لم يعد مقبولاً في حقل الثقافة والتاريخ أن تستقدم مفهوماً معيناً دون أن يكون له إلى التراث الإسلامي انتساب, أو على الأقل أن تجد له نوعا من السند والمشروعية من داخل إسهامات العقل العربي الإسلامي، وهذا لا يجد تفسيراً له في محدودية الإمكان المعرفي داخل الثقافة الإسلامية كما يذهب بعض المفكرين, وإنما يجد تفسيره فيما أتصور في جدل الأنساق الثقافية، فالعلمانية كمفهوم باختلاف الدلالات المعرفية التي أعطيت له, وبالبحث في تاريخيته لم يكن بدعا من ذلك, فبانتماء هذا المفهوم إلى نسق ثقافي مغاير, وبتطوره داخل تجربة تاريخية محكومة بشروطها وملابساتها التاريخية والحضارية، صار من العسير أن يكون له وجود داخل النسق الثقافي الإسلامي إلا بتأسيس يعتمد حقل التاريخ وحقل الأصول وحقل المعرفة.
فالتاريخ باعتبار ثراء معطياته واختلاف التفسيرات التي تعطى لأحداثه يبقى هو الحقل الخصب لسحب هذا المفهوم على الثقافة الإسلامية، ولعل الدارس المتفحص يدرك لماذا يحظى حدث الفتنة بكتابات كثيرة يغلب على جلها التأكيد على العمق الدنيوي في السياسة كخطوة أولى في اتجاه نفي التدين عن حقل السياسة, بل ويدرك أيضا لماذا التركيز على بحث علاقة الفرق الكلامية بمسألة السلطة. ولا يغيب عن الناقد البصير الخلفية التي تؤطر مثل هذه الكتابات, فالتأسيس لمفهوم العلمانية داخل التجربة التاريخية الإسلامية بنفس خلفيات ودلالات التجربة الغربية ومقاييسها أمر لا يخلو من تعسف خصوصاً إذا تأملنا المنهج الدارس الذي في كثير من الأحيان ما يكون قائما على الانتقاء والتطويع والتأويل فضلا عن ضعف التوثيق وعدم الانضباط إلى منهجية البحث العلمي في التعامل مع المصادر التاريخية.
والواقع, إن تتبع التأسيس لمفهوم العلمانية من داخل حقل التاريخ قد حظي بنوع من الاهتمام لسهولة كشف تناقضاته, غير أن الأمر الذي لا نجد له كثير تتبع وتعقب هو التأسيس للعلمانية من داخل حقل الأصول أو حقل المعرفة عموماً، ولعل ذلك يرجع بالأساس إلى:
قلة مشاريع التأسيس للعلمانية من داخل الحقل الأصولي والمعرفي.
دقة المفاهيم الأصولية وعدم تيسر تحصيلها لكل دارس.
ضرورة خضوع التأسيس لنوع من النسقية كي يتجنب التناقض أو على الأقل الإيرادات التي تفقده تماسك المفهوم والمشروع.
لماذا التأسيس من داخل الحقل الأصولي المعرفي؟
لم يكن هناك مسوغ يدعو العلمانيين إلى بحث ونخل التراث الإسلامي للبحث عن تأسيس أصولي معرفي لمسألة العلمانية. فعالمية المفهوم وكونيته وجاذبيته كافية في نظر العلمانيين لجعل المفهوم مقبولا داخل البيئة الإسلامية. غير أن المفهوم في معركة الصراع الثقافي لا يكفي فيه العالمية والكونية, فهو يستلزم أن يصير عنصرا طبيعيا داخل الثقافة الإسلامية, وهذا لا ينال طبعا بالاستنبات القهري, وإنما ينال بالتجذير، وتجذير المفهوم معناه البحث عنه وعن أصوله، والتأسيس له من داخل الحقل الأصولي المعرفي.
ولهذا فالدارس لتطور مفهوم العلمانية في الوطن الإسلامي لا يستغرب كثيرا في الاضطرابات التي رافقت المقاربات الفكرية لمسألة العلمانية بحيث إنها وصلت إلى حد التناقض. فمن راديكالية المفهوم والهجوم على التراث باعتباره مادة التخلف والانحطاط ، إلى محاولة تمثل هذا التراث والتأسيس من داخله لفكرة العلمانية. وهذا لا يجد تفسيره في فهم فكرة العلمانية ودلالتها، وإنما في تكييف المفهوم ومرونة تنزيله في الواقع. فالأمر بكلمة, ليس مراجعة معرفية لمفهوم العلمانية, ولكنه التكيف مع معطيات الواقع وموازين القوى الثقافية السائدة فيه أو بمعنى آخر: إنه العلمانية حين تأخذ معاني مختلفة وأشكالاً متنوعة بحسب اعتبارات الموقع والتكتيك السياسي.
والحاصل، إن تجذير فكرة العلمانية لم يكن ليتم في غياب استيعاب للتراث الإسلامي بمجمل إسهاماته، والبحث عن تأسيس معرفي لهذه الفكرة.
فالقصد من التعامل مع التراث الإسلامي لم يكن معرفيا, وإنما كان إيديولوجيا وسياسيا, ولهذا لا تخلو الكتابات العلمانية الدارسة لتراثنا الإسلامي من انتقاء مخل, أو تطويع متعسف, أو تأويل متكلف. وقلما تجد هذه الكتابات تهتم ببحث المنهجية المعرفية التي أنتجت هذا التراث. فالباحث الذي يتأثر بالثورة الكنطية، ويرى ضرورتها لتطوير التجربة الإسلامية، ولا يكون همه بحث جوانب المنهجية الإسلامية والإفادة منها, وإنما الذي يشغله بشكل أكبر هو البحث عن جوانب قصور العقل العربي الإسلامي عن تمثل التجربة الحضارية الغربية حتى تراه كثيراً ما يجنح إلى فترات من السياق الحضاري الإسلامي ليتخذ منها نموذجاً للحكم، وبهذا الخصوص يمكن أن نسجل بعض الملاحظات بخصوص بعض المقاربات العلمانية:
ولوع التفكير العلماني بالنماذج.
التركيز على مراحل معينة من تاريخ الإسلام.
التأكيد على تاريخية المفهوم، وعلاقته بساحة الصراع السياسي.
فإذا اتضح كما رأينا المقصد العام الذي دفع العلمانيين للتأسيس لفكرة العلمانية من داخل الحقل الأصولي المعرفي زال الغموض عن الدوافع التي تجعلهم ملتزمين بما ذكرنا من ملاحظات.
فالولوع بالنماذج أمر يعطي للتأسيس مشروعية ويعطيه أيضاً مصداقية القانون العام، فالنموذج المدروس ببعض تفاصيله وحيثياته تعمم النتائج التي توصل الباحث إليها بخصوصه على كل الظواهر. ولهذا لا نستغرب كثيراً عندما ننتقل إلى الحقل الأصولي فنجد التركيز الكبير على نموذج " نجم الدين الطوفي" وجعله الأكثر عقلانية داخل التراث المعرفي الأصولي الإسلامي، أما إذا ما جئنا إلى حقل المناظرات العقدية والكلامية فكثيراً ما نجد نموذج " القرامطة" يتناول بكثير من البحث عند فئات من الباحثين العلمانيين, كما نجد نموذج " المعتزلة" عند طائفة أخرى من الباحثين، بينما لا تحظى نماذج أخرى بأدنى دراسة علمية كاشفة عن المنهجية المعرفية التي كانت تنتظم إسهاماتها. فإذا انتقلنا إلى الحقل العرفاني السلوكي نجد الوله بنموذج "ابن عربي" أو الولوع بتفصيل مذهب التصوف الغنوصي كما لو أن تراثنا الإسلامي يخلو من كل لون من ألوان التصوف السلوكي السني!!
هذه بعض الأمثلة التي تؤكد هذه الملاحظة, وكثيراً ما تقترن هذه الملاحظة بانتقاء فاضح يفقد النموذج جوهره, فنموذج "ابن خلدون " غالبا ما ينظر إليه كرائد للعقلانية الإسلامية وصاحب الرؤية التاريخية, وبالماركسي الذي سبق ماركس وبنعوت يطول ذكرها. فهذا النموذج مثلا يتعامل معه بانتقاء, فتتحول عباراته المبثوثة في مقدمته إلى عبارات فاقدة لمضمونها الحقيقي, وتنتزع الأفكار من سياقاتها الحقيقية, حتى إن الدارس حين يطلع على إسهامات ابن خلدون وحين ينظر إلى ما كتب حوله من طرف هؤلاء يتصور أنهما شخصيتين في تاريخ الإسلام، فالانتقاء والاجتزاء لازمان من لوازم المنهج العلماني في التعاطي مع تراثنا المعرفي. وهكذا فالاهتمام بالنموذج إلغاء للنماذج الأخرى, واختزال بعض المفاهيم واجتزاء بعض العبارات وإفراغها من مضمونها الحقيقي إلغاء للمنهجية التي أطرت تفكير هذا النموذج المتخذ موضوعا للدراسة ومعيارا للحكم على باقي الظواهر.
وإذا انتقلنا إلى الملاحظة الثانية, نجد العلمانيين لا يهتمون بالتاريخ الإسلامي في تطوره بجميع حيثياته وتفاصيله وسياقاته, فتراهم يشغبون أنفسهم بالبحث في مرحلة معينة من مراحله، وخصوصاً الإسهامات الأصولية والمعرفية التي كانت سائدة فيها, وهذا يجعلهم أكثر قدرة على تجذير مفهوم العلمانية انطلاقا من خلق التماثل بين السياق العربي والإسلامي – أقصد مرحلة من مراحله – والسياق الغربي، فإذا نجح العلماني في خلق هذا التماثل في وعي القارئ هان عليه بعد ذلك تجذير المفهوم بالإحالة على التجربة الحضارية الغربية الحالية وعوامل قيامها. والدارس اللبيب لا يعدم وجود مفارقات عميقة بين السياقين لا تكاد تخفيها الدراسات العلمانية المولعة بشحذ كل آليات المنهجية المعرفية لخلق عنصر التماثل بين التجربتين.
أما الملاحظة الثالثة فمأخذها عميق, فالتأكيد على تاريخية المفهوم وعلاقته بساحة الصراع السياسي أمر بقدر ما يحتاج إلى تدقيق فهو يحتاج أيضا إلى إعمال النظر في الخلفية العامة التي تؤطر هذا المنهج. فتاريخية المفهوم لا تعني سوى الظروف والحيثيات التي أنتجته, وعلاقته بساحة الصراع السياسي لا تعني سوى استخدام السلطة المصلحي لكل مفهوم، أو قل للدقة: الضرورة التي تدعو السلطة إلى إنتاج المفاهيم العامة لـتأكيد سيطرتها. وهذا ما يمكن أن نصطلح عليه: " زمنية المفهوم" وفيه قدر كبير من الخطورة, ذلك أن كثيرا من المفاهيم نشأت بحكم قداسة النص ابتداء, أو من دقة الاجتهاد وانضباطه لأصول النظر المعتبر، فإذا أخذنا هذا المعطى بعين الاعتبار فإننا ندرك الخلفية الجاثمة وراء هذه المقاربة العلمانية, فالقصد هو نفي القداسة عن كل المفاهيم, وربطها بعنصر الزمن, وهذا ما يجعل القارئ المتشبع بهذه الكتابات يتجرأ على بعض المفاهيم العقدية القطعية باعتبارها مفاهيم زمنية منتجة داخل سياق حضاري مشروط بظرفيته الزمنية, وتكفي دعوى تطور الحيثيات والمعطيات التاريخية لإعمال هذه الجرأة وتعميمها على جميع إسهامات العقل المسلم
هذه عموماً بعض الملاحظات عل كتابات العلمانيين, وهي مفيدة تجعل القارئ على بصيرة بالمنهجية التي يلتزمها العلماني في الكتابة, وعلى وعي بالخلفية العامة التي تؤطر تفكيره. وحتى لا نبقى في مجال التعميم، نحاور نموذجا نعتقد أنه أخصب نموذج وأكثر استيعابا وأقدر على شحذ المفاهيم وتحليل بنيات التفكير, والتأسيس الذكي لمفهوم العلمانية، وسنختار نموذج محمد عابد الجابري من خلال ما يلي:
مفهوم العقل.
وجهة نظر حول المعيارية.
نقد مقولة: الأعرابي صانع الحضارة العربية
النظم المعرفية والحظوظ الإيديولوجية: التهميش والإقصاء.
وهذه الأفكار سوف نناقشها في الحلقة القادمة بإذن الله من هذا المقال التحليلي.