أنت هنا

عائدون يا فلسطين
24 ربيع الأول 1427

عائدون.. هرم الناس... وكانوا يرضعون عندما قال المغنِّي.. عائدون يا فلسطين وما زال المغنِّي يتغنى وملايين اللحون في فضاء الجرح تفنى.. واليتامى.. من يتامى يولدون عائدون ولقد عاد الأسى للمرة الألف فلا عدنا ولا هم يحزنون كنا نقرأ قصائد العودة ونحن صغار، نقرأها بلسان الفلسطينيين المشردين المضطهدين.. نقرأها بلسان المسلمين الذين يرون القدس جزءاً من أكبادهم لا جزءاً من بلادهم فحسب، فهي قبلتهم الأولى ومسرى نبيهم، وصلاة فيه بخمس مئة صلاة فيما سواه.. فأين كان رجع صدى الخطب النارية القصائد الملتهبة؟!

لقد أخبر الله ووعد، ووعده الحق، فقال: "أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ" (البقرة: من الآية214)، نعم نصر الله قريب.. لكنه قريب من المحسنين، قريب من مستحقي النصر وأهله "الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ" (الحج: من الآية41)، فكيف ننتصر ومتى تعود إلينا القدس ونعود إليها؟! متى نوقف الدماء النازفة ونحرر القدس من الرجس؟! هذا هو السؤال الذي يجب على الأمة الإسلامية أن تطرحه على نفسها، ولا يكون الجواب عليه بأقلام سيالة أو خطب نارية دون ترجمة حياتية تظهر على السلوك والسالك.

أرسل قائد الروم أحد رجاله لينظر خبر المسلمين، فقلب النظر وأطلق البصر وجال بين الصفوف ثم جاءه بالخبر غير بعيد قائلاً: (جئتك من عند رجالٍ دقاقٍ، يركبون خيلاً عتاقاً، أما الليل فرهبان، وأما النهار ففرسان، يريشون النبل ويبرونها ويثقفون القنا، لو حدثت جليسك حديثاً ما فهمه عنك مما علا من أصواتهم بالقرآن والذكر. قال فالتفت القائد إلى أصحابه وقال: أتاكم من لا قِبَل لكم به).

هذه هي مواصفات جيل النصر، هؤلاء هم الذين سيتقلدون مفاتيح الفتح.. (رجال دقاق) قد ظهرت عليهم علامة الرجولة لا الذكورة! فأنت تقرأها عليهم من أول وهلة كما قرأها هذا الجاسوس، لم تظهر عليهم التخمة من آثار الشبع والنوم والبطالة. (أما في الليل فرهبان) لم يسهروا على شرب الخمور، ولا على أغنية أم كلثوم في انتظار صباح الفتح المزعوم!! (وأما النهار ففرسان) قد استتمت فيهم القدرة، وظهرت فيهم مخايل النجابة والقوة. (يريشون النبل ويبرونها ويثقفون القنا) يفعلون السبب ويأتون بالمقدور دون تواكلٍ أو غرور.
هكذا كانوا فانتصروا.. فكيف نحن الآن؟!

لو أن أحداً من رؤساء النصارى أو اليهود اليوم استوصف حالنا ماذا سيقال له، لن يحتاج إلى كثير عناء يكشف فيه حالة الهبوط العام في الأمة، يكفيه أن يطل من خلال الشاشة ليرى القنوات العربية ماذا تعرض ليرى العفاف يذبح على عتبة (ستار أكاديمي) والرقصات المخنثة والهزل الممجوج... لقد انتصرت أمتنا على اليهود قَبْلُ وطهرت منهم جزيرة العرب لأنها كانت الأقوى إيماناً والأرسخ عقيدةً والأكمل أخلاقاً. كان اليهود أحرص الناس على حياة!! وكنا أحرص الناس على الموت.. كانوا ولا زالوا كما وصفهم الله "تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى" (الحشر: من الآية14)، وكنا كما خاطبنا الله "فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً" (آل عمران: من الآية103).. كانت قلوبهم ولا زالت "كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً" (البقرة: من الآية74) وكنا على ما وصف ربنا "إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً" (الأنفال: من الآية2).. كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه، وكنا على مديحة الله لنا "كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ" (آل عمران: من الآية110)..

أما اليوم فقد تغيرت النفوس عما كانت عليه، وأصابها من رذاذ الأخلاق الهابطة والقيم المنحلَّة، فحرصنا على الحياة حرص أسلافنا على الموت، وقست قلوبنا، ورضينا بالباطل أو ألفناه، وكتمنا الحق أو نسيناه – إلا من رحم ربي وقليل ما هم -، فشاركناهم الرذائل، وقاسمناهم المعصية فلم ننتصر، بل صدق فينا قول عمر بن الخطاب وهو يسير أحد الجيوش ويودع قائده قائلاً: (إنما ننتصر بمعصية عدونا لله، وطاعتنا له، فإذا استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة) إن تحقيق النصر يحتاج من الأمة إلى تعبئة صادقة، ولسنا نقصد بالتعبئة القوة العسكرية فحسب، إذ هي وحدها لا تجدي شيئاً، إن السيف يحتاج إلى يدٍ تمسك به والسلاح يحتاج إلى نفوس تحمله تثبت لا تتزعزع.. وما تنفع الخيلُ الكرام ولا القنا إذا لم يكن فوق الكرامِ كرامُ يجب أن لا تسيطر علينا النظرة المادية فنقيس النصر على ضوئها، فينقلب إليها البصر خاسئاً وهو حسير حين يرى ترسانة العدو وقوته الفائقة.

لقد حفظ لنا التاريخ خبر الحفاة العراة رعاء الشاء من جزيرة العرب – والذين يعدون بسطاء في ميزان النظرة المادية – كيف دكوا حصون كسرى، وأجبروا قائد الروم على الفرار فألقى نظرته الحسيرة الكسيرة وهو يقول: (وداعاً يا سوريا.. وداعاً لا لقاء بعده!!).
لا بد من تنمية روح الإيمان وعقلية الإيمان وأخلاق الإيمان، فالإيمان هو السلاح الأول في معركتنا مع الأعداء، وأمة بلا إيمان ستنهار لأول ضربة وستخر صريعة لأول صدمة.. لن تتحرر فلسطين بمبتدع في الدين.. ولن يُهزم اليهود بتاركي الصلوات متبع الشهوات.. ولن تعود القدس ويفصل في معركة دامت أكثر من خمسين عاماً بشعارٍ غير الإسلام.. لن تتحرر فلسطين إلا على أيدي المؤمنين الصادقين الراكعين الساجدين الذين طهرت قلوبهم قبل أن يسيل الماء على أعضائهم.. روى الإمام مسلم في صحيحه أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ قال: "لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون حتى يقول الحجر والشجر يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي تعال فاقتله"..
هؤلاء هم محررو فلسطين الذين يتحقق على أيديهم النصر المبين (يا مسلم) إنهم المسلمون وليس العرب ولا القوميون ولا الإقليميون.. ليس لهم راية إلا الإسلام.. إنه المسلم حقيقة وليس بالهوية.. إنه (عبد الله) ليس عبد الشهوات، ولا عبد المرأة، ولا عبد الكأس، ولا عبد الدينار والدرهم، ولا عبد المبادئ المستوردة والأفكار الدخيلة..
"وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ" (الحج:40، 41).