أنت هنا

تأملات نقدية في مداخلة فوكوياما (3/3)
20 شوال 1426

استعرضنا في الحلقة الثانية بعض الملاحظات النقدية الموجهة لنظرية فوكوياما، والتي وقع في إشكالياتها دون أن يستطيع تفسيرها أو عرضها أو شموليتها بنظريته الخاصة.
ونتابع هنا بعض الملاحظات النقدية، ونبدأها بـ:

الملاحظة السادسة- تفسير الظاهرة الإسلامية:
يبدو أن فوكوياما اجتهد في امتلاك ما يمكن أن نصطلح عليه تجاوزا "تفسيرا للظاهرة الإسلامية" تعتمد مقاربته للظاهرة الإسلامية على ثلاث نقاط:
1 ـ الظاهرة الإسلامية ليست استماتة ثقافية، ولكنها مجرد حالة تاريخية، وهي تعتمد قراءة معينة للنص الديني.
2 ـ الظاهرة الإسلامية ليست فكرا أصيلا منطلقا من ثقافة الأمة، وإنما هي نتاج تجميع لحاصل الأفكار الغربية الراديكالية، وتأويل لها وصياغة مركبة لها في قالب يستثمر النص الديني للوصول إلى أهداف سياسية.
3 ـ "الإرهاب الجهادي" المتمثل في ظاهرة أسامة بن لادن هو نتاج الدعم المالي للمملكة العربية السعودية التي تنصر هذا النوع من الفهم المتطرف للإسلام.

والواقع: أن هذه الأفكار لم تنل حظاً من الرصيد المعرفي ولا من حسن التركيب والصياغة والرجل، وإن كان قد تحدث عن حسن البنا وسيد قطب والإخوان المسلمين، فلم يزد على ذكرهم بالاسم، وواضح أن الرجل لم يتتبع الرصيد المعرفي لكسب الحركة الإسلامية، ولم يتتبع التطورات الفكرية التي رافقتها، ولا علم منازع التفكير عندها ومشاربه، مما يزيد الملاحظة السابقة تأكيداً، وهو أن أفكاره أبعد ما تكون عن النظرية وأقرب ما تكون إلى البرنامج السياسي.
والمتأمل في كسب الحركة الإسلامية، ورصيدها المعرفي الإخواني وغير الإخواني يلمس استحالة تأثر الحركة الإسلامية في تأصيلها ومصادر تفكيرها بالفكر الأوروبي الراديكالي.
بل على العكس من ذلك، فلقد خاضت الحركة الإسلامية، في تعبيرها القطبي تحديداً، صراعاً فكرياً عميقاً مع نوازع التفكير الغربي، كما تأثرت الحركة الإسلامية ذات المنزع المعتدل، وهي التيار الأغلب، بقيم الانفتاح والحداثة خاصة تلك التي لا تتأطر بالحمولات العقدية، فقد انفتحت الحركة الإسلامية على الديمقراطية وعلى العولمة وعلى مفاهيم حقوق الإنسان بما يسمح بالاستنتاج المعاكس لمنظور فوكوياما.

والأجدى لمفكري الغرب ممن لا يحتكون بمشارب الفكر الحركي الإسلامي، أن يترفعوا عن الانزلاق إلى مواقع الاستخدام الإيديولوجي للموضوعات إلى رحابة التلقي المعرفي، ولقد أثبتت الوقائع استعداد الحركة الإسلامية لبسط خطابها ومصادر تفكيرها، بل وانخرطت في منتديات للحوار مع الغرب مبينة ثوابتها وقيمها، ووسائل اشتغالها السلمية (نموذج حوار حماس وحزب الله مع المثقفين الأمريكيين القريبين من صناع القرار الأمريكي في بيروت).

الأمر الثاني البالغ الأهمية، والذي يدعو إلى الذهول والاستغراب هو السؤال: ماهو المنطق الذي اعتمده فوكوياما في الإثبات والنفي في الظاهرة الإسلامية.
ـ "هي ليست استماتة ثقافية" هذا نفي.
ـ "هي حالة تاريخية استثنائية" هذا إثبات.
فغياب المنطق المفسر يدل على تهافت هذا الطرح، ذلك التهافت الذي تؤكده أكثر المعطيات الواقعية، فأغلب المقاومات الحقيقية للمشروع الأمريكي هي ذات توجيه إسلامي أو تأطير وطني. وهي ليست مقاومة عارضة لكنها مؤثرة وأصيلة. ولقد استطاعت أن تربك السيناريوهات الأمريكية (حزب الله في لبنان ـ هيئة علماء المسلمين في العراق ـ المقاومة الإسلامية الوطنية فلسطين ـ المقاومة الشعبية الإسلامية في أفغانستان. . . ).

الأمر الثالث: إن تفسير ظاهرة "تنظيم القاعدة" بذلك الاختزال السطحي يدل على أن الأمر يتعلق بتوجه سياسي، يستهدف فرض أجندة سياسية على المملكة العربية السعودية بقصد إلغاء شرعيتها الدينية وتهميش حضورها الثقافي والوطني والإسلامي البارز، فالسيناريو الصهيوأمريكي يتطلب تغييراً في المنطقة، ذلك التغيير الذي يمس أساساً المحور السوري اللبناني، ويستهدف الضغط على السعودية ودفعها في اتجاه علمنة المؤسسات، وإلغاء الشرعية الدينية. . . ومن ثمة فتفسير ظاهرة القاعدة "بالدعم المالي للسعودية لهذا النوع من الفهم للإسلام" يقصد أمرين:
ـ اتهام المملكة، وفي ذلك تبرير سياسي كاف لفرض الأجندة الأمريكية في المنطقة.
ـ الإشارة إلى الجانب المالي، والقصد من ذلك تبرير التوجه نحو التحكم في مصادر النفط في المملكة.
أعتقد، هذه هي القراءة التي تناسب هذا التفسير الوارد في أفكار فوكوياما لا باعتبارها نظرية، ولكن باعتبارها برنامجاً سياسياً.

الملاحظة السابعة: الاقتصاد والقيم:
لا ينكر أحد أن لتطور وسائل الإنتاج بعض التأثير على أنماط العلاقات السائدة، وعلى طريقة التفكير أيضا، لكن هذا التأثير لا يرقى ليمس قاعدة النسق الثقافي جملة، والذي يفسر فاعلية العامل الاقتصادي في تغيير الأنماط الثقافية في أمريكا وأوربا هو قابلية القاعدة التي يتأسس عليها النسق الثقافي للتغيير، فقاعدة النسق الثقافي الغربي تتأسس على نزعة الفردانية وهي نزعة متكيفة مع تحولات الاقتصاد، وخاضعة لتأثيراته، بخلاف النسق الثقافي في العالم الإسلامي الذي يعتمد الجماعة المؤسسة على الرابطة الدينية. فهذه القاعدة لا تسمح إلا بالتغبير في بعض فروع وأنماط السلوك دون أن يصل الأمر إلى التغييرات الجذرية التي تمس أصول النسق الثقافي والاجتماعي، ويمكن لنا أن نتأمل ردود أفعال المجتمع الإسلامي من جملة من القضايا خاصة تلك التي لها تعلق بالأسرة والمجتمع، والمتأمل لبعض أنماط السلوك التي تخرج عن إطار القاعدة يجدها غير مؤطرة بذات القناعة الفكرية الغربية التي تتيح للفرد أن يتصرف باعتباره حراً، وإنما هي انزلاق غير واع لا يلغي القاعدة التي بني عليها النسق الثقافي، بل يزيد في تأكيدها في الوعي الجمعي للأمة.
وتلك ملاحظات ترد على نظرية فوكوياما التي لا تعير اهتماماً لاختلاف الأنساق الثقافية، وتغاير المعادلات الاجتماعية في كل من الغرب والعالم الإسلامي.

الملاحظة الثامنة- وقوف قطار التحديث الأمريكي:
لعل المتأمل في ارتفاع أسعار النفط وارتباط كل ذلك بالمشروع الأمريكي في المنطقة يعطي نظرة واضحة على مآلات الوضع لو بدأ التطبيق الفعلي لبقية أجندة مشروع الشرق الأوسط الكبير.
إن الرهان على الأجندة الأمريكية قد يؤدي إلى تدهور مأزقي في الاقتصاد العالمي، ذلك التدهور الذي قد يمس قطار التحديث الأمريكي بشكل مباشر. فإذا انضاف إلى هذا التدهور اختلال الأمن، وضعف السيطرة على بعض الدول واحتمال ظهور تكتلات معادية للعولمة وذات تعبيرات سياسية سلمية قوية. فإذا تضافرت هذه العوامل. وفشلت الخطة الأمريكية في فلسطين، واختل الوضع الأمني في العراق. وفشلت الاستراتيجية الأمريكية على المحور السوري اللبناني وتدشنت عمليات الإصلاح المؤطرة بالمضمون الوطني داخل النظم السياسية. . . فإن الأمر حتما سيدفع الفاعل الأوربي إلى أخذ المبادرة التاريخية بنحو أقرب إلى منطق النفعية الواقعية، وهذا بالتأكيد سيكون على حساب قطار التحديث الأمريكي.

الملاحظة التاسعة- في نهاية التاريخ:
لعل المتأمل في مسار المقاومة للهيمنة الأمريكية وآثارها على المستوى الاقتصادي والسياسي أولا. ثم على رصيد الممانعة الثقافية ثانيا، يدرك إلى أي حد يمكن أن يربك هذا السيناريو حسابات نظرية نهاية التاريخ. وهكذا ومع تطورات الحدث تنضاف المقاومة الأفغانية إلى العراقية فالفلسطينية فالسورية فاللبنانية فالسودانية. . . لتشكل الجبهة الأوسع للممانعة الثقافية التي تؤذن ليس بنهاية التاريخ وإنما بنهاية نهاية التاريخ.

الملاحظة العاشرة- في بداية التاريخ: مقدمات في مشروع التحديث الإسلامي:
أختم ملاحظاتي بالتجربة التحديثية التي يسعى المشروع الإسلامي إلى تشييدها: المشروع التركي المراهن على التنمية الاقتصادية والتنمية السياسية في ارتباط مع الهوية الثقافية في واقع سياسي يخضع لمعادلة صعبة، هذا المشروع يستطيع إذا تحقق له النجاح أن يؤسس لبداية التاريخ. التاريخ الذي لم يبدأ ولعل المقدمات الأولى لمشروع التحديث الإسلامي تؤذن حقيقة بهذه البداية.