في بداية القرن العشرين كانت الدول الأوروبية في حالة هستيرية من التنافس على اقتسام العالم الإسلامي واحتلال ما يقدرون عليه من قارتي آسيا وأفريقيا، وكانت فرنسا قد احتلت المغرب العربي: الجزائر وتونس والمغرب، وكان من نصيب إسبانيا احتلال منطقة (الريف) وهي الجزء الشمالي من المغرب المطل على البحر المتوسط، بعد أن أذنت لها بريطانيا في ذلك.
لم يهنأ الإسبان باحتلالهم للريف، فقد ثار عليهم الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي، وتغلب عليهم في عدة معارك، وقامت فرنسا وقعدت لهذه الانتصارات الريفية، وهي لا تطيق استقلالاً إسلامياً بجوارها وجوار الجزائر، ولذلك تحالفت مع إسبانيا للقضاء على الخطابي وحركة الجهاد التي قادها.
وبعد سنوات من المقاومة لفرنسا وإسبانيا لم يستطع الريفيون الاستمرار لقلة العدد والعدة واستسلم بطل الريف حقناً للدماء، ونفته فرنسا إلى جزيرة من جزر المحيط الهندي، والملفت للنظر أن العالم الإسلامي بأجمعه تخلى عن مساعدة المقاومة الريفية، ولم يتلق الخطابي أي دعم يذكر، ويعلق الأمير شكيب أرسلان موضحاً أسباب هذا الضعف وهذه الانهزامية والسلبية، وترك إخوة يقومون بجهد يكاد أن يكون من الأساطير، يقول:
"وكان من أسباب ذلك:
1- فشو الاعتقاد في تركيا ومصر وغيرها من البلاد العربية بأن وسم قضايانا بـ(إسلامية) يضرُّ بنا ويحفز الأوربيين على التألب علينا، بينما لو أظهرنا قضايانا على أنها (وطنية) أو (قومية) خالية من صبغة الدين لما وجدت أوروبا بأساً من إعطائنا الاستقلال، فهذه الدول والأحزاب المؤيدة لها يفرون من (الإسلامية) مراعاة لخواطر انكلترا وفرنسا، ولكن هذا لم يُفِدْهم شيئاً وخسروا الدين والدنيا.
2- كانت طبقة من يسمون أنفسهم بـ(المثقفين) قد انبهرت بأوروبا، واعتبروا أن كل مقاومة لها لا تأتي إلا بالخسران، ويعتبرون موقفهم هذا من التعقل والحكمة"(1).
ليت الذين يخشون من (الإسلامية) ويتسترون بالشعارات الأخرى إرضاء للغرب، ليتهم يدركون أن الغرب يعرف أكثر مما يعرفون، ويعلم أن هوية هذه الأمة هي الإسلام ولو أن العلماء والمثقفين خاطبوا الغرب صراحة بـ(الإسلامية) لكان ذلك أقرب الطرق لحل كثير من المشاكل، وأما المثقفون الذين يدَّعون التعقل فهم أقل الناس إيماناً بالقيم التي يتكلمون عليها، وهم أكثر الناس جشعاً للمال والموائد الفاخرة والثرثرة في المقاهي، ولسان حالهم يقول كما قال الشاعر قديماً عن تغلغل اليهود في الدولة العبيدية (الفاطمية):
يهود هذا الزمان قد بلغوا | غاية آمالهم وقد ملكوا | |
العز فيهم والمال عندهم | ومنهم المستشار والملك | |
يا أهل مصر إني نصحت لكم | تهودوا فقد تهوَّد الفلك |
_____________
(1) انظر: حاضر العالم الإسلامي وتعليقات الأمير شكيب أرسلان حول ثورة الريف والأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي.