استعرضنا في الحلقة الأولى أهمية أن ينطلق التأسيس للعلمانية من داخل الحقل الأصولي والمعرفي، ورأينا أفكار محمد عابد الجابري (كمثال لنقد التأسيس للعلمانية) حول مفهوم العقل وكيفية المقاربة بين مفهوم العقل في الثقافة اليونانية والأوربية وبين مفهومه في الثقافة العربية، واستعرضنا وجهة نظر حول المعيارية، لتقريب المفهوم الخاص بها.
وفيما يلي، نتابع الحديث عن الدكتور الجابري، لنستعرض أفكاراً أخرى، منها:
نقد مقولة "الأعرابي صانع الحضارة":
يلاحظ بعض العلمانيين أن الدكتور الجابري في إحدى فصول كتابه "تكوين العقل العربي" قد قدم ملاحظة ذكية حينما عدّ الأعرابي صانعا للحضارة العربية, ذلك أن مدار المعرفة العربية على فهم نصوص الشرع, وهي لا تنال إلا باللغة، واللغة ذاتها لا تكشف دلالاتها إلا عند محترفيها والمتخصصين فيها ممن تعلموها وتكلموها سليقة قبل عصر ظهور القواعد والعلوم. فيصير الأعراب بهذا الاعتبار حسب ملحظ الجابري هم المرجعية الأولى لفهم النص ولبناء المعرفة داخل الثقافة العربية.
في الواقع, يبدو هذا التحليل منسجما ومستقيما في ظاهره, غير أننا عند النظر والتأمل نجد أن هناك حلقة غائبة تفقد هذا التحليل تماسكه الداخلي. ذلك أن الغائب في هذا التحليل هو أن النص يتضمن مرادا إلهيا. وهذا المراد التمس اللغة كما عرفت فطرة وسليقة عند العرب, فكون الأعراب أقدر الناس على فهم المراد الإلهي من النص ليس معناه أنهم صانعي الحضارة والمعرفة, بل إن الذي يشكل المعرفة هو المراد والقصد الإلهي الذي توسل النص وسيلة ومسلكا للبلاغ. فليس النص مفتوحا على كل الدلالات, والأعرابي هو الذي يوجهها حسب منزعه ومذهبه, وإنما المراد الإلهي تنزل بلغة العرب, فمن تربى على الكلام بها سليقة كان أقدر على فهم المراد الإلهي.
فإذا كان المعنى قائما, واتخذ اللغة مسلكا للبلاغ, فليس متقن اللغة هو صانع المعنى بل مكتشفه, ويبقى المعنى هو الذي يشكل العقول ويبني المعارف. ولقد فطن علماء التفسير لهذا المعنى, وتكلموا في مقدمات التفسير على الفرق بين التفسير الذي يأتي بمعنى شرح وبيان المراد الإلهي, والتأويل الذي يعني نفس المراد الإلهي, ومنعوا التفسير بالرأي خوفا من تحريف المراد الإلهي الذي يؤول بالضرورة إلى توريث معرفة لا تستقيم داخل الثقافة العربية الإسلامية.
ثم ليست كل النصوص يرجع فيها إلى كلام العرب لتحديد دلالاتها وتوجيه معناها, وإنما التفسير علم ابتداء من تفسير القرآن للقرآن, إذ القرآن يفسر بعضه بعضا, ثم تفسير القرآن بالسنة, ثم تفسير القرآن بأقوال الصحابة الذين علموا الدلالات والمعاني مما علموه من مشاهدة نزول الوحي ومما تشربوه من مقاصد التنزيل. ويبقى الشيء المختلف حول تفسيره وتوجيهه هو ذلك الذي نتجه فيه إلى اللغة جمعا للمعاني المحتملة إن أمكن, أو ترجيحا لبعضها على بعض في حال التعارض.
ولهذا فمقولة "الأعرابي صانع الحضارة" لا تستقيم من الناحية العلمية حتى لو جئنا بآلاف الشواهد التي تفيد رجوع الصحابة إلى العرب الأقحاح للبحث عن دلالات بعض الآيات، فهذه الشواهد التي يمكن أن تساق لا تدل على أن الأعرابي يصنع المعنى والدلالة, وإنما يكتشفها بما علم من اللغة بداهة, فالمعنى مستبطن في اللغة, والمراد الإلهي كما علمنا قد ركب النص كما عرفته العرب.
ثم إن هذه المقولة تخفي معان خطيرة نذكر بعضها:
منها أن الحضارة العربية هي حضارة بدو.
ومنها أن هذه الحضارة التي نتحدث عن عظمتها إنما صنعها الأعراب, وكل محاولة لاستعادتها بناء على استلهام النص هي محاولة عدمية تعيد الاعتبار للأعراب زمن العولمة.
ومنها أن الحضارة العربية الإسلامية لا علاقة لها بالعقل وآليات اشتغاله. وحتى فهم النص لا ينظر فيه إلى القواعد التي تأصلت وتقعدت, وإنما مرجع الفهم إلى الأعراب.
وبعد, هذه ملاحظات نسوقها لنقد مقولة " الأعرابي صانع الحضارة " نبين من خلالها أن الوحي بما تضمن من تصورات ومضامين ومعارف هو الذي شكل المعرفة وهو الذي بنى الحضارة لما وجد من يحمله وينزله على أرض الواقع.
ملاحظات على التأسيس الأصولي للعلمانية:
بعد أن يعرض الجابري لرسالة الإمام الشافعي في الأصول, يلخص آليات اشتغال النظام البياني كما يلي: فهو يعتمد على آليتين:
اللغة: ذلك عبر ما يسمى في علم الأصول بمبحث الدلالات.
القياس: وذلك بإلحاق فرع بأصل لعلة جامعة في الحكم.
فدلالات اللغة تؤطر النص وتبحث معناه, والقياس يؤطر كل حادثة خارج النص, وبهذا يؤطر النظام البياني بهذين الآليتين مجمل الحوادث والقضايا التي تعترضه, وينتج بناء على ذلك المعرفة.
أما النظام العرفاني, فيتلخص جوهره عند الجابري في استقالة العقل العربي واستقالة قواعده وآليات اشتغاله. فيما يطرح ابن رشد كنموذج برهاني يفصل بين الحقيقة الشرعية والحقيقة البرهانية:
فالحقيقة الشرعية: هي التي تتخذ النص مرجعا لها سواء بتفجير دلالاتها, أو بالتماس الإلحاق لقياس ما جد من الحوادث على النص, وهذه طريقة الفقهاء الذين يشتغلون من داخل النظام البياني.
الحقيقة البرهانية: وهي التي تتخذ العقل كآلة للنظر في الطبيعة والكون لاستخلاص النتائج والقوانين عبر آلية الاستلال المنطقي, وهذه طريقة الفلاسفة.
ويمضي الجابري في تبني كتاب ابن رشد فصل المقال في مابين الحكمة والشريعة من اتصال إلى ضرورة الفصل المنهجي بين الحقيقتين " ذلك أن الحق لا يضاد الحق ولكن يعضده ويشهد له" ليؤكد في الأخير نموذجية التفكير الرشدي, وأنه انطلاقة جديدة للنهضة العربية, يتم من خلالها إعادة تأصيل الأصول وتدشين عصر تدوين جديد...
لكن الانطلاقة لم تكن ناجحة لأن العقل العربي لم يسر على منوالها ومسارها. مما يعني إعادة قراءة الموروث الرشدي قراءة واعية لتأسيس نهضة عربية على ضوء الفصل بين الحقيقة الشرعية والحقيقة البرهانية.
ويمكن أن نسجل بعض الملاحظات والمآخذ النقدية على هذا المشروع:
إن كثيرا من الباحثين لا ينظرون إلى تعريف الشافعي للقياس نظرة موفقة. فإذا كان القياس عنده هو موافقة الخبر المتقدم لشبه أو لمعنى...., فإن أغلب الباحثين يلتفتون لمفهوم "الشبه" وينصرفون عن معنى "المعنى" حتى صار تعريف الشافعي هو نفس تعريف المتأخرين الذين يعرفون القياس بإلحاق فرع بأصل لعلة جامعة للحكم. والواقع, إن تعريف الشافعي للقياس تعريف شامل يتضمن آليتين:
الآلية الأولى: القياس الذي يفيد لفظة الشبه.
الآلية الثانية: اعتبار المقاصد والمصالح, وتؤشر لفظة " لمعنى" على ذلك.
فموافقة النص المتقدم إما أن تكون إلحاقا للتشابه أو التطابق في علة الحكم, وإما أن يكون توافقا في المقصد والمعنى, وهذا ما يفتح الباب واسعا للحديث عن نظرية متقدمة للمقاصد والمصالح أسس أصولها الإمام الشافعي. فحسب الدكتور حامد حسان في كتابه نظرية المصلحة فالقياس عند الإمام الشافعي يتضمن اعتبار المصالح, وهو أصل ودليل من أدلة الأصول. أما نقد الشافعي للاستحسان والاستصلاح فهو اختلاف في الاصطلاح أكثر منه اختلاف في الدلالات.
فإذا كان الدكتور الجابري قد حلل بنية اللغة, وتحدث عن محدودية آلية القياس وهو ما نتفق معه فيه, فإن النظام البياني يشتغل بآليات أخرى غير آلية دلالات اللغة والقياس سواء أصل لها الإمام الشافعي, أو غيره من علماء الأصول من ذلك الاستصلاح والاستحسان وهما آليتان في إعمال المقاصد والتقدير العقلي والنظر في المآلات, ثم الاستصحاب والعرف, وهما آليتان في اعتماد الواقع الاجتماعي كأساس للمعرفة, وغير ذلك من الآليات التي تواضع العلماء بعد الشافعي على اعتبار حجيتها وإن بنوع من الاختلاف.
فقصر النظام البياني على آليتين, والتعرض لهما بالنقد دون ذكر بقية الآليات التي تشتغل على غير نسق الآليتين السابقتين يعتبر مقدمة لبيان محدودية النظام المعرفي البياني, وعدم قدرته على بناء المعرفة فضلا عن التأسيس لنهضة عربية.
الملحظ الثاني: إنه لا معنى لإقصاء النظام العرفاني بأـكمله بدعوى أنه يشرع لاستقالة العقل. فالفكر الصوفي المستند أساسا على غير آليتي النص والعقل لا يمكن إلغاؤه بهذا الاعتبار. فيبقى التراث الصوفي بكل تلويناته منتميا إلى الثقافة العربية الإسلامية شرط أن يتقوم بآليات النظر المعتبرة. ونموذج ابن تيمية في كتابه " الاستقامة " متميز في ظاهرة التعاطي مع التراث الصوفي عموما. فنجد في الكتاب تقويما علميا لهذا التراث يعتمد منهج العدل والإنصاف, فترى الرجل يؤكد بعض مواجد الصوفية ويشهد لبعض أقوالهم بالدليل من الكتاب والسنة, ويعارض البعض, ويؤول أقوالا أخرى بما يؤيده نص الشرع بعيدا عن لغة المصادرة والتكفير. وهذا منهج تحكيم قواعد النظام البياني كما اصطلح الجابري لتحديد موقف من التراث الصوفي وغيره كالمنطق والفلسفة درج ابن تيمية على توسله وانتهاجه كمنهج علمي أصيل. وهو اختيار يعتبر أجدى نفعا من المصادرة والإقصاء.
الملحظ الثالث: تعامل الدكتور الجابري مع نموذج ابن حزم بشكل متعسف, فمع أن الرجل شن حملة شعواء على القياس والاستحسان والاستصلاح والرأي عموما, وأعلنها نصوصية وظاهرية متكلفة, حيث اعتبر النص متضمنا لكل الأحكام, وانتقد فكرة تناهي النصوص ولا تناهي الحوادث والأقضية, واعتبر القرآن جامعا لكل التفاصيل, وما على الناظر سوى النظر والاستدلال, إلا أن الجابري سلك مسلكا غريبا وجعل من ابن حزم من المؤسسين الأوائل للبرهان في الحقل الأصولي الإسلامي معتمدا في ذلك على دليلين:
الدليل الأول: دعوة ابن حزم إلى تحجيم اللغة ومبحث الدلالات في علم الأصول.
الدليل الثاني: تقريبه للمنطق واعتماده في أصول الفقه.
والواقع, إن ابن حزم بعيد كل البعد عن النظام البرهاني الذي أسس لبعض مقولاته الدكتور الجابري, فابن حزم ينطلق من النص ومن فهمه ولا يدعه إلى غيره, بما يعني أن المعرفة عنده لا تتصور خارج النص, حتى إن كل آلية تعتمد التقدير العقلي خارج النص ولو بنسبية معينة يرفضها ابن حزم بدعوى أنها تقول على الله, وافتئات على حق الله في التشريع, وقول بالباطل. ولعل الناظر في كتابه المحلى وهو تطبيق حرفي لمنهجه الأصولي على فروع الفقه يرى الهجوم الشديد على كل تقدير عقلي, وكل قياس ومصالح مرسلة واستحسان وإعمال للرأي.
ثم إن ابن حزم ليس أول من قرب المنطق لعلم الأصول, فقد صنع مثله الإمام الغزالي, فابتدأ كتابه الأصولي (المستصفى) بمقدمة منطقية كبيرة سماها معيار العلم, فسمى المنطق معيارا لعلم الأصول, ومع ذلك لم يصنفه الجابري ضمن البرهانيين. فهل يكفي تقريب ابن حزم للمنطق وحديثه في مقدمة كتابه الأصولي "الإحكام" عن إثبات حجج العقول كي يصنف ابن حزم ضمن البرهانيين، ثم إذا نظرنا إلى تقريب ابن حزم للمنطق وجدنا ذلك لا يكون مستقلا عن النصوص, فقصارى ما صنع ابن حزم أن جعل من النصوص مقدمات صغرى ووسطي وغير ذلك مما تقتضيه وتستلزمه قواعد الاستدلال المنطقي. ولا تكاد تجد له رأيا لا يجعل من النص منطلقه. فكون ابن حزم مؤسسا للبرهان لا يستقيم خاصة وقد جعل النص قبلته التي ينطلق منها, وهو كما رأينا محور التفكير البياني.
يبدو أن الجابري تعامل مع كل من نموذج الشاطبي وابن تيمية تعاملا غير مبرر. فقد عرض لنظرية المقاصد عرضا خاليا من التعليق, ولم يجتهد في تصنيف الشاطبي, وقصارى ما فعله أن جعله من الانطلاقات، بدون تفصيل ولا بيان لطبيعة التطور الذي حصل في بنية التفكير الأصولي؟ وهل استطاع الشاطبي أن يسد ثغرات العقل الأصولي الذي كما أصل له الشافعي؟ ليقفز بنحو غير مبرر لتفصيل نموذج ابن رشد. فإذا انتقلنا إلى نموذج ابن تيمية, فلم يزد أن ذكره بالاسم دون أن يلزم نفسه النظر في مشروعه النقدي الذي لم يبق حبيس التفكير الأصولي, بل امتد ليشمل شعب المعرفة والثقافة الإسلامية بما في ذلك المنطق والفلسفة شعبتا المعرفة البرهانية. وهذا يؤشر على المنزع المنهجي للدكتور الجابري الذي يلغي من حسابه تحليل كل مشروع يمكن أن يفسد عليه خلاصاته واستنتاجاته.
بهذه الملاحظات ننهي ما يمكن أن نعده نقدا عارضا لبعض القضايا المبثوثة في كتاب "تكوين العقل العربي" وكتاب "بنية العقل العربي" والتي تعد محاولة للتأسيس المعرفي والأصولي للعلمانية, إلى أن تسمح فرصة أخرى للنقاش العلمي والنقد المثبت بالنصوص والشواهد والتوثيق العلمي.