لقد بلينا في السنوات الأخيرة بكُتّاب أقحموا أنفسهم في كل شيء _ ممن يطلق عليهم "النخبة المثقفة" _ لم يدعوا قيمةً ولا احتراماً لمعنى كلمة : تخصص!
فالواحد منهم مستعدٌ أن يعالج مشكلة الفقر في نيبال!
ويحلل قضية الصراع المذهبي، والعسكري، والسياسي في العراق!
ولا مانع عنده من التصدي لمشكلة البطالة في البرازيل! ورصد أسباب الصراع بين الحاكم والشعب في تايلند! أما القضايا الشرعية، فهي أسهل شيء يمكن أن يتحدث فيه!
وتعظم المصيبة حينما تكون القضايا المطروقة ـ في العلم الشرعي ـ من القضايا الكبار التي لا يتجشمها إلا كبار أهل العلم،الذين رسخوا فيه،وأمضوا زهرة أعمارهم في تحصيله ومدارسته، كقضايا التكفير،والتي يسميها العلماء: (الأسماء والأحكام).
ويزداد وقع المصيبة حينما يكون الدافع لهذا الكاتب أو ذاك هو ضغط الواقع، أو التأثر بمقولات صادرة من أناس لم يعرفوا بالرسوخ في العلم، وليس الدافع له البحث العلمي المنضبط بأصوله المعروفة: "وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا".
ولما كان الناس ـ في الجملة ـ مغرمون بكل جديد، ومولعون بكل غريب،فقد صَادَفَتْ هذه الأطروحات ـ كما أسلفت ـ أرضيةً هشّةً لم تصلب بعد عند بعض الشباب، حظهم من العلم الشرعي قليل،وقدرتهم على المقارنة والتحليل لم تنضج بعد،ساعد على رواجها أسباب كثيرة، خصوصاً بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر،فظن بعض هؤلاء أن تلك الأطروحات فتحٌ،وسبقٌ كبير في العلم لم تأت به الأوائل!
ومن هذه القضايا قضية التكفير التي أصبح البعض يكتب فيها ـ أحياناً ـ نتيجة ردة فعل لسوء استخدامها من قبل بعض الناس، لا بما تقتضيه الأدلة! وهذا لعمر الله من أكبر أسباب الشطط والانحراف في الكتابة في هذا الموضوع.
ولا شك أن قضية الأسماء والأحكام (كالإيمان والتكفير والتفسيق) قضايا يجب إحالة الحكم فيها لله ورسوله، فالمؤمن مَنْ حَكَمَ اللهُ عليه ورسوله بالإيمان، والكافر من كفّره الله ورسوله، ولا يصح أبداً أن نتردد في ذلك.
وكما لا يجوز أن نكفر من حكم الله ورسوله له بالإيمان، فكذلك لا يجوز أن نلغي وصف الكفر عمن حكم الله ورسوله بكفره، والردّ في تنزيل هذه الأحكام على الأعيان إلى الراسخين في العلم،وليس لآحاد الناس.
ومن المحزن أن بعض مَنْ يطرق هذا الموضوع ـ من "النخب المثقفة"! ـ فإنه يطرقه على استحياء،وكأنه يجهل أو يتجاهل عشرات الآيات التي جاء فيها ذكر التكفير،وأصبح هؤلاء المنهزمون يتحاشون وصف غير المسلمين بالكفر،وكأنها كلمةٌ نابيةٌ،أو مخجلة!! فتلقّى هذه الفكرة المحدثة المبتدعة بعض المقلدين لهم من العامة وأشبهاهم، وكأنهم يريدون هجر أو طمس المصطلحات الشرعية "الكفر،التكفير،الكفار "!!،ولم يعرف هؤلاء أو تجاهلوا أن تسمية أتباع الملل الأخرى بـ"الكفار" يتضمن في دلالته الحكمَ على دياناتهم بالبطلان، في حين أن تسميتهم بـ"غير المسلمين" أو "غير المؤمنين"لا يتضمن هذه الدلالة الشرعية المهمة!.
والذي يظهر لي أن بعض هؤلاء الذين انتحلوا هذه المقولة المحدثة المردودة شرعاً،ظنّوا أننا إذا حكمنا على هذه الملل والنحل بالكفر،فإننا سنسلبُهم حقوقهم التي أعطاهم الشرع إياها! أو أنه يلزم من ذلك أننا أن نحكم على أعيان هؤلاء بالنار! من غير تفريق بين من بلغته الدعوة ومن لم تبلغه الدعوة! ومن غير تمييز بين الحكم العام والحكم الخاص!
ولنا أن نتساءل : هل يريد هؤلاء أن نسكت عن مئات النصوص التي جاءت في التكفير؟
أم يريدون أن نكتمها؟!
أم يريدون أن نقع فيما وقع فيه بنو إسرائيل، فنحرف الكتاب عن مواضعه؟!
أو نأخذ ببعض الكتاب ونكفر ببعض؟!.
إن من أكثر ما أوقع الاضطراب في فهم النصوص قديماً وحديثاً هو النظر إليها من جانب واحد،وعدم استيفاء الأدلة، واستقصائها في الباب الواحد،ومن هذا الباب مسألةُ التكفير.
فالشبهة التي يثيرها البعض – في مسألة عدم تسمية الكفار كفاراً بل يسمون: غير مؤمنين – هي من هذا النوع الذي قصّر في جمع أدلة الموضوع الواحد، وإلا فإن أدنى تأمل لآيات القرآن – فضلاً عن نصوص السنة – كافية في دحض هذه الشبهة.
وهذا كما هو مخالف لنصوص الوحيين، فهو مخالف لإجماع العلماء في أن من ولد غير مسلم ـ سواءٌ كان كتابياً أم غيره ـ فإنه كافر.
وهذا الظن لعمر الله غلطٌ عظيم وكبير،وجهلٌ مفرط بنصوص الوحيين،وإليك بعض النصوص القرآنية التي تبيّن هذا:
أولا : بعض نصوص القرآن:
ماذا يقول ذلك المثير لتلك الشبهة في قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : "قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ". فهل يعقل أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ يؤمر بهذا الأمر المقرون بالسين التي تدل على الاستقبال (ستغلبون) ثم عطفها بـ(تحشرون) بأن يخاطب أمواتاً ليبلغهم هذه النهاية الحتمية لمن يموت على الكفر؟!.
وتأمل في قوله _سبحانه وتعالى_: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ" فالله سماهم كفاراً،وحذّر أهل الإيمان من طاعتهم،خشية أن يردوهم على أعقابهم فينقلبوا خاسرين، أفيكون تحذير أهل الإيمان من كفار ماتوا!! وهل لهؤلاء الكفار ـ لو كانوا ميتين ـ قدرةٌ على فتنة المؤمنين عن دينهم؟!
واستمع إلى قوله _عز وجل_ : "سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ"،فهل إلقاء الرعب في قلوبهم سيكون بعد موتهم؟! وقد سماهم الله كفّاراً!!
وماذا نصنع بقوله _تعالى_ لرسوله _صلى الله عليه وسلم_: "فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً" فهل للكفار بأس إذا كانوا ميتين؟! أم هو خطاب لهم ووصفهم بالكفر وهم أحياء؟!
ويقول _عز وجل_: "وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوّاً مُبِيناً" فقد وصفهم الله بالكفر مرتين وهم أحياء!
ويقول الله _تعالى_: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ". ومثلها : "فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ..." الآية فسماهم كفاراً باعتبار حالهم عند اللقاء، ولم يشترط موتهم على الكفر، مع أن بعضهم قد يسلم بعد ذلك، وبعضهم قد يموت في ساحة المعركة!
وقال _عز وجل_ لنبيه _صلى الله عليه وسلم_: "وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ" مع أننا نقطع أن من جملة هؤلاء الذين مكروا به ممن أسلم بعد،ولكنهم وصفوا بالكفر باعتبار حالهم عند التنزيل.
وماذا يصنع ذلك الذي أثار تلك الشبهة بقوله _تعالى_ : "قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ"؟! فالله _تعالى_ وصفهم بالكفر، وأمر نبيه ج أن يخاطبهم باعتبارهم كفاراً،إما أن يسلموا وإلا فلينتظروا سنة الله في أمثالهم.
بل تأمل كيف وصف الله المنافقين اعتقادياً بالكفر ـ مع أن ظاهرهم الإسلام ـ : "وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ".
ويقول _سبحانه وتعالى_: "وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ" فهل هؤلاء الذين رأواه كانوا أمواتاً؟!
وتأمل : "وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ..." الآية، وقال : "وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ".
ووالله لقد تركت أضعاف ما ذكرته هنا من نصوص القرآن الصريحة،فضلاً عن غير الصريحة، وواحد من هذه النصوص يكفي لدحض هذه الشبهة لمن طلب الحق (فماذا بعد الحق إلا الضلال؟!).
وأما استدلال بعضهم لتدعيم شبهته بحديث أبي هريرة في صحيح مسلم : "والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار"، والشاهد منه – في نظهر هذا – قوله: "ثم لم يؤمن بالذي أرسلت به".
فليس فيه حجة لما توهمه! فإن النبي _صلى الله عليه وسلم_ أخبر بأن من مات غير مؤمن برسالة محمد _صلى الله عليه وسلم_، ولو كان يزعم أنه مؤمن بدينٍ سماوي منسوخ ـ وهما اليهودية والنصرانية ـ لدخل النار، فما ظنك بمن يموت وهو من غير أهل الكتاب؟! لا شك أنه من أهل النار من باب أولى،إذ ليس له أدنى تعلق لا بدين سابق، ولا نبي مرسل، فذِكْرُ الإيمان من باب المقابلة، لا من باب الإخبار بما ظنه من ذكرته في سؤالك من أنه وصف له بأنه غير مؤمن.
والحاصل أنه لم يبق ـ بعد بعثة النبي _صلى الله عليه وسلم_ إلا أن يكون الإنسان مسلماً أو كافراً، وأما المنافق فله أحكام المسلمين في الظاهر،وإليك البينة من سورة البينة : " إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ" فقد أطلق الله _تعالى_ وصف الكفر على الوثنيين وأهل الكتاب، فهم في مقابل المسلمين كفارٌ بلا ريب، ولا يستريب في ذلك إلا من في قلبه ريب ـ عياذاً بالله ـ، وما أكثر الآيات التي يخاطب الله فيها أهل الكتاب في السور المدنية : "لم تكفرون بآيات الله"؟!
فهل بعد هذا تعشى العين عن إدراك الحق في هذه المسألة؟ التي ـ والله ـ ما كنت أظن مسلماً يقرأ القرآن أن يتلفظ بها، ولكن إلى الله المشتكى، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
ثانياً: بعض النصوص الواردة في السنة، وسأقتصر على الصحيحين أو أحدهما لاتفاق الأمة على ما ورد فيهما جملةً، أكتفي من ذلك بخمسة أحاديث فقط:
1 – في حديث وفد عبد القيس المخرج في الصحيحين من حديث ابن عباس _رضي الله عنه_ قال الوفد للرسول _صلى الله عليه وسلم_: "إنا لا نستطيع أن نأتيك إلا في شهر الحرام وبيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر... الحديث" فأقرهم النبي _صلى الله عليه وسلم_ على وصفهم بالكفر، ولم ينكر عليهم.
2 – وفي حديث القسامة المشهور، أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ قال لأهل القتيل: "فتبرئكم يهود في أيمان خمسين منهم قالوا: يا رسول الله قوم كفار، فوَدَاهم رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ مِنْ قِبَلِه" أخرجاه في الصحيحين من حديث رافع بن خديج _رضي الله عنهما_.
3 – وفي حديث زيد بن خالد _رضي الله عنهما_: "أصبح من عبادي مؤمن بي، وكافر" فأي دليل أبلغ من هذا في تقسيم الناس إلى قسمين مؤمن وكافر، وليس مؤمن وغير مؤمن؟!
4 – وفي الصحيحين عن ابن عمر _رضي الله عنهما_ أن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ قال: "أيما رجل قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما" فتأمل ما يترتب على هذا الوصف الشرعي؟! والذي لن يكون كما هو لو قال لأخيه أنت غير مؤمن فحسب! إذ سينتقل الحديث – حينئذٍ – إلى مسألة أخرى معروفة عند أهل العلم، ليس هذا مكان كرها.
5 – في الصحيحين من حديث أنس بن مالك _رضي الله عنه_ قال: قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: "ليس من بلد سيطؤه الدجال إلا مكة والمدينة، وليس نقب من أنقابها إلا عليه الملائكة صافين تحرسها، فينزل بالسبخة، فترجف المدينة ثلاث رجفات، يخرج إليه منها كل كافر ومنافق".
فانظر كيف وصفهم بالكفر وهم أحياء، ولم يقل: يخرج إليه كل شخص غير مؤمن!
نسأل الله _تعالى_ أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.