أنت هنا

صراع الهوية
14 رمضان 1426


هل الحديث عن الهوية والانتماء حديث قد مضى وانقضى، هل انتهت خصوصية كل امة بعقيدتها وحضارتها في عصر العولمة واقتصاد السوق والانفتاح الثقافي؟ وهل مشاكلنا اليوم محصورة بالجانب الاقتصادي والاجتماعي كما يردد من لا يهمه أمر الهوية ويسير مع التيار السائد إعلاميا.


من يتحدث عن الهوية أيمكن أن يتهم بالرجعية؟ ويعاد الاتهام الذي كان رائجا في الخمسينات من القرن الماضي أم أن الأمر جد وليس بالهزل ولابد من الحديث عن هوية الأمة وثقافتها وحضارتها خاصة حين تبرز من جديد دعوات كانت قد اندثرت وبادت، دعوات للرجوع إلى الوثنية الجاهلية وإلى عصبيات عرقية كانت بالأمس تفتخر بانتمائها الإسلامي والعروبي (لغة) هذه العصبيات التي تريد أن تحولنا إلى فسيفساء وأن تفتت المنطقة شعوبا وأقليات بحجة الانفتاح وحتى لا يغضب (شوفيني) حاقد. إن المشكلة أعمق وأبعد آثارا من أن تكون مشكلة اقتصادية أو سياسية إنها مشكلة أمة فقدت اتجاهها وبوصلتها وراحت تبحث عن مثال عند أمم أخرى, بل راحت تتخذ كساء لفظته أوروبا, ولم يخطر ببالها أن تتفق على هويتها.


ألم تحزم اليابان أمرها وتحدد هدفها وتنقل العلم الغربي مع الاحتفاظ بعقائدها وعاداتها وبقينا نحن نفكر وننظر هل نحن شرقيون أم غربيون, فراعنة فينيقيون أم عرب مسلمون وكنا كالذي يشير على السائق أن يتجه يمينا وآخر يقول له اتجه يسارا والسائق متحير لا يتقدم ولا يتأخر أو كمن يمشي مشية طبيعية فسأله أحدهم ما هو تعريف المشي فتوقف واحتار كيف يمشي وكان من نتائج هذا الاضطراب وهذا الجهل بأسس هويتنا وهذه الغفلة أن تعددت الثقافات في الشعب الواحد، وتنابذت العقول على المعنى الصحيح، واتسمنا بكل شؤوننا بالضعف والتفرق وكأننا شركاء متشاكسون.


أليس عجيبا أن نرى الصهاينة يجمعون اليهود في فلسطين على أساس ديني ويبيحون تشكيل الأحزاب الدينية, والمحافظون الجدد في أمريكا يناقشون أمور الدين ويختلفون مع العلمانيين, ونحن نغرق في فوضى المفاهيم وطرائق التفكير, ويطالب (طه حسين) في أوائل القرن الماضي بأن تكون مصر غربية أوروبية عندما يقول (ليس بيننا وبين الأوروبيين فرق في الجوهر ولا في المزاج وليس بين الشعوب التي نشأت حول بحر الروم(1) فرق عقلي أو ثقافي وإن من أسخف السخف الذي ليس بعده سخف اعتبار مصر جزءا من الشرق وأن التعليم الجامعي يجب أن يعتني بهاتين اللغتين: اليونانية واللاتينية)(2)
وفي هذه الفترة من تاريخنا المعاصر التي دعا فيها طه حسين إلى الالتحاق بالغرب نجد أن  الوزير المصري عبد العزيز فهمي باشا يدعو إلى كتابة الحرف العربي باللاتينية, كما دعا إلى ذلك الشاعر اللبناني سعيد عقل, وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على تهور وتكبر عن التعقل ونفاق لأعداء الإسلام, وهي دعوة فاشلة لا يقول بها إلا من لا يدري قيمة العربية وعظمتها.


كانت الهوية واضحة عند الشيخ عبد الحميد بن باديس (رئيس جمعية العلماء في الجزائر) عندما أعلنها صريحة أن الجزائر عربية إسلامية, والشيخ ينحدر من أعرق العائلات البربرية في المغرب العربي, وهكذا كان الأمر عند الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي وهو يقود الريف في وجه الزحف الاستعماري والريف أغلبه بربر. وهكذا كان الأمر في بلاد الشام ومصر والعراق إلى أن وسوس الشيطان لزعماء سياسيين يريدون استغلال الشعوب المغفلة والجاهلة لهويتها الحقيقية وراحوا ينادون بالانسلاخ عن الإسلام والعروبة وما يجري اليوم في العراق أكبر مثال على ذلك.


    الإسلام:
    إن غالبية الشعوب التي تقطن المنطقة العربية تدين بالإسلام, فهل تتجرد هذه الشعوب عن دينها؟ إن هذا مستحيل, فهذا الدين دخل في شغاف قلوبها, وأصبح هو وطنها والإسلام حتى عند الجماهير غير المتعلمة ليس صلاة وصياما وحجا فحسب ولكنه منهج مهيمن في مجتمع متميز عن بقية المجتمعات, وهذا الدين هو الذي حماها من الغارات المتكررة العسكرية والفكرية, ولا يمكن لهذه الأمة أن تتحول إلى الإلحاد الذي ما سرى في أمة إلا ورجعت القهقرى ومن يتجاهل هذا الأمر فهو إما مغفل لا يدري ما يفعل أو مسخر من قبل أعداء الإسلام.                                                 


التدين نزعة فطرية عند الإنسان ولا مجال لتصور الإنسان دون إيمان كما لا مجال لتصوره دون قلب, فماذا تكون هوية الإنسان في المنطقة العربية التي غالبيتها مسلمين. والإسلام هو الدين الجامع الكفيل بأن يهدي البشر إلى أقصى غايات التقدم وأسمى منازل الارتقاء وعندما نقول (الهوية) فإنما نعني شيئاً ثابتاً دائماً مهما تغيرت الظروف أو تقلبت الأحوال أو تقدمت العلوم. جاء في صحيح البخاري عن طارق بن شهاب أن اليهود قالت لـ(أمير المؤمنين) عمر بن الخطاب (إنكم تقرؤون آية لو نزلت فينا لاتخذناها عيدا) يعنون قوله  - تعالى- :"اليوم أكملت  لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا" فإذا كانت أمة من المناوئين للإسلام الحاسدين لأهله قد قالوا في آية واحدة: إنها لو نزلت فيهم لاتخذوها عيداً فكيف يكون الأمر إذا نظرنا إلى القرآن العظيم كله.
 
    إن كل المشاريع الليبرالية والعلمانية فشلت في إنجاز أي مهمة كبيرة لأنها كانت تستبطن أحيانا وتظهر أحيانا كثيرة العداء للإسلام وأهله. هؤلاء الليبراليون الذين ينادون بشعار الحرية هم أبعد الناس عنها حين يريدون تشكيل عقول الناس حسب إرادتهم, ويمارسون أسوأ أنواع الاستلاب العقلي كما قال – تعالى-: "أرأيت الذي يكذب بالدين" إنهم يدرسون المجتمعات العربية وكأنها مرت بالمراحل نفسها التي مرت بها المجتمعات الغربية, فأين العلم وأين المنهجية؟ وبعد أن نجح الأعداء في تفريغ المجتمع الإسلامي من تطبيق الشريعة راح هؤلاء يكملون الطريق بتفريغه من العقيدة ثم بالتشكيك باللغة العربية وعدم قدرتها على تبني العلم الحديث.
      أما غير المسلمين الذين عاشوا طوال القرون الماضية مع المسلمين وتحت ظل الحضارة الإسلامية, هؤلاء مسلمون حضاريا, نصارى دينا وعقيدة, وهم كما قال أحد عقلائهم (مكرم عبيد): " نحن مسلمون وطنا ونصارى دينا " وكما قال غيره: لا يوجد عربي غير مسلم, فالإسلام هو تاريخنا ولغتنا وأما الذين يثيرون ما يسمى بموضوع (الأقليات) وربما ينخدع بهم بعض المغفلين, هؤلاء لا يريدون خيرا بالأوطان ولا بالأمة, ومعروف من يحرك هذه النعرة ومن يثير هذه البلبلة كما يثيرون قضايا كثيرة لا أصل لها من الواقع المعاش أو من الواقع التاريخي. أما إذا كان المقصود إبعاد الإسلام بحجة مراعاة شعور الأقليات فهذا لا يقره عقل ولا شرع, إن الإسلام قرر لمعنى الإنسانية ما يشترك البشر جميعا من الحقوق التي منها: حفظ النفس وحرمة المعتقد وحرمة الأعراض فالذين خوطبوا بهذه الدعوة منهم من استجاب ومنهم من لم يستجب والذين لم يستجيبوا بقي لهم الحقوق الإنسانية الأصلية:  حقوق البقاء على النفس والإبقاء على الكرامة والحريات.  


العروبة:
    أحدث الإسلام نقلة نوعية حين عدّ الانتماء العربي هو انتماء إلى اللغة العربية وهذه نقلة حضارية، وقد جاء في الحديث " ليست العربية بأحدكم من أم ولا أب وإنما هي اللسان, فمن تكلم بالعربية فهو عربي" .
    فهذه اللغة الشريفة هي الخطوة الأولى لفهم القرآن فهماً صحيحاً, قال – تعالى-: "نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين" [الشعراء/129]  ومن أجل هذا أحاط المسلمون هذه اللغة حياطة قوية يحرسونها كما يحرسون القرآن فهذه اللغة هي حاملة تراثنا وثقافتنا, وهي الأصل الذي لا يمكن أن ينفصل عن ديننا, وهي اللغة التي نستطيع أن نمحو بها أمية الشعوب العربية والإسلامية. وعندما نتحدث عن العروبة فإننا لا  نتحدث عن الأصل العرقي, ولا عن جاهلية فوقية فالأعراق تنصهر بالتزاوج والتساكن والتحضر والتنقل, فالشعوب المسلمة غير العربية هي عربية عندما تتكلم هذه اللغة  وتجعلها حاملة للثقافة والحضارة. وأما بروز النزعة العرقية الجاهلية عند بعض المسلمين من غير العرب والذين يسكنون المنطقة العربية فما هي إلا وساوس شياطين الإنس بدعم من عداوة غربية معروفة, وقد عاشت شعوب المنطقة العربية حياة مشتركة وثقافة مشتركة تحت ظل الإسلام وأصبحت هذه الأمة (العربية) هي الجزء الأعظم من الأمة الإسلامية, لأنها القائمة على لغة القرآن وما يكره هذه اللغة أو هذه الأمة إلا من أصيب بداء الشعوبية, والرد على (القومية العربية) العنصرية التي جعلت نفسها مقابلة للإسلام والإيمان, إن الرد لا يكون بدعوة قومية عنصرية شعوبية وإنما  بالرجوع إلى الأصل الأصيل وهو الإسلام وهو الأصل الجامع, وحب اللغة العربية واجب على كل مسلم. وإذا كان من الصعوبة تعليمها لكل الشعوب الإسلامية ولكن محبتها يجب أن تكون في قلوبهم, ومحاولة تعلمها يجب أن تكون من أهدافهم. وليس انتشار لغة واحدة بدول كثيرة وشعوب مختلفة بالأمر الغريب والمستهجن, فالإنكليزية لغة لثمان وأربعين دولة. وقد تكون اللغات الأخرى لغة المنزل والحديث مع الأصدقاء ولكن العربية هي لغة العلم والثقافة.


      عاش المسلمون عرباً وأكراداً وبربراً... تحت مظلة الحضارة الإسلامية وليس بينهم أي حساسية عرقية أو قومية. وقد قامت دول كبرى من قبائل (أمازيغية) ووحدت المغرب العربي بكل قبائله وقامت دول من أصول عربية كالأدارسة والسعديين دون أن تجد أي شريحة اجتماعية غضاضة في ذلك ولا قام نزاع داخل الدولة(3) والأسماء اللامعة في التاريخ الإسلامي مثل طارق بن زياد ونور الدين وصلاح الدين والظاهر بيبرس وأمثالهم إنما برزوا بالإسلام, وباحتضان الشعوب العربية والإسلامية لهم. ولم يتميزوا عن جمهور الأمة بلغة أو ثقافة, فالعروبة ليست عنصراً وإنما هي لغة وانتماء عقدي وحضاري إننا في هذه الظروف الصعبة نحتاج إلى دراسة أحوالنا ومجتمعاتنا دراسة موضوعية علمية, لا يتخللها ردود الأفعال ورذيلة التعالم والتشامخ, وإن الأمم لا يصلحها باب واحد من الإصلاح وإنما نظرة متكاملة بدءاً من إصلاح الفرد, وأن تتحول إلى أمة تعرف غاياتها, ولا ينقض كل واحد ما بناه الآخر, وأن نعلم أن ما تعانيه البشرية اليوم من عذاب ونكد ليس له إلا سبب واحد وهو الابتعاد عن الله والتكبر عن الخضوع لشرع الله.         



---------------------------------------------------------
1- لاحظ أن التسمية عند الدكتور طه حسين
2- انظر:/ طه حسين: مستقبل الثقافة في مصر
3- عبد الكريم الغلاب: قصة المواجهة بين المغرب والغرب / 249