كنا قد بسطنا في مقال سابق أسس كل من الطرح الإسلامي والطرح العلماني للمسالة الفنية، وحاولنا من خلال المقال محاورة مفاصل التوجهين وذلك من خلال التركيز على مفهوم الفن ووظيفته الرسالية، وحررنا النظر في مفهوم التحرير والرقابة وعلاقتهما بالإبداع وحرية التعبير. غير أن الموضوع عاد ليطرح في قالب سياسي أبعد ما يكون عن المعالجة المعرفية التي تعنى أساسا بتحديد مفهوم الفن ومرتكزات الرؤية الفنية، وطبيعة الرسالة الفنية، وبالتالي الخطاب الفني الذي يستهدف المتلقي، ذلك أن المعالجة السياسية إنما تعكس التدافع السياسي الموجود على الأرض بين ممثل لمفهوم تحرير الفن، وهو من يمتلك قنوات تصريف المنتوج الفني، بل ويملك أيضا آليات الدعم والتسويق، وبين من يملك رؤية النقد الفني التي تطرح سؤال القصدية والغاية من الفن، وسؤال الأخلاق والقيم، وهو على كل حال خارج الفضاء والمشهد الفني، لا يملك إلا أن يعبر عن رأيه النقدي للمنتوج الفني المعروض.
في خضم هذا الصراع حول فيلم " كذا " وفيلم " كذا " بين الرؤيتين، تطرح أسئلة أعمق على المنتوج الفني، أسئلة تحاول أن تتجاوز معادلة (العرض / الاعتراض) بل وحتى معادلة (الإنتاج / النقد) لتركز على وظيفة الفن وهموم الجماهير.
لن يكون للاعتراض على المنتوج الفني أي معنى لو كان الفن يؤدي وظيفته الرسالية، ولن يكون للاعتراض على تعبير الفن عن واقع الأمة وظواهرها الاجتماعية أي جدوى لو كان الأمر بقصد طرح البديل المجتمعي القادر على استيعاب أفضل للمشكلات، ولفت الانتباه إلى الاختيارات الضرورية التي من شأنها أن تضع المجتمع بكافة شرائحه في الخط الصحيح، إنما الاعتراض له وزن واعتبار لو انصرف إلى شكل التعبير وصورته وقوم المشهد الفني بناء على الحاجة المجتمعية والضرورة الواقعية. أفتح القوس لتجلية اللغة الرامزة لأقول: أعتقد أن الرسالة الفنية لا ينبغي أن يصرفها عرض الواقع وظواهره الاجتماعية عن تقديم الاقتراح الذي يصوغه الفن بلغته الخاصة.
وأعتقد من باب أولى أنه من الجائز أن يبالغ المنتوج الفني في تقرير صور الواقع وظواهره الاجتماعية بشكل يجعل المتلقي مستمتعاً بالظاهرة في شكلها الفني أكثر من تنبهه للرسالة الفنية، إن كان المنتوج الفني يعنى أساسا بمعالجة اختلالات الواقع وانحرافاته، غير أن هذا لا يمنع من طرح سؤال التوازن بين تقرير الواقع والتعبير عنه وبين الرسالة الفنية، التوازن بين الحاضر الذي يعبر عنه فننا وبين المستقبل كما يقترحه المنتوج الفني من خلال إشاراته ورموزه الدالة. إن هذا التوازن هو الذي يحتم النظر في مبدأ "الأخلاق والقيم" في المنتوج الفني.
ليس المطلوب أن يتحول المشهد الفني إلى مواعظ ورقائق، وليس المطلوب أيضا أن يصير الفن تثويراً لعواطف الجماهير وربطا لها بهموم الأمة، إنما الرسالة الفنية فيها من التنوع ما يجعل العمل الفني قادرا على استيعاب كل الموضوعات، وإدراجها باللغة الفنية المناسبة في شكل يتناغم مع قيم الأمة والثوابت المجتمعية.
وإذا كان من الضروري الإشارة إلى الظاهرة الجنسية كظاهرة اجتماعية في شرعيتها وانحرافها، فلا يعدم الفن بلغته الإبداعية أي يجد مسلكا ومنهجا للتعبير عنها بشكل ينسجم مع الثوابت التي تجعلها مقبولة داخل النسيج المجتمعي، بعيدا عن التقريرية الفجة التي قد يكون للرأي الذي يقول بمنزعها التجاري والارتزاقي حجة في وقت تراجع فيه المنتوج الفني عن إخراج الأعمال التي تنال رضا الجمهور حين تتميز بالعمق الفني.
رأي الجماهير:
نعود فنطرح السؤال البسيط الذي لا تمنعنا بساطته من أن نثيره: هل تعني الديمقراطية وحرية التعبير عدم الاعتراض على أي عمل فني، وهل تعني بالضرورة الرقابة وحذف كل ما لا ينسجم مع ثوابت الأمة نزعة فاشستية بعمق ظلامي؟. في اعتقادي أنه في بلاد الديمقراطية التي يتغنى البعض بنموذجيتها لا ينظر إلى الناقد من داخل هذه الثنائية الفجة: إما أن تكون ديمقراطيا متنورا فتقبل كل ما يعرض دون أي تعليق أو تعقيب، وإما أن تكون ظلاميا فاشستيا مهددا للحرية.
أعتقد أن هذا النوع من التحليل، وهذه النعوت الجاهزة هي من قلة انفتاح هذا العقل على الإمكانات المتاحة في حقل الدراسة، أو على الأقل هو من طبيعة العقل السياسي الصراعي الذي لا يميز المعرفة إلا من خلال تصارع الثنائيات التي تلغي الاختيارات الأخرى. فليس في المنطق المعرفي (مع أو ضد) بل إن المنطق المعرفي يفتح إمكانية المغايرة والاختلاف التي لا تعني بالضرورة الضدية.
إن هذا المنزع التحليلي يفتح المجال للذي لا يقبل الاعتراض على منتوجه الفني لقبول الرأي الآخر، والنظر بعمق في مدى تمثيلية هذا الرأي أو ذاك لنبض الجماهير وهمومها. فما أصعب أن يتماهى الفن مع موضوعات الآخر ومسلكيات تعبيره عن واقعه، دون أن يلتفت إلى خصوصيات النسق الاجتماعي الذي يعيش فيه.
وتلك مشكلة الفن حين ينزع إلى محاكاة الفن الغربي في كل موضوعاته حتى تلك التي لا يوجد لها محل في واقعنا أو يندر وجودها فيأتي الفن ليبرزها في غير حجمها الطبيعي، فيلقى من الاعتراض المجتمعي ما يجعل الفنان مستمسكا بإبداعه على حساب قضايا الأمة، ويجد في خطاب الحرية والديمقراطية ورفض الرقابة مستمسكه الحجاجي الذي يحسن استعماله إعلاميا وهو يعرض مظلوميته الفنية.
أعتقد أن كسب رهان الإبداع الفني والنجومية الفنية لا يكون بالضرورة بإثارة مثل تلك القضايا، ولا بمخاصمة الجماهير وثوابت الأمة، إنما يكون بالانغراس في الشعب والانحياز لقضاياه العادلة، ومعالجة الظواهر المجتمعية باللغة الفنية الدالة في تناغم مع الثوابت والعقيدة المجتمعية.
الحركة الإسلامية والفن: مجرد رأي:
إذا كان من واجب الحركة الإسلامية أن تقوم المشهد الفني بطرحها لسؤال القيم والأخلاق، وإذا كان من صميم دورها الرسالي أن تعترض على أي دعم لأي عمل فني يتصادم مع هوية الأمة وثوابتها، فهذا لا يمنعها من أن تطرح السؤال على نفسها: أي فن قدمت هذه الحركة الإسلامية لتحقيق الرسالة الفنية القاصدة؟ سؤال يخلخل سلسلة من القناعات التي تشكلت بفعل الممارسة الدعوية والحركية. يكون للاعتراض ضرورة ووجاهة أكبر لو قدمت الحركة الإسلامية نموذجها المتميز التي تعرضه على الجمهور والنقاد، حتى تتوضح الصورة وتبدو المقارنة واضحة بين الطرح الإسلامي الحركي للفن، والطرح العلماني.
إن سؤال الفن داخل الحركة الإسلامية قد يعجل الحسم في مفهوم الطائفة الذي صار يتجسد داخل الفهم والممارسة الحركيين، ذلك أن النموذج الحركي الإسلامي للفن لا يمكن أن يشكل أرضية لإبداع فني مثال، فباستثناء بعض اللوحات الفنية التي حاولت الخروج عن النزعة المشرقية لا تكاد تجد تميزا فنيا يمكن أن تستجيب له الجماهير.
إن سؤال أسلمة الفن لا يعني بالضرورة قولبته وفق النموذج الإخواني المصري أو السوري أو الأردني، إنما السؤال يتجه إلى الموضوع الفني والقضايا الفنية والأسلوب المغربي أكثر مما يتجه إلى إعادة إنتاج نموذج من النماذج الفنية التي غزت الساحة الفنية المغربية زمن الفراغ الفني الإسلامي. إن هذا الرأي لا يعني التحامل على الفن المشرقي الإسلامي الذي استطاع أن ينطلق من قضاياه، وأن يركب لغة بيئته الخاصة دون أن يجد نفسه في تضاد مع مجتمعه.
إنما السؤال: كيف تقدم الحركة الإسلامية فنا مغربيا يعنى بطرح المفاهيم الرسالية ويناقش الظواهر المجتمعية، ويتضامن مع قضايا أمته بأسلوبه الخاص، ويتعايش مع الموجود الفني الذي يتقاسم معه الموضوعات والرسالة الفنية. سؤال تجيب عنه الأولويات الحركية للحركة الإسلامية حين تقتنع بضرورة توجيه العناية إلى الوسيلة الفنية، وحين تدرك دور الفن في تشكيل القناعات العقدية والتصورية والتربوية.....
وبعد:
فإنه من الجائز أن تنتج معروضات فنية كثيرة تتصادم مع هوية الأمة وثوابتها الأخلاقية، ومن الجائز أن تتشكل بعض الجبهات هنا وهناك ضد قناعات الحركة الإسلامية وشكل تمثلها للمنتوج الفني. وإذا كان الأمر بهذا الوضوح الاستراتيجي بالنسبة إلى الحركة الإسلامية فهذا يطرح عليها أن تشتغل على جبهات:
- الجبهة الأولى: تبني الأعمال الفنية القاصدة، وذلك بهدف خلق الجبهة الفنية الإسلامية أو القريبة منها أو على الأقل تحييد بعض الجهات في التدافع الفني المقبل.
- الجبهة الثانية: التواصل الدائم مع رواد المشهد الفني، وذلك عبر فتح الحوارات لتبادل الأفكار والقناعات، وخلق الصداقات الموضوعية.
- الجبهة الثالثة: تحريك آلية الدعم للأعمال الفنية، أو احتضان الأعمال الفنية الراشدة، وهذا يعني تحريك القناعات في اتجاه الدفع بأولوية الوسيلة الفنية، والاقتناع بقدرتها على إيصال الرسالة التربوية والدعوية.