شوقي إلى الكعبة الغراء قد زاد فاستحمل القُلُص الوَخَّادة الزادا
أذن إبراهيم في الناس بالحج فأجابوا , ودعاهم فلبوا ... جاؤوا إليه رجالاً على أرجلهم , وركبانا على كل ضامر, جاءوا للحج من كل فج , الشوق يحدوهم , والرغبة تسوقهم .. فهل مرَّ بك ركب أشرف من ركب الطائفيين , وهل شممت عبيراً أزكى من غبار المحرمين , وهل هزَّك نغم أروع من تلبية الملبين ... لقد كان شوق السلف الصالح للبيت - مع بعد الشقة, وصعوبة الترحال, وقلة الظهر, وشدة الحال – شيئاً لا يوصف , فخذ من خبرهم ما يبعث فيك الرغبة , ويحرك في قلبك الشوق ..
• حج الشبلي, فلما وصل إلى مكة جعل يقول: أبطحاء مكة هذا الذي أراه عياناً وهذا أنا ؟! ثم غشي عليه , فأفاق وهو يقول :
هذه دارهم وأنت محب ما بقاء الدموع في الآماق
• عن عبد العزيز بن أبي روّاد قال : دخل مكة قومٌ حجاج ومعهم امرأة وهي تقول : أين بيت ربي ؟ فيقولون: الساعة ترينه . فلما رأوه قالوا : هذا بيت ربك, أما ترينه ؟ فخرجت تشتد وتقول: بيت ربي, بيت ربي, حتى وضعت جبهتها على البيت . فوالله ما رفعت إلا ميتة .
• وخرجت أم أيمن بنت علي - امرأة أبي علي الروذباري - من مصر وقت خروج الحاج إلى الصحراء والجِمال تمر بها وهي تبكي وتقول : واضعفاه , وتنشد على إثر قولها :
فقلت : دعوني واتباعي ركابكم أكن طوع أيديكم كما يفعل العبد
وما بال زعمي لا يهون عليهم وقد علموا أن ليس لي منهم بد
وتقول : هذه حسرة من انقطع عن البيت , فكيف تكون حسرة من انقطع عن رب البيت .
• كان السلطان أبو الفتح ملكشاه ابن السلطان ألب أرسلان صاحب لهو وصيد وغفلة .. صاد يوماً من الأيام صيداً كثيراً فبنى من حوافر الوحش وقرونها منارة ووقف يتأمل الحجاج وهم يقطعون أرض العراق يريدون البيت الحرام فرّق قلبه فنزل وسجد وعفر وجهه وبكى ....
لقد رق قلبه لما رأى الحجيج يجوزون من حوله, كيف لو كان معهم ؟! كيف لو أجلّته ثياب الإحرام فكان يطوف معهم ويسعى ويقف بعرفه ويجمع بجمع ويبيت بمنى ؟!!
دع المطايا تنسم الجنوب إن لهــا لنبأً عجيبــاً
حنينها وما اشتكت لغوباً يشهد أن قد فارقت حبيباً
وإذا كان التاريخ قد حفظ لنا ثلة من الآخرين, قد تقطعت قلوبهم شوقاً للبيت ورغبة في الحج, ففي الآخرين ثلة أيضا, لم تلههم تجارة , ولم تفتنهم حضارة , فسبحان من يلقي الشوق والرغبة في قلب من شاء ..
• قال الشيخ إبراهيم الدويِّش ( ذكر لي أحد الثقات العاملين على استقبال الحجاج في مدينة جدة أن طائرة تحمل حجاجاً من إحدى الدول الآسيوية وصلت في ثلث الليل الأخير أحدى الأيام. قال: كان أول الوفد نزولاً امرأة كبيرة السن فما أن وطئت قدماها الأرض إلا وخرَّت ساجدة . قال: فأطالت السجود كثيراً حتى وقع في نفسي خوف عليها. قال: فلما اقتربنا منها وحركناها فإذا هي جثة هامدة . فعجبت من أمرها وتأثرت بحالها فسألت عنها فقالوا : منذ ثلاثين سنة وهي تجمع المال درهماً درهماً لتحج إلى بيت الله الحرام ).
لله ما أعظم خبر النفوس الراغبة, والقلوب الطاهرة, ولم لا يعظم الشوق فيها, وتعظم الرغبة عندها :والأجر عظيم, والرب كريم .. عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:( مـا أهل مهل قط ولا كبر مكبر قط إلا بشر بالجنة) . وعنه صلى الله عليه وسلم:( من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه ) .وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم:( ما ترفع إبل الحاج رجلاً ولا تضع يداً إلا كتب الله تعالى بها حسنة أو محا عنه سيئة أو رفعه بها درجة ) .
ردو لهــا أيامها بالغميم إن كان من بعد شقاء نعيم
ولا تدلــوها فقد أمَّها أدلة الشوق وهادي الشميم
وبعـد : فيا من صد عن الخير, وانقطع به السير, أما هزك الحادي, أما أسمعك الداعي, يا مسكين: اشتاقت العجماوات وما اشتقت, فأسرعت السير وأبطأت. ركب عمر بن الخطاب _رضي الله عنه_ ناقة إلى الحج فأسرعت به فأنشد:
كأن راكبها غصن بمروحة إذا تدلت به أو شاربٍ ثمل
عجبٌ والله من إبل تحن شوقاً ما هي بالعاقلة, وأنت عاقل! لكن الله هدى ( ومن يظلل الله فماله من هاد ).
نوق تراها كالسفين إذا رأيت الآل بحرا
كتب الوجاء بدمائها في مهرق البيداء سطرا
فكأن أرجلهن تطلب عند أيديهن وترا
أما المجرمون فلهم أذان لا يسمعون بها , ولهم أعين لا يبصرون بها . وصلهم الأذان ولم تصل منهم الإجابة, هان عليهم السفر إلى كل بقعة إلا خير بقعة , عرفوا كل طريق إلا طريق مكة، سلكوا كل فج إلا طريق الحج ، اكتفوا بالحرام عن لبس الإحرام ، شغلهم الهوى عن الهدى. فأي حرمان بعد هذا , وأي خسارة يوم يعود الناس بالغفران ويبوء أولئك بالخسران .
زار الحجيج منى وزار ذوو الهوى جسر الحسين وشعبه واستشرفوا
فبادر الحج فالفُرص فواتة, والعمر يمضي, والأحوال قُلَّب وفي الحديث عنه _صلى الله عليه وسلم_ قال: ( من أراد الحج فليتعجل, فإنه قد يمرض المريض, وتضل الضالة, وتعرض الحاجة )
اللهم تقبل منا إنك أنت السميع العليم