من الموضوعات التي تعدها النخبة العلمانية مجالها الخصب والحيوي, والذي من خلاله تمرر مشروعها الفكري, ونموذجها السلوكي: الفن. وهي تعتقد أن اهتمامها بهذا اللون الثقافي المتميز يأتي في إطار تفجير الطاقات الإبداعية التي تختزنها المواهب, والتعبير عن كل الخصوصيات المحلية التي تتوسل الفن كأداة لإبرازها.
وهي في تركيزها على هذه القضايا لا تعير الاهتمام لبناء تصور متوازن من المسألة الفنية, بل تعتبر الانشغال بقضاياه وعناصره أمرا يتعدى الخوض في تفاصيل المفهوم الفني, ومسائل الالتزام. بمعنى إن التصور العلماني للفن لا يجيب عن مفهوم الفن, وغايته, وعلاقته بالوظيفة المجتمعية. إنه يرى أن الاشتغال بهذه القضايا المعرفية هو مجرد التأسيس العملي للإرهاب الفكري، وشرعنة الرقابة على مواد الفن وعروضه.
في مقابل ذلك لا يرعوي التوجه العلماني عن شن حملة قوية ضد الحركة الإسلامية, أو ضد التوجه الإسلامي في هذه المسألة. فهذا التوجه في اعتقاد النخبة العلمانية لا يؤمن بالفن ولا برسالته العميقة، بل يعتبره مروقا عن الدين، وأداة لنشر الرذيلة، وبناء على ذلك، فهو يشكل الجبهة الدينية التي تسعى لتوسيع ذاتها بضمها لجميع المؤسسات الدينية، وجمعيات الحقل المدني لممارسة دور الرقابة على الفن، في أفق إجهاضه ومنعه من أداء رسالته الحضارية.
والواقع, إن جو الاحتقان السياسي، والاحتراب الثقافي لا يسمح بتمحيص الأفكار وعرضها على ميزان النقد العلمي, فهل صحيح ما يتوجه إلى التوجه الإسلامي من نقد؟ وهل يتبنى التوجه الإسلامي الموقف العدمي من مسألة الفن؟ وما هو التسويغ العلمي للنقد الإسلامي لقضايا الفن وموضوعاته؟ بل ما حقيقة الارتباط الحيوي بين التوجه العلماني والفن؟ ولماذا لا يعنى هذا التوجه بتحديد المفاهيم في هذه المسالة؟ ولماذا يتحاشى الحديث النظري عن الرسالة الفنية وارتباطها بالوظيفة المجتمعية.
بدءا نسجل – كمراقب للنقد الفني – أن ما يوجهه الطرح الإسلامي من نقد لموضوعات الفن إما ينصرف إلى الشق الأخلاقي، حين تتجاوز بعض الأعمال الفنية حدود الفضيلة مما يطرح سؤال تناقض الهدف والوسيلة، إن كان الهدف فعلا يتماشى مع الرسالة الفنية النبيلة، وإما ينصرف إلى الموضوع، وخاصة إذا كان يتعارض مع المرجعية الإسلامية, أو مع الثوابت الثقافية المجتمعية. وهو في نقده لا يتوجه إلى الفن فيبطل مفهومه، ويلغي مقاصده وأهدافه، بل تراه يركز على طرح قضية الالتزام في الفن.
في حين يعنى التوجه العلماني مطلقا بتحرير الفن وعروضه، وإلغاء مفهوم الرقابة، واعتبار كل القضايا المجتمعية مجالات لانسياب الفن، بما في ذلك تلك التي لها تعلق بالمسائل الجنسية. فالفن أصلا خلق للتعبير عن كل الظواهر المجتمعية, وللإسهام في حلها. وإذا كانت المسألة الجنسية عبارة عن تابو (محرم) في الثقافة العربية الإسلامية، فإن تحرير الفن، وتوسله كأداة للتعبير عنها، وحل هذا الكبت الاجتماعي الذي يفرضه الموروث الثقافي والاجتماعي يعتبر من صميم وظيفة الفن ورسالته .
هنا تكمن المشكلة، فينظر إلى التوجه الإسلامي على أساس أنه لا يمتلك رؤية للفن والعمل الفني، بينما ينصرف التوجه العلماني لاحتكار الشرعية في قضية الفن: شرعية الحديث عن الفن، وشرعية الدفاع عنه، وشرعية التسويغ الإيديولوجي لموضوعاته وعروضه.
بيد أن الناظر لمفهوم الفن وقضاياه، وأهم التحديدات الفلسفية الغربية بشأنه لا يجد أي تعقيب نظري يذكر على التوجه الإسلامي, فهو يتبنى قضية الالتزام في الفن التي عبر عنها عشرات الفلاسفة والمفكرين والفنيين، وحتى بعض التوجهات الإيديولوجية، فقضية الالتزام في الفن هو موقف فلسفي وفكري وسياسي، يتأسس على قناعة مشروعة، تنطلق من تحديد الغاية والقصدية من العمل بارتباط مع المشروع المجتمعي.
فالحرص على الفضيلة والأخلاق داخل النسق الاجتماعي, وتأمين شبكة العلاقات الاجتماعية، وحماية الأسرة والطفولة، ليست مجرد قضايا مصطنعة لتبرير عملية المصادرة وتفعيل دور الرقابة، بل إنها قضايا بدأت تحظى بأهمية بالغة حتى داخل الغرب الذي مضى بعيدا في نظرية تحرير الجنس.
ومن ثمة, ما يعلن في الخطاب الإسلامي, أو في النقد الإسلامي تحديدا لموضوعات الفن ليس نشازا, أو خارج المسموح به فكريا وعلميا, بل هو نقد مشروع ما دام يتأطر بالرغبة في الحفاظ على النسيج المجتمعي من التفكك، وما دام أيضا مشفوعا بطرح البديل الملتزم الذي يعنى أساسا بالتعبير عن قضايا الناس وهمومهم في إطار من احترام للثوابت الثقافية للمجتمع الإسلامي.
فليس موضوع الفن محصورا في كشف جغرافية الجسد، وليست القضية الجنسية قضية المجتمع العربي الإسلامي الوحيدة، وليس الكشف عن الظواهر المرضية الخفية بأسلوب فج هو رسالة الفن الحقيقية، إنما الرسالة الحقيقية للفن أن ينصرف للتعبير عن هموم الجماهير، وأحلامها في التغيير والنهضة، وانتقاد الأوضاع القائمة باللغة السخرية المعبرة، والرغبة في تحسين شروط عيش الكادحين . وحتى المسألة الجنسية يمكن أن يطرحها الفن بأسلوب لا يتناقض مع مقومات المجتمع ومرجعيته، فالفن - بما هو فن - لا يعجز عن ابتكار الأسلوب المناسب في التعبير عن كل القضايا دون المساس بثوابت الأمة وقيمها.
يتضح من خلال هذه المقاربة الملخصة أن النقد العلماني للتوجه الإسلامي بخصوص المسألة الفنية لا يقوم على أساس علمي أو نظري، وإنما هو عبارة عن نقد سياسي غايته استعداء الفن ورجاله وحتى بعض جمهوره على الحركة الإسلامية.
فإذا ناقشنا الطرح العلماني نفسه, فلا تكاد تجد عمقا فلسفيا في موضوع الفن, بل لا تكاد تجد توجها ناظما, وإنما هو مجرد التبني لكل موضوعات الفن الملتزمة والهابطة, المتميزة والتجارية. بل إن المرء ليتساءل عن السر في الاهتمام المتزايد ببعض الأعمال الجريئة التي تتوجه أساسا لنقد ثابت من الثوابت المجتمعية, أو تتعرض للاستهزاء والسخرية بالدين، أو تستهدف التعبير عن تصور وموقف أمني من تيار سياسي معين، في تحالف مشبوه بين بعض رموز الفن والقيادات السياسية الرسمية.
إن هذا التساؤل يطرح سؤال الالتزام في الفن داخل التوجه العلماني. فهل يتغير موقف هذا التوجه فيلغي مفهوم الفن من أجل الفن؟ أم تراه يتبنى القصدية والغاية في الفن مع تحديد الرسالة الفنية في الجرأة على مقومات الأمة واستهداف الخصوم السياسيين؟
أسئلة لا يجيب عنها الطرح النظري العلماني, حتى إن المراقب للمشهد النقدي في مجال الفن يكاد لا يدرك الأساسات والمعايير المعتمدة في اختيار الأعمال الرائدة. فالأعمال الفنية التي تركز على المخبوء التربوي في شقه السلبي تنال الرضا الغربي، كما أن أعمالاً أخرى تخوض حربا على قيم الأمة تلقى مباركة كبيرة من دوائر الدعم الداخلية والخارجية، في حين لا تجد الأعمال الجادة ذات الارتباط العضوي بهموم الجماهير، وأحلام الأمة العربية في التحرر والنهضة أي تقدير يذكر، اللهم التوظيف السياسي المرن لبعض الأعمال لامتصاص الغضب الشعبي. وهكذا لا تنال مسرحية "سكة السلامة" للفنان محمد صبحي الاهتمام المناسب, والتقدير المطلوب, اللهم العرض في مناسبات تأجج القمع الإسرائيلي. في حين تعرض مسرحية "الواد سيد الشغال" مثلا كل حين في كل القنوات العربية مع ما تتضمنه من استهزاء سافر بقيم الدين وأحكامه, وبتاريخ العرب والمسلمين.
إن هذه الأمثلة البسيطة هي بمثابة عينات صغيرة تشهد على الاضطراب العلماني في تعاطيه مع المسألة الفنية, هذا الاضطراب الذي لا يفسره سوى غياب البعد النظري لدى هذا التوجه.
فهو غير معني تماما بقضية الالتزام في الفن, غير أنه معني بالدفاع عن الفن ضد أية رقابة، خاصة إذا كانت مؤطرة بخلفية دينية أو أخلاقية، وهو لا يعنيه التقيد بموضوعات دون أخرى، ما دام الفن يعرض كل القضايا بأسلوب واقعي مكشوف، وفي نفس الوقت هو منصرف عن قضايا المجتمع وهمومه إذا تعلق الأمر باستهداف خصم سياسي، إذ ذاك تصبح مهمة الفن الأولى هو التصدي للفكر الديني الأصولي الذي يصوره التوجه العلماني كعدو للفن والفنانين.
والواقع أنه ليست هناك أية خصومة مبدئية ولا معرفية مع الفن من جانب التوجه الإسلامي، فالفن يبقى من قنوات تشكيل العقل الإسلامي, وهو من المجالات التي يعتمد عليها التوجه الإسلامي في انسياب خطابه، وتنزيل مشروعه.
صحيح أنه لم يقدم نموذجه الشامل الذي ينظر له بخصوص المسألة الفنية, ولكن بعض الأعمال المتميزة هنا وهناك تشهد أولا بالعمق النظري والفكري لهذه القضية, كما تشهد بالتميز في طرح الموضوعات وحتى في الأداء. فإذا أخذنا الموقع الذي يحتله التوجه الإسلامي, وهو بالضرورة غالبا ما يكون خارج السلطة، وغالبا ما يكون فاقدا لكل الإمكانات المساعدة على إخراج الأعمال الفنية، استطعنا تفسير محدودية العطاء الفني الإسلامي، هذا دون الحديث عن التهميش المقصود، والإقصاء الذي يمارس ضد الإبداع الملتزم عموما، خاصة ذلك الذي ينزع نحو السخرية بالأوضاع والسياسات القائمة.
ومن ثمة فغالب الانتاجات الملتزمة لا تجد غير فضاء الجامعة لتعبر عن نفسها، وهي تعاني من حصار مضاعف، حصار السلطة في عالمنا العربي، وحصار النخب الفكرية العلمانية التي لا تعنى سوى بالدفاع عن الأعمال الجريئة التي تستهدف قيم المجتمع وثوابت الأمة.
إن النخبة العلمانية مدعوة لطرح موقفها الصريح من الفن، أهي مع الالتزام بهموم الجماهير وأحلامها؟ أم هي منحازة للسياسة الثقافية التي تستهدف ضرب الطلائع النشطة حاملة لواء التغيير والنهضة؟ أهي معنية بالدفاع عن ثوابت الأمة ومصالحها الإستراتيجية؟ أم هي مطلقا تستهويها كل الأعمال التي تتفنن في عرض الجسد, والاستهزاء بقيم الأمة وتاريخها وتراثها؟
أسئلة تتوضح عندها الهوية الفنية للنخبة العلمانية، وتنبري كل الكتابات النقدية التي تتوجه للخطاب الإسلامي لتكشف عن حقيقة لغتها. أهي تناقش طرحا نظريا وعمليا للمسألة الفنية؟ أم تستهدف خصما سياسيا, وتستعمل كل الأسلحة بما في ذلك سلاح تحرير الفن؟
أعتقد أنه آن الأوان لنصحح النظرة اتجاه الفن ورسالته الحضارية، وآن الأوان لنكسر الاحتكار القسري لشرعية الحديث باسم الفن والفنانين.
لقد آن الأوان لتعلم النخبة العلمانية أن ما يقدم من عروض داخل الفضاء العربي الإسلامي, لا يمكن أن يحكم بنجاحه أو فشله سوى الجمهور العربي الإسلامي، وهو بحال لن يقبل بأي مساس بقيم الأمة وثوابتها، ولن ينظر إلى الأعمال المعبرة عن ثقافة الغرب وقيمه والمنحازة لسياساته الظالمة اتجاه العرب والمسلمين إلا بعين السخط والغضب.
إن الإعراض الجماهيري الذي تلاقيه كل القنوات المعبرة عن الأنظمة العربية, وفي المقابل الإقبال الذي تلاقيه القنوات الإعلامية الجادة التي تنحاز للخط الجماهيري, ولهموم الأمة لدرس بليغ للنخبة العلمانية, وهي تتلاعب بقضية الالتزام بالفن, وتوظفها لتصفية حسابات سياسية ضيقة.
وغدا إذ ترفع الحركة الإسلامية من كفاءتها وأهليتها، وينفسح لها المجال – كما انفسح لغيرها – لخطابها ولوسائل تعبيرها، ينبري النموذج الفني الذي تتبناه للتعبير عن هموم الأمة، فتتفجر الطاقات، وتعانق الجماهير الشعبية هذا اللون الرسالي كما عانقت بعض صوره الجماهير الطلابية في الحرم الجامعي، وتجد فيه ضالتها المنشودة وحريتها المفقودة، وحلمها المرجو، وحينها يجوز للنخبة العلمانية أن تحكم، وأن تنتقد الخط الفني للحركة الإسلامية. أما وإن الحركة الإسلامية محاصرة في رجالها ومشروعها، وإعلامها وكل وسائل تعبيرها، ممنوعة من الظهور في مشهدنا الإعلامي المتخلف، فحق للنخبة العلمانية أن تستغل مواقعها لتمارس النقد، ما دام المنتقد لا يستطيع أن يقدم نموذجه للفن لأنه خارج السلطة، أو على الأقل لأن خطابه غير مرغوب فيه حسب الاعتبارات السياسية المستحكمة.