"التربية والتصفية" كلمتان خفيفتان في نطقهما، عظيمتان في دلالتيهما، عميقتان في معناهما، طالما دندن بهما ريحانة بلاد الشام محدث العصر العلامة محمد ناصر الدين الألباني _رحمه الله_ في حواراته المنهجية ومجالسه العلمية،وكثيراً ما تحدث حولهما مع محبيه وموافقيه وكررهما مع مخالفيه ومناوئيه، ومن عرف ماتحمله هاتان الكلمتان من أصول علمية ومعاني شرعية ومفاهيم منهجية، عرف أن دندنة الشيخ الإمام الكثيرة حول هاتين الكلمتين لم تأتي من فراغ ولم تكن عبثا أبدا، وإنما كان ذلك من فهم عميق للكتاب والسنة، ومعرفة دقيقة بواقع المسلمين اليوم، وهذا هو ثمرة وبركة علم السنة النبوية.
إنه لا يخفى على أحد أن من أعظم ما يواجه المسلمين اليوم هو هذا الزحف العقائدي والفكري الكبيرين، ممثلا بالغزو الثقافي الداخلي من داخل الأمة والخارجي من أعدائها وبانتشار المذاهب الفكرية الهدامة التي شوشت عقول المسلمين وأفسدت عقائدهم وأفكارهم، حتى التبس علي كثير من المسلمين الحق بالباطل، فصاروا لا يميزون بين التوحيد والشرك ولا بين السنة والبدعة ولا بين الحق والباطل، رُوجت الأفكار والمبادئ، وسوقت النظم والمناهج بوسائل متعددة وطاقات جبارة هائلة ومتخصصة كل ذلك من أجل تظليل المسلمين وطمس هويتهم، وبالإضافة إلى الجهل المعتم الذي خيم على كثير من المسلمين فجعلهم لا يفرقون بين ما هو من الدين وما ليس من الدين،ومن خلال تشخيص هذا الواقع المر ومعرفته بوضوح يتبين لنا أهمية هذه القاعدة الألبانية السلفية العظيمة" التربية والتصفية".
لابد من "التربية" أي تربية المسلمين على العقيدة الصحيحة المبنية على الكتاب والسنة، وأيضا تربيتهم على الإتباع الحقيقي للنبي عليه الصلاة والسلام ظاهرا وباطنا.
ولابد من "التصفية" أي تصفية المعتقد من الخرافة والإلحاد والبدعة، وتحرير الإيمان من الغبش الذي وقعوا فيه كالالتجاء إلى غير الله والتعلق بالمخلوقين وغير ذلك من الانحرافات في المعتقد والتصورات.
يقول العلامة الألباني في رسالته هذه "العلاج الوحيد هو الرجوع إلى الدين؛ لذلك فأنا أرى أن أي إصلاح ـ يجب أن يقوم به الدعاة إلى الإسلام، والناشدون لإقامة دولة الإسلام بإخلاص ـ هو أن يعودوا إلى أن يفهموا أولاً أنفسهم، ويفهموا الأمة ثانيًا: الدين الذي جاء به الرسول _عليه الصلاة والسلام_".
قلت يا لها من كلمات تستحق أن تكتب بمداد من نور لا من الذهب فقط، صدرت من شخص قضى عمره كله في الاشتغال بعلم السنة النبوية وتمحيص أثارها ودراسة أخبارها،نعم لابد أن يعرف الدعاة وطلاب العلم والعاملين في ميدان الدعوة دين الإسلام الصحيح بدليله من كتاب الله _عز وجل_، ومن سنة رسول الله الصحيحة، ثم بعد ذلك يعلموه للناس.
واقع كثير من الدعاة اليوم أنهم لم يأخذوا بزمام هذه القاعدة، فانطلقوا في ميدان الدعوة الفسيح وهم يجهلون حقيقة الدين يخبطون في دعوتهم خبط عشواء، فكانت النتيجة أنهم لم يثمروا في عملهم، ولم يوفقوا في دعوتهم.
فهلا انطلق الدعاة إلى الله في ساحة الدعوة وهم قد وضعوا نصب أعينهم هدف تربية الناس على العقيدة والعبادة والسلوك الصحيح،وبيان ما يخالف عقيدة الإسلام من العقائد والنظم والمبادئ والمناهج والأفكار ليعرف الناس خطرها حتى تصفى لهم عقيدتهم من التشويش والغبش، ويسلم لهم تصورهم من الران الذي أصاب الكثيرين إلا من رحم الله وقليل ما هم.
إن صلاح الأمة لا يكون إلا بعودتها للفهم الصحيح للكتاب والسنة على طريقة السلف الصالح، فما الداء إلا البعد عن فهم الدين الصحيح كما فهمه السلف، وما الدواء إلا بالرجوع إلى ما صلح به أول هذه الأمة, بل لا صلاح للبشرية جمعاء إلا بتطبيق الإسلام كما طبقه محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه البررة، ولا يرجى بدء هذا التطبيق الصحيح إلا من جهة العاملين في حقل العمل الإسلامي أولا, وفي مقدمتهم العلماء والدعاة إلى الله فعلى العلماء و الدعاة أن يضاعفوا جهدهم ويخلصوا عملهم لله، ويجمعوا بين العلم النافع والعمل الصالح وتربية الناس على الدين الصحيح، والدعوة إلى سبيل الله الواضح البين، لا إلى سبيل الأحزاب ولا إلى سبيل الأشخاص.
فبالدعوة الصحيحة على علم وبصيرة كما قال الله: "قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ" (يوسف: من الآية108)، وبالصبر في سبيل ذلك مع الرجوع إلى أهل العلم المعتبرين الراسخين والأئمة المهديين المتمسكين بسنة رسوله _صلى الله عليه وسلم_، الذين هم المرجع في بيان الإسلام المتمثل في الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح أهل السنة والجماعة، بهذه الأمور سنرى بإذن الله الخير العظيم والفضل العميم من صلاح هذه الأمة وتحقيق الغاية المنشودة.