بالنتيجة،وكما بينت التجربة الإندونيسية رغم إحاطتها بكل أسباب النجاح بيد أنها لم تكن تجربة ناجحة بكل مقاييس الاقتصاد الحقيقي الذي كان الشعب الإندونيسي الخارج تواً من حالة استعمار، يأمل أن يراه، فضلاً لو أن المشرف على العملية الاقتصادية ليس هدفه هو النجاح، بل ترسيخ الصبيانية الاقتصادية كما يسميها مالك ECONOMISME وفي هذا السياق يقول "والاقتصادانية إنما هي فقاعة غاز لا تحوي أي واقع اقتصادي، بل هو أسوأ إنها ظرف يبدي ألوان قوس قزح لألاءة براقة ، إنه يحوي أوهاماً خلابة ضائعة وتناقضات تدعو للسخرية. إن الاقتصدانية أو المعاشية لم ينزل بها قرآن من السماء ، بل أفرزتها كائنات أميبية جسدت القابلية للاستعمار وتجسد التخلف اليوم، وهي عموماً تعني بادئ ذي بدء استبداداً أي تقييداً جديداً لحرية التصرف،فيه يلتهم المشرع الاقتصادي القيم الأخلاقية والمدنية كلها لأبناء الشعوب المستعمرة حتى يعززوا كما يزعمون، الاستقلال السياسي الذي اكتسبه الشعب " ويضيف أيضاً" وإن ابتغت الاقتصادانية أن تفعل خيراً فإنها تتصور شؤون المجتمع الإنساني تصور تسيير لمطعم حقير يتم حسابه بعمليتين اثنتين: جمع لما يدخل من مال، وطرح للنفقات".
وهنا نفقه حقيقة ما يريد أن يصل إليه مالك بن نبي في تفسيره لنظريته الاقتصادية التي لم تنطلق من أي مسمى، سوى أنها لا تغفل عامل الخصوصية، وعامل الزمن،وتؤكد على ضرورة الاهتمام بمخبر القضايا دون جوهرها وضمن كل هذا يجب الأخذ بعين الاعتبار محور العملية الحضارية الذي هو الإنسان، وعندما يكتمل تجميع كل ما يمكن أن يحقق الهبة الحضارية فيقدم النصيحة للمسلمين، ونعتبرها –هذه النصيحة- قد أخذت بها أوروبا في اتفاقية مايستخريت، وتطبقها اليوم كل الأجناس غير الإسلامية فيما يسمى بالتكتلات الاقتصادية،فيزيد تأكيداً على ضرورة الاستفادة من ما هو متاح وفي حكم الموجود،وعدم تضييع هذا الموجود والمهمل، وبخاصة وأن العالم العربي حباه الله بخيرات لا توجد في غير بلاد أخرى من الدنيا، فيقول:" إن العالم العربي يتمتع بإمكانيات اقتصادية مهملة، مثل هذه الأراضي التي أنبتت الحضارة الإنسانية الأولى على ضفتي الدجلة والفرات،حيث ترعرعت أيضاً الحضارة الإسلامية الأولى بفضل الخيرات التي كان يمدها بها،منذ خلافة عمر _رضي الله تعالى عنه_، التراب المطعم بطمي الآلاف من السنين ،ذلك السواد الذي عاد مرة أخرى مستنقعات تنبت الحمى، بعد أن كان ينبت الأقوات.
إن في استطاعة العالم العربي أن يعيد للتراب وظيفته الاقتصادية، وذلك منذ اليوم بوسائله الموجودة بيده منذ الآن، حتى في الميدان الفني إذا قرر من ناحية أخرى استعادة العقول العربية المغتربة لأسباب مختلفة، منها الأسباب الثقافية التي تتصل بفقدان المسوغات الكفيلة بشد العزائم ورفع الهمم، إلى مستوى المسؤوليات المنوطة بالعلماء والمثقفين في نطاق مشروع شامل تتحد فيه العزائم والعقول والأموال في الرقعة العربية أو في جزء أكبر ممكن منها بقدر ما تكتمل فيه شروط الاقتصاد التكاملي حتى يستأنس الناس والقادة بوجه خاص بأن الأوطان التي لا تستطيع مواجهة الظروف الاقتصادية العالية بمفردها تستطيع الصمود لها والنمو، إذا تكاتفت عقولها وأيديها وأموالها في ورشة عمل مشترك من أجل اقتصاد متحرر لا يخضع لضغط خارجي"فالغاية الكبرى مما قدمه مالك بن نبي هو تغيير أوضاع العالم العربي، بأن ينظر في ما بين يديه ولا ينتظر من الآخر الفتات،فإن ما بين يديه إذا أحسن تدبيره يغنيه عن كل سؤال، ويتمكن من العودة إلى تبوء الصفوف الأمامية؛ لأن الأمة العربية المسلمة أجدر بقيادة العالم من غيرها.