الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين, وعلى من اقتفى آثرهم وسلك سبيلهم بإحسان إلى يوم الدين, وبعد:
ها قد جاء رمضان, أياماً معدودات أسأل الله أن يوفقني وإياكم فيه لما يحب ويرضى, ولعل من الملاحظ عند دخول الشهر بعض القضايا المنهجية التي تتعلق بالصيام ويحسن التنبيه إليها.
وهي أنه ما أن يهل الهلال ويستبشر المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها ببزوغ قرنه حتى يطل رأس النفاق وتحاول العلمانية البئيسة التي صفد أعوانها دس أنفها المريض, وفتح فاها لتبعث منه ما يزكم الأجواء. فأحدهم يشكك في الصيام لاختلاف الأمصار, وآخر يطعن في العلماء لاختلاف المطالع, وثالث ظفر بفتويين متباينتين في مسألة من مسائل الصيام التي ما أن يجيء الشهر حتى يكثر السؤال عنها فتراه يبرزهما في كل حين ليثبت تناقض الدين !
وباختصار يريد المنافقون أن يقولوا: لا يحق لكم يا معشر الدعاة والعلماء والمشايخ أن تختلفوا, فإذا اختلفتم دل ذلك على عدم صلاحية ما عندكم, أو على عدم صلاحية أهل الفتوى لديكم. وبعض المساكين يغتر بمثل ذلك, والحق الذي ينبغي أن يعلم أن الاختلاف سنة كونية ماضية في الأمم جميعاً, "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ" (هود:118) .
ثم إن الخلاف واقع في العلوم جميعاً, لتباين الأفهام وورود الأوهام, ولاختلاف العلوم والآلات ولأسباب كثيرة ليطلبها من يريدها في رفع الملام عن الأئمة الأعلام لشيخ الإسلام _رحمه الله_. هذا وما زال الأطباء يختلفون, والمهندسون يختلفون, وهكذا سائر أصحاب العلوم التجريبية وما سمعنا يوماً واعظاً علمانياً يدعي عدم صلاحية الهندسة أو يطعن في علماء تلك العلوم ومختصيها أو يصفهم بالجهل والتناقض !
ولكن عندما تأتي الشريعة ويأتي أهلها يأتي تناقضهم . وفي القرآن نموذج لاختلاف نبيين كريمين في الحكم على مسألة واحدة, "وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ"(الأنبياء), ومع ذلك لم ينقص ذلك من قدرهما, وحتى لا يسبق ذلك إلى الذهن فيظن ظان أن جواب الولد الموافق للحق يدل على قصور ونقص في الأب _عليهما السلام_ قال _سبحانه_: "فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ * وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ" (الانبياء:79-80), وبين فضلهما وما آسبغ عليهما من النعم في سورة النمل قال _تعالى_: "وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ" (النمل:15),
فهذا الاختلاف إذاً لم ينقص من قدرهما, ولم يبخس من علمها مع أن الصواب كان واحداً لا تناقض فيه. وكذلك قل في الخلاف الذي جرى في عصور الصحابة, في مسائل أكثر من أن تحصر, بل إن النبي _صلى الله عليه وسلم_ أعلم الخلق المسدد بالوحي يقول في قضايا لو استقبلت من أمري ما استدبرت لفعلت كذا وكذا, ولئن بقيت إلى كذا لأفعلن كذا, وكم أجاب _صلى الله عليه وسلم_ على سائل ثم ناداه وقال له: أعد علي ما قلت, ثم يجيبه إجابة أخرى, أو يزيد على الإجابة الأولى إيضاحاً أو ويضع لها قيداً ونحو ذلك, كما في قصة الأعمى الذي سأل عن الصلاة في المسجد, وقصة الذي سأله عن الشهيد هل يغفر له كل ذنب وغيرهما. فإذا كان العلم قد يرى رأياً ثم يرى أولى منه آخراً, فما بالكما باثنين ؟
وكيف يعيب عاقل من اختلفا واختلاف العقول وقدراتها جبلة وخلقة, وتباين المعلومات متعلق بحصولها ووصولها, فكل هذا يدل على أن الاختلاف في الاجتهادات السائغة لا ينقص من قدر أصحابها المختلفين, ولا يطعن في أصل الدين, فلينتبه لدسيسة المغرضين في هذا الشهر الكريم
والحمد لله رب العالمين