حاولنا في الحلقة الأولى من هذا البحث التحليلي، معرفة أهمية أن ينطلق التأسيس للعلمانية من داخل الحقل الأصولي والمعرفي، ونذكر هنا مثالاً عن محمد عابد الجابري، لنستعرض مجموعة من الأفكار حوله، منها:
حول مفهوم العقل:
يرى الجابري أن النهضة لا يمكن أن تتصور من دون نقد للعقل, النقد الذي يعني مراجعة شاملة لآلياته ومفاهيمه وتصوراته، وقبل أن نمضي في مقاربة مفهوم العقل, يجدر بنا أن نشير إلى ملاحظة نراها جد ضرورية. إن ربط مشروع النهضة بالعقل ونقد آليات اشتغاله ومفاهيمه وتصوراته يحيلنا على التجربة الغربية وتاريخ الثورات النقدية, ولعل الثورة (الكنطية) التي أشرنا إليها من قبل تأتي في هذا السياق. فالبحث عن عنصر التماثل بين السياقين الحضاريين الإسلامي والغربي حاضر بكل قوة في هذه المقدمة التي صدر بها الجابري مشروعه النقدي, ولعلنا نراها بوضوح أكبر في تفصيلنا لمفهوم العقل.
يستعين الجابري, بل ينطلق من التمييز المشهور الذي أقامه (لالاند) في معجمه الفلسفي بين العقل المكون بكسر الواو والعقل المكون بفتحها, أي بين العقل الفاعل والعقل السائد. والعقل العربي الذي يقصده الجابري هو العقل المكون أي جملة من القواعد والمبادئ التي تقدمها الثقافة العربية للمنتمين إليها كأساس لاكتساب المعرفة, أو التي تعرضها عليهم كنظام معرفي.
ويستعين مرة أخرى بمنهجية المقاربة بين مفهوم العقل في الثقافة اليونانية والأوربية وبين مفهومه في الثقافة العربية ليخلص في نهاية العرض والتحليل إلى ثابتين يحددان بنية العقل الإغريقي والأوربي:
- اعتبار العلاقة بين العقل والطبيعة علاقة مباشرة.
- الإيمان بقدرة العقل على تفسيرها والكشف عليها.
فالثابت الأول يؤسس وجهة نظر في الوجود, والثابت الثاني يؤسس وجهة نظر في المعرفة.
أما مفهوم العقل العربي في الثقافة العربية فهو يرتبط أساسا بالسلوك والأخلاق, فهو بهذا الاعتبار تحكمه النظرة المعيارية إلى الأشياء, وهي لا تعني سوى ذلك الاتجاه الذي يبحث للأشياء عن مكانها وموقعها في منظومة القيم التي يتخذها التفكير مرجعا له ومرتكزا.
والناظر إلى هذه الخلاصة يظهر له الميزة الموضوعية للعقل الإغريقي والأوربي الذي يبحث في الأشياء عن مكوناتها الذاتية, ويحاول الكشف عما هو جوهري فيها, في حين تظهر الميزة الاختزالية المعيارية التي تختصر الشيء في قيمته. فالعقل الإغريقي والأوربي عقل موضوعي تحليلي تركيبي في حين إن العقل العربي عقل معياري أخلاقي قيمي اختزالي. والجابري حينما يقرر مثل هذه الخلاصة لا يعوزه أن يستأنس ببعض معاجم اللغة وببعض تحديدات العلماء القدامى, فقد التمس نصا للجاحظ وآخر للشهرستاني, وقد اعتذر عن إيراد نصوص أخرى حتى لا يسقط في تجميع وثائق عديدة فيسقط نفسه في النزعة المعيارية.
غير أن ما ذهب إليه الجابري لا يسلم من جهات متعددة نحب أن نفصلها في المآخذ التالية:
المأخذ الأول: يبدو أن هناك تسرعا يجانب إلى حد كبير قواعد المنهج العلمي خصوصا في إطلاق مثل هذه الأحكام التي تحتاج إلى دراسة علمية مدققة. ذلك أنه من التعسف أن نتحدث عن مفهوم العقل من داخل الثقافة الإسلامية دون أن نرصد دلالات هذا المفهوم من مصدر هذه الثقافة. فقواعد المنهج العلمي تلزم باستقراء مصطلح عقل بجميع مشتقاته وتصريفاته من داخل الثقافة العربية الإسلامية, تلك في ما أتصور أول خطوة ومنطلق للعلم والبحث المنهجي. ثم إننا لو سلكنا نفس المنهج الذي التزم به الجابري لما عدمنا وجود نصوص إغريقية أو أوربية عبر التاريخ الطويل يستعمل فيها العقل للدلالة على الجانب الأخلاقي القيمي, وذلك لا يكون بحال مسوغا للحكم عليه بالنزعة المعيارية.
المأخذ الثاني: إن الحديث عن الميزة الموضوعية للعقل الإغريقي والأوربي يستبطن منطلقا واختيارا حضاريا يفرض علينا نوعا من التمايز والاختلاف. فكون العلم في التصور الغربي لا يؤمن بمصدر آخر للعقل وقواعده غير الواقع، يجعلنا في وضع يسمح لنا بالقول: إن الجابري يكاد يربط بشكل كبير بين الموضوعية التي تعني النزوع نحو التحليل والتركيب, وبين العقل كأداة وحيدة لفهم الواقع وتحليله. ومعلوم أن التصور الإسلامي يجعل الوحي والكون الذي يعني الواقع الموضوعي كعنصرين متلازمين مشكلين للمعرفة. وإذا كان القصد من نقد العقل العربي هو تخليصه من نزعته المعيارية وذلك بتمحور العلاقات على محور واحد قطباه: العقل والطبيعة, فإن هذا الطرح يستبطن اتهاما للوحي باعتباره مساهما ومحددا لمعيارية العقل العربي. وهذا طبعا غير ظاهر في كتابات الجابري, إلا أن المتفحص لهذه الكتابات يجد مثل هذه الإشارات الدقيقة والخطيرة والتي تحتاج إلى تعقب وتوقف.
المأخذ الثالث: ونقصد به ما أكدناه في حلقة سابقة من مركزية التجربة الغربية ونموذجيتها. ولعل المقارنة التي استعان بها الجابري كانت قاصدة, وإن ألغت السياق التاريخي, فالمشروع نقدي, والعقل بآلياته وتصوراته يحتاج إلى مراجعة شاملة. فالميزة التحليلية والتركيبية للعقل لا تعني سوى تمثل نفس السياق الغربي وإعلان الثورة الكنطية من داخل الثقافة العربية الإسلامية بما يعني إقصاء كل من يساهم في إضفاء الطابع المعياري على العقل, ولا يتحقق ذلك سوى بإبعاد الوحي من ساحة تشكيل العقل وبناء قواعده ووسائل اشتغاله. من هنا تظهر خطورة التأسيس المعرفي للعلمانية الذي يسعى الجابري عبر الإيبستمولوجيا إلى إثباته.
المأخذ الرابع: إن مقاربة العقل العربي لا يمكن أن تتم بذكر النصوص الشارحة لمادة (ع.ق.ل). أتصور أن هناك منهجان لتحديد مفهوم العقل:
الأول: استقراء دلالات العقل من داخل مصادر المعرفة العربية الإسلامية ابتداء من القرآن والسنة...
الثاني: اشتغالية العقل العربي نفسه, ذلك أن مفهوم العقل العربي لا يمكن معرفته من خلال التحديدات المعجمية, وبعض السياقات الكلامية, وإنما من خلال صور اشتغال العقل وتجليات النشاط الذهني.
وبهذين المنهجين يمكن أن نخلص إلى ما يمكن من خلال رصده وتحليله إطلاق الأحكام عليه.
وجهة نظر حول المعيارية:
يبدو أن مسألة المعيارية تحتاج إلى نوع من التحديد, فكثيرا ما يكون الاختلاف في الدلالات باعثا على الاختلاف في الأحكام. فالجابري يرى أن النظرة المعيارية نظرة اختزالية تختصر الشيء في قيمته, وهي عنده ذلك الاتجاه في التفكير الذي يبحث للأشياء عن مكانها وموقعا في منظومة القيم الذي يتخذها ذلك التفكير مرجعا له ومرتكزا. وإذا شئنا أن نعلق تعليقا بسيطا على هذا التحديد, لا ينبغي أن نلغي التحديد الآخر للنزعة الموضوعية التي وسم بها الجابري العقل اليوناني والعقل الأوربي. فقد استعان بهذا التقابل أو التضاد والتمايز كأداة منهجية لبيان مفارقات العقلين. وإذا كانت النزعة الموضوعية هي التي تبحث في الأشياء عن مكوناتها الذاتية, وتحاول الكشف عما هو جوهري فيها, فالنزعة المعيارية لا تهتم بهذا الموضوع, بل كبير همها هو البحث في قيمة الشيء. وقبل أن نسجل بعض المآخذ على هذا المنهج وهذه الأحكام نضع أمام القارئ مقدمتين نستعين بهما:
المقدمة الأولى: قد يبدو للقارئ من خلال التدقيق في المقابلة الواردة في تحديد الجابري أنه لا تعالق ولا ارتباط البتة بين البحث في قيمة الشيء وبين البحث في مكوناته الذاتية للكشف عما هو جوهري فيه, كما أنه لا توافق البتة بين النزعة الموضوعية والنزعة المعيارية.
المقدمة الثانية: الفكر العربي في نظر الجابري ينطلق من الأخلاق إلى المعرفة, بينما العقل الإغريقي والأوربي ينطلق من المعرفة إلى الأخلاق. ففي حالة الفكر العربي لا ينصب التفكير حول اكتشاف العلاقات التي تربط بين ظواهر الطبيعة بعضها ببعض, وبالتالي اكتشاف نفسه من خلالها, وإنما مهمة التفكير ووظيفته وعلامة وجوده هي حمل صاحبه على السلوك الحسن ومنعه من إتيان القبيح.
والظاهر أن المسألة لا بد فيها من توضيح لطبيعة التصور الإسلامي. فخلق الإنسان ومعرفة الغاية من وجوده أمران محددان لطبيعة التفكير داخل التصور الإسلامي. فمن خلال العلاقة بين أصل الوجود وغاية الوجود تبرز صفة التسخير وقضية الاستخلاف. فالكون كله مسخر للإنسان, ولا استخلاف ولا عمارة دون معرفة هذا الكون بظواهره, ومعرفة العلاقات التي تحكمها ومحاولة تفسيرها لاستثمارها في اتجاه الغاية الاستخلافية، وبناء على هذا التصور, فالمعيارية لا تعني سوى غائية محفزة للتفكير في اتجاه عمارة الأرض والاستخلاف فيها، فهناك تعالق وارتباط كبير بين الوجود والمعرفة والقيم. فتفسير أصل الوجود وغايته يبعث على المعرفة, والقيم محفزة للتفكير ومحددة لأخلاقه وضوابطه.
إن السياق الحضاري الغربي وخلفية الصراع التاريخي الذي تحكمت في تطور العقل الأوربي جعلت من مسألة الطبيعة منطلقا لاكتساب كل المعارف بما فيهل الأخلاق نفسها, والقيم لا يمكن تلمسها من بحث قوانين الطبيعة، ذلك أن الطعن في مصداقية الدين المسيحي لم يكن له من معنى سوى إعادة النظر في جميع مفاهيمه وتصوراته التي تشكل العقل الغربي وفقاً لها وعلى قاعدتها، وحيث إن أصل الوجود وغايته ومسألة القيم والأخلاق قضايا لا يمكن الاستغناء عن إعطاء أجوبة بصددها، فلم يعد هناك من مصدر لتلمسها في التجربة الغربية سوى الطبيعة نفسها ما دام الدين قد خرج من ساحة الصراع السياسي منهزما أمام المد التحرري اللائكي. أما في التصور الإسلامي, فالتفسير الذي يعتمده القرآن لمسألة أصل الوجود وغايته يبعث الإنسان على التأمل والتفكير في المسخرات لامتلاك معرفة بالكون تسمح بحسن الاستثمار والعمارة لأداء وظيفة الاستخلاف الرباني. والقيم الأخلاقية هي ذلك الباعث على التفكير أولا, المحدد لأدائه, الضابط لمساره واتجاهه. أما منهج التفكير فشيء ملتمس من المسخرات. أما النصوص فلا تقدم سوى المقدمات والمبادئ والتوجهات العامة المفروض الانضباط لها.
ولعل استقراء آيات القرآن ونصوص الحديث, ورصد صور اشتغال العقل العربي يؤكد هذا المعنى. ولهذا فالحكم الذي قرره الجابري, والمقابلة التي أجراها تعتبر غير ذات معنى في غياب التأكيد على سياق التطور التاريخي للعقل الغربي, وخلفية الصراع قبل عصر النهضة.
نعم هناك مجال واسع يشتغل فيه العقل العربي الإسلامي, ويكون فيه التفكير منصبا على حمل الإنسان على السلوك الحسن ومنعه من السلوك القبيح, وهذا المجال له موقعه داخل حقل التفكير الإسلامي, وداخل الرؤية الإسلامية وداخل التصور الإسلامي. فمهمة الاستخلاف بقدر ما تحتاج إلى إعمال العقل لاكتشاف الكون وظواهره ومعرفة العلاقات التي تربط بينها وتفسيرها بقدر ما تحتاج أيضا إلى تزكية الإنسان وحمله على الالتزام بقيم الدين. فنظام الحياة لا يستقيم فقط بالمعرفة, ولكنه أيضاً يتقوم بالأخلاق والقيم. والتصور الإسلامي لا ينفي وجود منهج أصيل ومؤصل يستعين بالكون لمعرفة أصل الوجود ولمعرفة القيم أيضا. غير أن هذا المنهج هو منهج واحد إلى جانب مناهج كثيرة ينبغي أن تكون كلها متضافرة تسهم كلها في بناء المعرفة. وهذه هي طريقة القرآن عند التأمل والنظر, إذ لا يقصر المعرفة على طريق واحد مادامت المسالك صحيحة, والبراهين داعمة.
والخلاصة التي انتهينا إليها بعد هذه المآخذ أنه لا يمكن بحال تحديد العقل العربي في غياب تحديد منطلقات التصور الإسلامي والرؤية العامة التي يشتغل داخل سقفها العقل العربي الإسلامي.
والجابري محكوم كما سبق الإشارة بمركزية التجربة الغربية, ونموذجية الاختيار الحضاري الغربي, ولهذا فقد غيب الإطار العام الذي يشتغل فيه العقل العربي الإسلامي, وهذا التغييب هو الذي دفعه إلى إلغاء مجال كبير لاشتغال العقل العربي الإسلامي: مجال النظر في الكون والكشف عن ظواهره والعلاقات التي تحكمها وتفسيرها, وأيضا مجال النظر في التجربة الإنسانية عبر التاريخ والنظر في النفس البشرية لاكتشاف قوانين التاريخ والاجتماع والنفس. أعتقد هذا مجال واسع، بل مجالات تم تغييبها, وهي عند النظر والتأمل والدراسة تكشف عن الطابع الموضوعي التركيبي للعقل العربي الإسلامي.
نتابع في الحلقة القادمة _بإذن الله_، الحديث عن مقولة "الأعرابي صانع الحضارة"، لنتناولها بشيء من النقد والتحليل، ونذكر ملاحظاتنا على التأسيس الأصولي للعلمانية.