أنت هنا

مصادر التلقي عند المسلمين (1)
6 ذو القعدة 1427

حين يكون الحديث عن مصادر التلقي عند المسلمين, فلا ريب إن كتاب الله العزيز, وسنة محمد _صلى الله عليه وسلم_ هما في مقدمة هذه المصادر..فإليهما المرجع والتحاكم "فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً" سورة النساء: 59.

ونحن مأمورون بالتحاكم والرد إلى كتاب الله والسنة وذلك علامة الإيمان, وبرهان الإسلام والاستسلام. هذان المصدران ربانيان فالقرآن كلام الله ووحيه والسنة كذلك وهي شارحة للقرآن ومبيّنة لمجمله. إنهما مصدران محفوظان بحفظ الله وقد قال الله عن كتابه "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" سورة الحجر:9, وقال عن رسوله "وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى.إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى"سورة النجم: 4-3.

وتعظيم هذين المصدرين من تعظيم الله, والإذعان لهما والخضوع والانقياد هو إذعان لله _عزّ وجلّ_ "وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ"سورة الزمر: 54 "ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ " سورة الحـج: 32.
كيف لا يكون القرآن مصدرا للتلقي والله يقول عنه "مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ" سورة الأنعام: 38.
يقول الشافعي رحمه الله: "ليس تنـزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها" (الرسالة/ 20)
وكيف لا يكون القرآن مصدرا هاديا للتلقي والله يقول عنه "إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ" سورة الإسراء: 9.
و كل من ابتغى الهدى بغير الكتاب والسنة ضلّ وأضلّ..

يقول الشاطبي _رحمه الله_: "و لقد زلّ بسبب الإعراض عن الدليل والاعتماد على الرجال أقوام خرجوا بسبب ذلك عن جادة الصحابة والتابعين واتبعوا أهواءهم بغير علم فضلّوا عن سواء السبيل (الاعتصام: 2/ 743)

إن القرآن مصدّق للكتب قبله ومهيمن عليها فلا يسوغ لأحد أن يتجاوز القرآن, ومن ظنّ أن في القرآن نقصاً أو عجزاً عن معالجة القضايا المعاصرة, فقداتهم القرآن والتهمة به أولى..نعم هناك سياسة شرعيّة تنطلق من الوحيين, وهناك منهج اقتصاديّ واجتماعيّ يرسم ملامحه القرآن والسنّة, ومن ظنّ القصور في نصوص الشريعة الغراء في أيّ مجالات الحياة, فالقصور منه وإنما أوتي من سوء فهمه وقلة علمه وجهله بل من ظنّ أنّ الدين غير قادر على استيعاب الحياة المعاصرة فقداتهم الدين بالنقص والقصور, والله تعالى يقول وهو أصدق القائلين: "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا " سورة المائدة: 3.

وثمة انحراف يوجد عند فئة من المنتسبين للدين يقولون: ما جاء في القرآن قبلناه-إذ هو كلام الله- لكنا نتوقّف عن قبول السنة- فمحمد بشر ونحن بشر؟
و تلك بليّة وردّة.. وأنّى لهؤلاء أن يهربوا من قوله تعالى: "وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا " سورة الحشر: 7.

و أنّى لهم أن يفرّوا من قوله _تعالى_: "لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ" سورة النــور: 63.

إن هدي محمد _صلى الله عليه وسلم_ وسنته لا تقبل النقص منها ولا الزيادة عليها, فمن رغب عن سنته فليس منه, كما أخبر عليه الصلاة والسلام في الحديث المتفق على صحّته.

جاء رجل إلى مالك بن أنس _رحمه الله_ فقال: من أين أحرم؟ قال: من حيث أحرم رسول الله _صلى الله عليه وسلم_, قال الرجل:فإن أحرمت من أبعد منه؟ قال: لا تفعل فإني أخاف عليك الفتنة, قال: وأي فتنة في ازدياد الخير؟ فقال مالك: فإن الله تعالى يقول: "فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ" سورة النــور: 63.

أيها المسلمون إن الطاعة للرسول _صلى الله عليه وسلم_ طاعة لله, وفي القرآن "مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ " سورة النساء: 80.
و السنة شارحة للقرآن ومبيّنة لمجمله "وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ "سورة النحل: 44.

إنها حج وبراهين تبطل هذه الفريّة, وأصحاب هذه الفريّة, إنما يهدفون إلى تعطيل القرآن, بل والخروج على الإسلام, إذ كثير من أحكام الدين إنما فصّلها وأبان عنها محمد _صلى الله عليه وسلم_ في سنّته وسيرته. هؤلاء القرآنيّون-كما يسمون أحيانا- إنما أرادوا نقض عرى الإسلام بتجاهلهم للسنة, وهجرهم هدي محمد _صلى الله عليه وسلم_.

ولقد صدق في هؤلاء نبوءة محمد _صلى الله عليه وسلم_ وتحذيره حين قال: لا ألفينّ أحدكم على أريكته, يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول: لا أدري, ما وجدناه في كتاب الله اتبعنا)) حديث حسن أخرجه الشافعي في الرسالة, وأحمد في المسند, وأبو داود في السنن وغيرهم (شرح السنة للبغوي: 1/200-201).

ونتساءل كيف يعد القرآن مصدراً للتلقي من يرى أنّ القرآن ناقص, وإن عند أئمتهم أضعاف ما عندنا من القرآن؟
و كيف يعد السنّة مصدراً للتلقي من يسخر بالسنة وأهلها ويعدها رمزاً للتأخر والرجعيّة؟
كيف يعد القرآن والسنة مصدرين للتلقّي من يؤمن ببعضها وينكر بعضا والله يقول: "أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ"سورة البقرة: 85
كيف يؤمن بالقرآن من يتجرّأ بالقول إن القرآن في أصله علمانيّ التوجّه ولكن المسلمين حرّفوه إلى وجهة دينية؟

إنها ضلالات وانحرافات خطرة..و مفاهيم وتفسيرات جائرة حائرة تنبئ عن حجم انحرافات أصحابها..
و المؤلم حين يعد أصحاب هذه النظرات والتوجهات رقما في الأمة الإسلامية.
مصيبة حين يفقه الغرب أو الشرق الكافر عن القرآن أكثر مما يفقهه عنه بعض المنتسبين للإسلام.
ومصيبة حين يعود اليهود (التوراتيون) إلى توراتهم المحرفة فيجعلونها مصدرا للتلقي..
وحين يعود النصارى (الإنجيليون) إلى أناجيلهم المحرفة ويجعلونها مصدرا للتلقي..

وينحرف بعض المسلمين عن القرآن وهو هدي السماء والمهيمن على الكتب والذكر الحكيم, وصدق الله "قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ.يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ " (15-16) سورة المائدة.

لقد أدبنا الله نحن المسلمون، وعلّمنا القرآن كيف نتأدب مع رسوله _صلى الله عليه وسلم_ حيًّا ميتًا فقال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ" (1-2) سورة الحجرات.

يقول ابن كثير في مقدمة هذه السورة (الحجرات): هذا آداب أدب الله بها عباده المؤمنين فيما يعاملون به الرسول _صلى الله عليه وسلم_ من التوقير والاحترام والتبجيل والإعظام...و معنى لا تقدّموا..أي لاتسرعوا في الأشياء بين يديه, بل كونوا تبعا له في جميع الأمور..
وهذا الأدب لا يقصر على حياة الرسول..بل بعد موته, فسنّته وسيرته وهديه لا يجوز التقدم عليها, والمجاهرة بالسخرية أو اللمز أو الطعن منها..

وهذا العموم للآية في عدم التقدم بين يديه حيّا أو ميّتا عبّر عنه ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين، فقال: ومن الأدب مع الرسول ألا يتقدم بين يديه بأمر ولا نهي ولا إذن ولا تصرّف حتّى يأمر هو وينهى ويأذن, كما قال تعالى "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ" (1) سورة الحجرات وهذا باق إلى يوم القيامة ولم ينسخ, فالتقدم بين يدي سنّته بعد وفاته كالتقدم بين يديه في حياته, ولا فرق بينهما عند كل ذي عقل سليم (2/ 405).

من الأدب مع رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ -كما قال العالمون- أن لا يستشكل قوله, بل تستشكل الآراء لقوله, ولا يعارض نصّه بقياس بل تهدر الأقيسة وتلقى لنصوصه, ولا يحرّف كلامه عن حقيقته لخيال يسمّيه أصحابه معقولاً –و هو مجهول- ولا يوقف قبول ما جاء به _صلى الله عليه وسلم_ على موافقة أحد, فكلّ هذا من قلّة الأدب معه _صلى الله عليه وسلم_ وهو عين الجرأة. (ابن القيم: مدارج السالكين: 2/ 406).

وحين نعلم هذا الأدب المشروع فليس من الأدب مع الرسول _صلى الله عليه وسلم_ تعظيمه إلى درجة الغلو والشرك به, ورفع الأصوات المنكرة, وتلاوة القصائد الشركية بحقّه ونحو ذلك من منكرات وبدع بظنّ أصحابها أنهم يحبّون الرسول _صلى الله عليه وسلم_ بها ويعظّمونه, وهم في الحقيقة إنما يسيئون إلى شخصيته ويتجاوزون سنته وهديه..

والسنة.. بل دين الله كلّه وسط بين الغالي فيه والجافي عنه وكما لا يقبل النقص في الوضوء أو الإخلال بشيء من أركان أو واجبات الصلاة وسننها, لا يقبل كذلك الإسراف في الوضوء, والوسوسة في عقد النيّة ورفع الصوت بها, والجهر بالأذكار والدعوات التي شرعت سرّا (مدارج السالكين 2/ 408 بشيئ من التصرّف).

كلما ازداد علم المرء وإيمانه كلما ازداد تعلقه بهدي محمد وسنّته, ولقد بلغ الأمر بالعلماء أن يرحلوا ويتعبوا في سبيل جمع السنّة وطلب الحديث, وفي تذكر الحفاظ- يقول محمد بن طاهر المقدس المتوفّى سنة 507 هـ: بلت الدم في طلب الحديث مرتين, مرّة ببغداد, ومرّة بمكة, كنت أمشي حافيا في الحرّ فلحقني ذلك, وما ركبت دابّة قط في طلب الحديث, وكنت أحمل كتبي على ظهري (تذكرة الحفاظ/ 1242)

وكان يلحقهم الدَّين والفقر بسبب عنائهم في طلب الحديث, وقد نقل أن الهيثم بن جميل البغدادي أفلس-يعني افتقر- في طلب الحديث مرتين.
والهيثم هذا هو الذي حين احتضر وسجي نحو القبلة, قامت جاريته تغمز رجله – لترى أ حيّ هو أم ميّت؟ فقال لها: اغمزيها فالله يعلم أنهما ما مشتا إلى حرام قط (خطب المحمود ص 85).
هؤلاء نماذج لتعظيم السنّة والتعب في سبيل جمعها..و أين هؤلاء ممن يهجر السنّة أو يتطاول على صاحبها؟

لذلك يجب علينا نحن المسلمون أن نعظّم كتاب الله تلاوة وتدبّرا وعملا وحكما وتحاكما..و نعظّم سنّة محمد _صلى الله عليه وسلم_ طاعة واتباعا..إنهما توحيدان لا نجاة للعبيد من عذاب الله إلّا بهما توحيد المُرْسِل, وتوحيد متابعة الرسول, وكما يوحّد المُرْسِل سبحانه بالعبادة والخضوع والذلّ والإنابة والتوكّل, يوحد الرسول بكمال التسليم والانقياد لأمره التصديق بما جاء به "وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا" (115) سورة النساء.