يبدو أن الجمهور الواسع من المثقفين الذين قصدوا الندوة الدولية التي نظمتها مؤسسة الملك عبد العزيز للعلوم الإسلامية والبحوث الانسانية بالدار البيضاء ثامن وتاسع أبريل؛ كانت تنتظر بشغف مداخلة فوكوياما، كانت تنتظر بالتحديد تقويمه لنظريته، ووجهة نظره من الانتقادات العميقة التي توجهت لها، فقد مر على صدور كتابه سنوات طويلة، فبعد حرب الخليج الأولى، وقعت تطورات عالمية كبيرة، لعل أبرزها أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وما تلاها من هيمنة أمريكية على العالم، وأيضاً من تمزق مرحلي أو مفصلي في الموقف الأمريكي الأوربي، فهل نجح فوكوياما في تبرير نظريته؟ وهل النسق النظري الجديد الذي اقترحه لتسويغ نظريته يمكن أن يقنع المتابع لحقيقة ما يجري على الأرض؟ وما مصداقية التفسيرات التي أعطاها للأحداث التي وقعت بعد صدور نظريته؟ وإلى أي حد تعامل فوكوياما مع الانتقادات بمنطق علمي؟ عمق النظرية تتجه كل مفاصل النظرية إلى توضيح حقيقة واحدة: التحديث هو قدر كل الشعوب، وقبل ذلك حلم كل الدول، وهو الطريق الوحيدة لتحقيق التنمية الاقتصادية والسياسية، والتغيير الثقافي. إلا أنه لا يتصور حصوله بغير تطور العلوم الطبيعية والتكنولوجية. تلك العلوم التي تدفع البلدان إلى الصعود في سلم التحديث، فتبدأ عملية التنمية الاقتصادية التي تعد مؤشرا حقيقيا يمكن أن نقيس به مستوى هذا التحديث. وهكذا فتايوان والصين وكوريا قد بدأت بمستوى معتبر في التحديث نتيجة لتوجه هذه الدول نحو التصنيع وارتفاع نسبة الدخل الفردي فيها، فالدخل الفردي مؤشر حقيقي يعكس مدى ركوب الدول سلم التحديث أو تخلفها عنه، وعنده أن مبلغ 5000 دولار كدخل فردي هو مبلغ سحري، أي هو السقف الذي في ضوئه يمكن أن نحكم على دولة ما بكونها حدثت معالمها. والدولة حينما تسلك هذا المسلك، تتوجه بالضرورة إلى تحسين التعليم، والخدمات الصحية والاجتماعية، غير أن أثر التحديث على الجانب السياسي يكون أضعف إذا ما قورن بالاقتصاد، إذ أثبتت الوقائع ـ حسب فوكوياما ـ أن القوانين السياسية لا يمكن عولمتها بسهولة. غير أنه يرى أن الأشياء التي تبدو مقبولة نسبيا هي قضية الديمقراطية الليبرالية. إذ إن هناك قاعدة ثبتت تاريخيا بالاستقراء وهي أن قليلاً من الدول الغنية من ليست بها ديمقراطية ليبرالية، وإن كان الاستثناء واردا في كون دول أخرى فقيرة استطاعت أن تؤسس نموذجا ناجحا للديمقراطية الليبرالية كالهند وكوستاريكا. وتضعف حلقة التأثير بشكل أكبر كلما اقتربت من الجانب الثقافي، لكن هذا لا يمنع من القول: بأنه لابد للتحديث أن يحدث تغييرات حقيقية وجوهرية على المستوى الثقافي والاجتماعي. فالصين مثلا، وإن كانت تنطلق من نسق ثقافي مغاير لمثيله في الدول الغربية، فهي بفعل التحديث، تعيش نفس التغييرات الثقافية التي تعيشها هذه الدول، بل تواجه أيضا نفس المشاكل: (تفكك الأسرة، التغيير في أنماط العلاقات داخل المجتمع). وإذا كان هناك من استثناء يشذ عن القاعدة فهو اليابان، فهي وإن ركبت قطار التحديث غير أنها تبقى مختلفة في السياسة والثقافة، في هذا المثال يقترح فوكوياما مخرجا لهذا الاستثناء: (لا نريد عالما يكون فيه تنميط ثقافي). والقضية المحورية التي حاول فوكوياما أن يسوغها على المستوى الثقافي، واعتبرها تحديا مطروحا على العالم الإسلامي هي قضية الهوية الدينية. فهو يرى أن المجتمع الحداثي يتطلب نوعا من الفصل بين الديني والسياسي، ويمضي في تسويغ هذا الطرح من داخل التجربة الغربية، مستقرئا بعض أحداث التاريخ، ليطرح في الأخير التحدي على العالم الإسلامي: هي سيصل العالم الإسلامي إلى نفس الاستنتاجات؟ أي هل سيتبنى العالم الإسلامي الفصل، وإن بنوع ما، بين الديني والسياسي؟ نسق النظرية يقترح فوكوياما نسقا تقليديا يقلب فيه عوامل التأثير. فقد درجت النظريات التقليدية على طرح مفهوم الفاعل التاريخي؟ هل هو الجانب السياسي أو الاقتصادي أو الثقافي أو المعرفي العلمي؟ وقد تبنى فوكوياما هذه المقاربة التقليدية، واقترح أن يكون الجانب العلمي التكنولوجي هو العامل أو بالتعبير الماركسي هو الفاعل التاريخي، فالعلوم الطبيعية والتكنولوجية هي آلة لها محرك مرتبط بموصلات تلمس الجوانب الأخرى، وهي تؤثر أولاً على التنمية الاقتصادية بشكل أكبر، ويضعف تأثيرها كلما اقتربت من المسألة السياسية أو الثقافية. غير أن التنمية الاقتصادية حينما تحدث، يبرز بالضرورة طلب المشاركة في الحكم، وتحسين أداء المؤسسات أو بعبارة: التنمية الاقتصادية تفرض نوعا من التنمية السياسية التي بدورها تتجه بفعل جدل السياسي والاقتصادي للتأثير في النسق الثقافي. تأملات في النظرية لم يفت فوكوياما أن يشير إلى الانتقادات العميقة التي وجهت إلى نظريته، وقد حاول حصرها في محاور: ـ الإسلام والشرق الأوسط: ويقصد الظاهرة الإسلامية المقاومة للتحديث بالمفهوم الأمريكي، ويرى أن هذه الظاهرة لا تعكس استماتة ثقافية لهذه المنطقة من العالم بقدر ماهي مجرد حالة تاريخية عابرة متعلقة أساسا بقراءة أيديولوجية سياسية للدين. تلك القراءة التي لا تعتمد النص الديني، وإنما تستعين بالتراث الأوروبي خاصة تلك الأفكار الراديكالية التي نجدها عند الفاشيين والنازيين، ويرى فوكوياما أن هذه المنطقة ـ الشرق الأوسط ـ تبقى مشكلة أمام نظريته خاصة وأن (الإرهاب) كظاهرة لا يوجد بقوة إلا فيها. ويلتمس لذلك مخرجا سطحيا يتجه فيه إلى ربط الظاهرة بالمملكة العربية السعودية باعتبارها تمتلك الإمكان المالي وتدعم هذا النوع من الإسلام المتطرف! ـ الخلاف الأوربي الأمريكي: يعد فوكوياما أن هذا الخلاف من الأمور المذهلة التي لم يتنبأ بها في كتابه، ويستعين بما كتبه جاك ديريدا في حصره لموضوعات الخلاف ليؤكد استحالة وقوع حرب بين الألمان والفرنسيين ضد أمريكا، ويعزو الأمر إلى مشكلة الديمقراطية. ـ مشكلة الديمقراطية: لعل الأمر البارز الذي سجله بصدد هذه المسألة هو كون التحديث يراهن كثيرا على الديمقراطية داخل الدولة باعتبارها كيانا قطريا، ولكنه لا يراهن على الديمقراطية كأسلوب لمعالجة المشكلات على المستوى الدولي، وهذا يتطلب في نظره المسارعة لإصلاح الخلل بإنشاء مؤسسات أو آليات للمحاسبة والمساءلة السياسية داخل الفضاء الدولي، وهو يعتقد في هذا الإطار أن الأمم المتحدة لم تعد قادرة على الوفاء بهذا المطلب. الملاحظات النقدية الملاحظة الأولى: نهاية التاريخ نظرية أم برنامج سياسي؟ النظرية عادة تستبطن رؤية معينة للتاريخ والإنسان، وتستقرئ عناصر الفاعلية وتحدد العلائق بينها، وتبرر اختيار الفاعل التاريخي تبرير نظريا وتاريخيا، وتقرأ تطورات الحدث في ضوء حركية الفاعل التاريخي. نظرية فوكوياما تفتقد كل هذه الأبعاد وتمزج بين أنماط متناقضة من التفكير الفلسفي كالمزج بين الفكر الماركسي المراهن على تفسير التاريخ من أجل تغيير الواقع، والفكر البنيوي الذي يرسم صورة للعلائق السائدة والبنى المؤسسية من أجل المحافظة على شروط الواقع السائد. وهكذا تمزج نظرية فوكوياما بين بعدين فلسفيين متناقضين: ـ مفهوم الحتمية: إذ تتجه نظريته لرسم قدر معلوم يتجه إليه العالم وهو التحديث، ويجتهد في تفصيل القوانين المتحكمة في هذا المسلسل. ـ المفهوم العلائقي البنيوي: إذ يرسم صورة مؤسسية ميكانيكية يمكن أن نصورها كما يلي: وإذا كان هذا التوجه لا يستجيب لمقتضيات النظرية، ويعتمد التلفيق الفلسفي أسلوبا لرسم معالم طرح فكري معين، فإن المتأمل في حيثيات النظرية والمعطيات التي تبرر بها عناصرها المفصلية يجد نفسه أمام توجه سياسي، أو قل للدقة: أمام برنامج سياسي يعتمد مفهوم التصنيف أساسا لتحليل الواقع والتاريخ كما يعتمد أسلوب التدبير السياسي. ـ نماذج من التصنيف: 1ـ كل دولة ارتفع دخلها الفردي، وقارب 5000 دولار فهي دولة حداثية. 2 ـ هناك دول يستحيل أن تكون في الدرج الأول من سلم التحديث 3 ـ الحركات الإسلامية (لأن مشروعها يفسد عليه استنتاجاته) هي حركات تأخذ أفكارها من الأوروبيين الراديكاليين من تراث الفاشيين والنازيين تحديدا وتجمع أفكارا متطرفة من العالم وتقدم تأويلا معينا لها. ـ مفهوم التدبير السياسي: ويظهر ذلك جليا من خلال إشارتين: 1 ـ حينما تحدث عن الخلاف الأمريكي الأوربي اقترح تدبيرا سياسيا هو: "أمريكا ليس بها اشتراكيون وأوربا ليس فيها جمهوريون وبالتالي فالأرضية المشتركة يكون فيها الحزب الديمقراطي بأمريكا وحزب الوسط بأوربا". 2ـ اقترح لتدبير ومعالجة مشكلة الديمقراطية على المستوى الدولي عدم التعويل على الأمم المتحدة، وراهن على إنشاء مؤسسات للمحاسبة والمساءلة السياسية لتطويق أي خلاف دولي كبير كالخلاف الأمريكي الأوربي. ========= بلال التليدي- كاتب وباحث مغربي