عندما يعلن المسؤول عن المشرحة في بغداد أن عدد الجثث التي استلمها في غضون الأشهر الماضية تجاوز حد الـ 7000 جثة، وغالبيتها مصابة في طلقة واحدة في الرأس، وبكسور في الأطراف، وآثار المثاقب الكهربائية، وبينهم الرجل والمرأة والطفل، عندما يعلن المسؤول هذه الحقيقة ثم يهرب من العراق، وعندما نعلم أن الذين قتلوا بإحراق المساجد والدور التي تلت تفجير القباب في سامراء كانوا نحواً من 400، فالاستنتاج واضح:
وهو أن المجزرة لم تبدأ بتفجير القباب، ولن تتوقف بتبويس اللحى الذي حصل في المنطقة الخضراء بين بعض زعماء السنة والشيعة بعد التفجير، وأن المجزرة تلتهم المدنيين بمعدلات تتجاوز بسهولة حد الألف في الشهر الواحد في بغداد ومحيطها، ناهيك عن المدن الأخرى، وعن محافظة البصرة التي يشكل السنة فيها نسبة الثلث، وعن الجيوب السنية الكثيرة في منطقة الوسط والجنوب.
لم يطرأ شيء على مشهد حمام الدم في الأيام التي أعقبت أحداث سامراء. الذي طرأ هو الغطاء الإعلامي الذي صاحب تلك الأحداث، والذي غاب بقية الأيام والأسابيع والأعوام، تاركاً عزلاء السنة يذبحون على طريقة صبرا وشاتيلا، بعيداً عن الأنظار، وعلى بعد مئات الأمتار فقط من مكاتب ووكالات الإعلام والفضائيات. والذي تغير وطرأ هو المظاهرات "السلمية" التي دعا إليها السيستاني والتي ارتكب خلالها القتل وحرق أكثر من 200 مسجد في بغداد وحدها.
المهم في الأمر أن الجميع شجبوا في بيانات رسمية أعمال "القتل الإجرامية"، وكانت الإدانة من نصيب الأشباح.
أما أهالي الضحايا أو الناجون فيتحدثون عن فرق خطف تابعة لجيش المهدي، ونقاط تفتيش يشرف عليها فيلق بدر التابع للمجلس الأعلى للثورة الإسلامية تسمح للخاطفين بالعبور أثناء ساعات منع التجول، وفرق موت تابعة لمغاوير وزارة الداخلية، وتنتقل الضحية وهي في طريقها إلى مصيرها المحتوم من أيدي جيش المهدي، إلى فيلق بدر، إلى مغاوير الداخلية.
ما يتمناه الأهالي هو أن يكون طارق الليل هو الجندي الأمريكي، وليس الطائفي من مغاوير وزارة الداخلية أو فيلق بدر، أملاً في هامش ولو ضيق من حقوق المعتقل، ومعرفة سبب الاعتقال ومكانه وإمكانية الزيارة، وأملاً في عودة المفقود، وهي كلها مفردات ليس لها وجود في قاموس الميليشيات الطائفية.
لقد أخذت الأرقام المجردة حظها من الكتابة والخطابة والجدولة، لكن ذاكرة بغداد تسجل أرقاماً قياسية جديدة ودلالات تاريخية، وتتزاحم فيها أسماء جديدة مع أخرى تاريخية، فبغداد صولاغ ما عادت تحدث أبناءها عن المغولي الذي كان يقول للرهط من أهلها: مكانكم، لأذهب وآتي بالسيف وأقتلكم، فيفعلون.
الخروج من المنازل في بغداد اليوم هو للضرورة فقط، والمرأة البغدادية التي تقدمت شقيقاتها العربيات، وحازت أعلى الشهادات، وتصدرت الجامعات والوزارات، هذه المرأة تتزوج اليوم في السادسة عشر ربيعاً من عمرها، وتلازم البيت، بدلاً من أن تذهب إلى المدرسة وتطلب المعرفة، خشية الخطف والاعتداءات، وإذا تذكرنا في هذا المقام قول الشاعر:
الأم مدرسة إذا أعددتها ** أعددت شعباً طيب الأعراق
يكون الشطر الآخر من المأساة قد اتضح للقارئ!
لو استطاع أهل بغداد 1427هـ العزّل النزول والتخفي في بلاليعها، كما فعل أجدادهم في بغداد 656هـ نجاة بأرواحهم لفعلوا، لكنهم اليوم يتخفون بطمس أسماء عمر ومروان وعائشة، التي أصبحت عبئاً أمنياً، وهرباً من فرق اغتيالات وزارة الداخلية، ومليشيات بدر، وإطّلاعات (المخابرات) الإيرانية، وينزعون كل ما يدل على نسبهم السياسي الحقيقي الذي يقاصصون من أجله دونما التفات إلى فكر أو فلسفة أو سيرة اجتماعية.
لقد دمرت بغداد في المرة الأولى يوم لم يكن في الدنيا إذاعة وتلفزيون وفضائيات وهواتف جوالة، لكن ما وصلنا من الأجداد عن حجم الدمار، وهوية الفاعل، والمتواطئ، والمستفيد، والخاسر، وطبيعة الخسارة، فاق كماً ونوعاً ما أوصلته إلينا التقنية الرقمية المعاصرة، على مدى ثلاثة أعوام كاملة من الاحتلال، ولازال اسم العلقمي في لغة الإعلام، وبعد ثمانية قرون، رديفاً لمعنى الخيانة والتواطؤ، لا لندرة العلاقمة، وإنما لغبش الرؤية وعدم النزاهة عند من يعنيهم الأمر.
عذراً هولاكو، إن قُرنت أفعالك بأفعال حكام بغداد الجدد، فالتاريخ يشهد أنك ما أردتَ أكثر من تدمير عاصمة حضارة، واستعصت هذه الحضارة على انتصارك العسكري، فما لبثت أن دخلت أنت وجندك في دين الحضارة التي أجريت دجلة حبراً من دواوينها. ولا زال في بغداد اليوم حي اسمه "تتران" نسبة إلى ساكنيه من أحفادك الذين اتسعت لهم الدار، وقبلهم مجتمع الحضارة العربية الإسلامية وهو في ذروة انكساره العسكري.
أما بغداد المنصور اليوم، فتُلطم على وجهها العباسي العربي المسلم، ودار السلام تنزع عنها حليتها العباسية التي عرفها العالم بها على مر العصور، وتغنّى بها الشعراء في قصائدهم، وتُستبدل أسماء أحيائها وشوارعها بأخرى عزيزة على الأدبيات الصفوية، وتقنص عقولها، ويُنسف نصب مؤسسها أبي جعفر المنصور في توقيت له مغزى لا تخطئه الذاكرة الحضارية، وهو الذكرى 1281 لتأسيسها، ولعمري منذ متى وهذه المناسبة تُنتظر وترصد؟ وكيف خُلّدت هذه المناسبة في "المفكرة الصفوية البرمكية" حتى حان أوان تنفيذها؟
إن ما يُفعل ببغداد الإسلام والعروبة اليوم، إن جلب الأسى، فإنه لا ينبغي أن يجلب الدهشة، سواء أتى من الأمريكان أو من شركائهم الصفويين، فهذا هو ما يفعله كل غاز بفريسته من الحضارات الأخرى.
إن ما يجلب الأسى هو أن أهوال بغداد الرشيد ودلالتها، لا زالت وبعد ثلاثة أعوام على السقوط، تقع خارج إطارها التاريخي، ولا زالت تمسكها ذاكرة الأحياء دون الدواوين، لكن هذه الأهوال ستغيب عندما يغيّب الموت هؤلاء الأحياء، وتضيع صفحات مهمة من التاريخ، فلا تجد الأجيال القادمة ما تقرأ عن هذه الحقبة، كالذي نقرأه نحن اليوم، وليس هذا مسلك الشعوب والحضارات التي تبتغي الحياة.