أنت هنا

حفظ الدين
1 محرم 1427

أعظم المقاصد وأجل المطالب هو حفظ الدين، بمعنى تجريد العبودية لله _تعالى_ لا شريك له. يشير إلى هذا شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: "معرفة رب العالمين غاية المعارف وعبادته أشرف المقاصد والوصول إليه غاية المطالب، بل هذا خلاصة الدعوة النبوية وزبده الرسالة الإلهية"(1).

ومقصد حفظ الدين يقوم على أصلين – كما يقرر ذلك الشاطبي - رحمه الله- في الموافقات:
الأول: حفظ الدين من جانب الوجود، وذلك بالمحافظة على ما يقيم أركانه ويثبت قواعده.
الثاني: حفظ الدين من جانب العدم وذلك برفع الفساد الواقع أو دفع الفساد المتوقع(2).

وحفظه من جانب الوجود يكون بخمسة أمور:
العلم... والعمل به... والدعوة إليه... والحكم به... والجهاد من أجله.

والعمل بالدين - يدخل في ذلك العلم والدعوة والتحاكم والجهاد - له حد أدنى لا يسع أحدا تركه وهو القيام بالواجبات وترك المحرمات وحد أعلى وهو فعل المندوبات وترك المكروهات(3).

كما أن هناك أمور في الشريعة واجبٌ فعلها على كل مكلف، وهو ما يعرف عند الأصوليين بـ(الواجب العيني)، وهناك أمور في الشريعة يكون فعلها واجب على الجميع ويسقط بفعل البعض لها وهو ما يعرف عند أهل الأصول بـ(الواجب الكفائي).
ثم الناس في القيام بالشريعة على مراتب ثلاث - هي مراتب الدين -: مسلمون ومؤمنون ومحسنون.

وجَدَتْ في عصرنا وسائل عظيمة الأثر نستطيع من خلالها الحفاظ على ديننا - بتعليمه والدعوة إليه-، مثل مواقع شيوخ الصحوة - حفظهم الله تعالى - وبعض القنوات الفضائية كقناة المجد، وهذا من شأنه أن يضاعف على أهل العلم وطلابه تبعات حمل الأمانة وارتياد هذه الوسائل من أجل الحفاظ على دينهم.

والأصل الثاني هو: حفظ الدين من جانب العدم.
والعلم بهذا الأصل من الضرورة بمكان، ولا بد من تفعيل تلك الوسائل التي من شأنها صيانة الملة وسد أبواب الذرائع المفضية إلى ذهاب الدين بالكلية أو ضعفه في نفوس أتباعه.
وهذا الجانب- أعني حفظ الدين من جانب العدم – مما شهدت له النصوص الصحيحة الصريحة من الكتاب والسنة النبوية المطهرة.
فكتاب الله الكريم قد بين ضلال أهل الكتاب وكشف زيفهم وأنهم ليسوا على شيء، وحاجهم وأبطل زعمهم في القول بأن الله هو المسيح بن مريم أو القول بأن المسيح ابن الله ـ تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً ــ وفي دعوى الصلب والفداء.
والسنة النبوية المطهرة تعرضت لمذهب المخالف من اليهود والنصارى وعباد الأوثان ومن لا دين له وحذرت من مسالكهم بل ونهت عن التشبه بهم.

وفي هذا - وغيره - دليل على أن حفظ الدين من هذا الباب مقصود للشارع بل عده شيخ الإسلام مقصدا مستقلا لعظيم وقعه وخطورة أثره. وقد أولاه علماء الإسلام عناية عظيمة وسطروا في ذلك أروع المواقف في الذب عن حمى الدين عقيدة وشريعة(4). يقول ابن تيمية- رحمه الله-: "ولهذا مضت السنة بأن الشروع في العلم والجهاد يلزم كالشروع في الحج.

وعلم الجهاد ليس له إضاعته... وكذلك الشروع في عمل الجهاد. فان المسلمين إذا صافوا عدوا أو حاصروا حصنا ليس لهم الانصراف عنه حتى يفتحوه... ويقول أيضاً: فالمرصدون للعلم عليهم للأمة حفظ علم الدين وتبليغه فإذا لم يبلغوهم علم الدين أو ضيعوا حفظه كان ذلك من أعظم الظلم للمسلمين.. ويقول:ولهذا جبل الله قلوب الأمة على أنها تستعظم جبن الجندي وفشله وتركه للجهاد ومعاونته للعدو: أكثر مما تستعظمه من غيره. وتستعظم إظهار العالم الفسوق والبدع أكثر مما تستعظم ذلك من غيره..ومثل ذلك ولاة الأمور كل بحسبه من الوالي والقاضي فان تفريط أحدهم فيما عليه رعايته من مصالح الأمة أو فعل ضد ذلك من العدوان عليهم: يستعظم أعظم مما يستعظم ذنب يخص أحدهم "(5).

ولم تواجه أمتنا عدوانا أوسع ولا أشرس مما تواجهه اليوم. ومما تواجهه أمتنا في بقاع كثيرة وعلى أصعدة مختلفة الحملات التنصيرية المباشرة وغير المباشرة. وهذا ليس بسر ولم يعد خافيا على أحد له أدنى عناية بأحوال المسلمين في أفريقيا أو آسيا أو غيرها. لكن الأمر الجدير بالذكر هو النقلة النوعية التي طرأت على الحملات التنصيرية بعد أحداث 11 من سبتمبر وظهور البعد الديني في السياسة الأمريكية وتسخير معطيات التقنية الحديثة في سبيل التنصير. مع تنامي الأصولية المسيحية حتى أصبحت تشكل جماعات ضغط سياسي تعبر عن تلازم الدين والسياسة في المجتمع الأمريكي وفي العقود الأخيرة ظهر اسم جديد للأصوليين المسيحيين في أمريكا وهو(المسيحيون المولدون من جديد) والذين تصل نسبتهم إلى 41 % من مجموع المسيحيين في الولايات المتحدة والدلائل تشير إلى ارتفاع عددهم سنة بعد سنة وجميعهم تقريبا يعتقدون أن الكتاب المقدس"صادقا تماما" في كل ما جاء به، ويرى 76% منهم أن واجبهم الديني يتطلب منهم نشر معتقداتهم، ويرى 98% منهم أن الدين يلعب دوراً هاماً في حياتهم، وينتمي 62 % منهم إلى كنائس بروتستانتية مقارنة ب22 % من الكاثوليك(6).

وهذا يفسر تضاعف الهجوم على كل مقدس في الإسلام من امتهان كتاب الله _تعالى_ والطعن في رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ومن يلج غرف (البالتوك) يدرك مدى الخطر الذي يتهدد أبناء الإسلام وفي ذلك يقول شيخ الإسلام- رحمه الله-:"أما انتهاك عرض رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فإنه مناف لدين الله بالكلية فإن العرض متى انتهك سقط الاحترام والتعظيم فسقط ما جاء به من الرسالة فبطل الدين فقيام المدح والثناء عليه والتعظيم والتوقير له قيام الدين كله وسقوط ذلك سقوط الدين كله. وإذا كان كذلك وجب علينا أن ننتصر له ممن انتهك عرضه والانتصار له بالقتل لأن انتهاك عرضه انتهاك لدين الله.. ويقول أيضا:..فإن الساب انتهك حرمة الرسول- صلى الله عليه وسلم- وغض قدره وآذى الله ورسوله وعباده المؤمنين وجرأ النفوس الكافرة على اصطلام أمر الإسلام وطلب إذلال النفوس المؤمنة وإزالة عز الدين وإسفال كلمة الله، وهذا من أبلغ السعي فسادا، والإفساد قد يكون باليد وقد يكون باللسان وما يفسده اللسان من الأديان أضعاف ما تفسده اليد كما أن ما يصلحه اللسان من الأديان أضعاف ما تصلحه اليد. فثبت أن محاربة الله ورسوله باللسان أشد والسعي في الأرض لفساد الدين باللسان أوكد فهذا الساب لله ورسوله أولى باسم المحارب المفسد من قاطع الطريق"(7).

وهذا النيل من رسول الإسلام عبر أضخم وسيلة إعلامية وهي الانترنت القصد منه خلخلة الدين وتشكيك المسلمين في نبيهم- عليه الصلاة والسلام-. وليس الأمر ناتج عن مجموعة أشخاص أو مؤسسة أو دولة بل هو أكبر من ذلك، ففي دراسة للدكتور عبدالرحمن أحمد عثمان (عضو هيئة التدريس بجامعة الخرطوم) عن جوانب في الشأن الإعلامي للجمعيات والمنظمات الإسلامية في مواجهة الهجمات التي تشن على الإسلام توصل فيها إلى:"أن العديد من الآليات الغربية تعمل متناغمة للهجوم على الإسلام وعلى رأسها المنظمات الدولية ومؤسسات المجتمع المدني الغربي وجمعيات العمل التطوعي والجمعيات التنصيرية والدول الغربية وقد استخدمت هذه الآليات العديد من الوسائل مثل: الهجمات العسكرية الحربية المباشرة والأجهزة الإعلامية المختلفة بما فيها السينما والمسرح والآداب (آيات شيطانية- مائدة على أعشاب البحر) وقنوات البث الفضائي والانتقاء الخبري في الصحف والمجلات وشبكات الاتصال الالكترونية"الانترنت" التي استغلت لبث القرآن المحرف.

ومن بين الوسائل التي استخدمتها آليات الهجوم ضد الإسلام: التعليم والخدمات الصحية والعون الإنساني لاستغلال الفقر والجهل والمرض. لقد استخدمت هذه الآليات النظم الاقتصادية لإفقار الشعوب الإسلامية من خلال اقتصاد السوق في القرن التاسع عشر والاقتصاد التنافسي الحر في القرن العشرين والاقتصاد العولمي في الألفية الثالثة.. فتدخلت المنظمات الطوعية الغربية لاستغلال الفقر والجوع لتهشيش الأرض تحت أقدام الجمعيات التنصيرية وتحويل قناعات المسلمين إلى العقائد النصرانية وقد استدلت الدراسة على ذلك بأمرين:
الأول: مشروع تنصير(قبيلة الفولاني) في (مالي) ومشروع تنصير (المساليت) في (تشاد).
الثاني: أقوال المراقبين الغربيين المحايدين أن منظمة الأمم المتحدة والمنظمات الدولية الأخرى لم تعد أجهزة مستقلة ممثلة لشعوب العالم وإنما غدت في أعقاب الحرب الباردة آليات لاقتلاع الثقافات المحلية والأديان واستبدالها بثقافات العولمة"(8).

ولا ريب أن حفظ الدين من جانب العدم لا يتحقق إلا بحفظه من جانب الوجود. وحفظه من جانب الوجود لا يتم إلا بحفظ بقية الضروريات من العقل والنفس والمال والنسب، ولهذا فمواجهة التنصير تستلزم أعمالا مؤسسية تحفظ على المسلمين دينهم وعقولهم وأموالهم وأنفسهم وأعراضهم. واعتبر شيخ الإسلام حفظ النفس والنسل مكملين لحفظ الدين وأنكر على من تركوا من الأكل والشرب والنكاح ما يحتاجون إليه وما لا يتم مصلحة دينهم إلا به(9).

_______________
(1) مجموع الفتاوى : (2 13). وانظر المقاصد عند ابن تيمية للبدوي ص: 450 .
(2) الموافقات: (2 18). ت: مشهور.
(3) مقاصد الشريعة الإسلامية لشيخنا د. محمد اليوبي. حفظه الله. ص: 196-197 .
(4) انظر مثلاً إلى الجوانب النظرية والجوانب العملية في حفظ الدين عند شيخ الإسلام – رحمه الله- من جهاده ودعوته وكتبه: كالجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ودرء تعارض العقل والنقل ومنهاج السنة واقتضاء الصراط المستقيم والصارم المسلول عل شاتم الرسول وبيان تلبيس الجهمية .
(5) مجموع الفتاوى: (28 186-189) .
(6) القطاع الخيري ودعاوى الإرهاب للدكتور/ محمد السلومي ص: 415-416 .
(7) مقاصد الشريعة عند ابن تيمية ص: 455-456 نقلا عن الصارم المسلول .
(8) القطاع الخيري ودعاوى الإرهاب ص: 435-436 .
(9) مقاصد الشريعة عند ابن تيمية. ص: 446 .