لا شك في أن الدين يسر، ولن يشاد هذا الدين أحد إلاّ غلبه، كما صح عن نبينا صلى الله عليه وسلم(1)، الذي بعثه الله ليضع عن البشرية الآصار والأغلال التي كانت عليهم، قال الله تعالى: "هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ" (الحج: من الآية78)، لم يكلفكم الله في هذه الملة ما لا تطيقون، وما ألزمكم بشيء فشق عليكم إلاّ شرع لكم فيه تيسيراً، "لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا" (البقرة: من الآية286)، "يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ" (البقرة: من الآية185)، "يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ" (النساء: من الآية28)، فوالله ما أنزل الله هذا القرآن لنشقى.
ومن رفع الحرج في هذه الشريعة الرخصة في قصر الصلاة في السفر والإفطار في رمضان فيه، وصلاة العاجز عن القيام قاعداً، وإباحة المحظور للضرورة، كما قال تعالى: "وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضطررتم إِلَيْهِ" (الأنعام: 119) الآية إلى غير ذلك من أنواع التخفيف والتيسير، وما تضمنته هذه الآيات من رفع الحرج والتخفيف في شريعة نبينا صلى الله عليه وسلم، هو إحدى القواعد الخمس، التي جاءت عليها أحكام الشريعة.
والحرج المرفوع في هذه الآيات ونحوها هو المشقة غير المعتادة، أما أصل التكليف فلا يخلو من جنس مشقة، بل ما سمي التكليف تكليفاً إلاّ لأنه طلب ما فيه كلفة ومشقة وقد قيل:
لولا المشقة ساد الناس كلهم | الجود يُفقِر والإقدام قتَّالُ |
وأي سيادة ترام فوق سيادة أهل السعادة في دار المقامة أكرم بها وأهلها، تالله ما هزلت الجنة فيستامها المفلسون، ولا كسدت فيبتاعها بالنسيئة المعسرون.
يا ضعيف العزم: أين أنت والطريق نصب فيه آدم؟ وناح لأجله نوح، ورمي في النار الخليل، واضطجع للذبح إسماعيل، وبيع يوسف بدراهم بخس، ونشر بالمناشير زكريا، وذبح الحصور يحيى، وأضني بالبلاء أيوب، وزاد على القدر بكاء داود، وتنغص في الملك عيش سليمان، وذاق البلاء والتغريب موسى، وقاسى فيه ما قاسى عيسى، وعالج الفقر محمد صلى الله عليهم وسلم.
فَيا دَارَها بالخيفِ إِنَّ مَزارَها | قَريبٌ وَلَكِن دَونَ ذَلِكَ أَهوالُ |
ومع ذلك فإن الكلفة الشرعية -غير العارضة بسبب الأهواء البشرية- إنما نشأت عن حكمة بها تستقيم حياة العباد في الدنيا قبل المعاد، ثم من رحمة الله بالعباد أن شملها بتيسير وتخفيف.
وإذا علم أن جنس المشقة لابد منه فليعلم أن مشقة التشريع درجات، منها ما لايطيقه الخلق وهذا لم يجئ به التكليف أصلاً، ومنها ما يطاق لكن بشدة وحرج، وهذه ما رفع الله عنا فيه الحرج وأوجد لنا فيه الرخص.
وإذا تقرر هذا علم أن الشريعة في نفسها ميسرة باعتبار مناسبتها لقدرة عموم الخلق، وباعتبار المصالح العظيمة المترتبة على المشقة اليسيرة، بيد أنها على تيسيرها قد يعرض للمكلف فيها ما يجعل اليسير عليه عسير لعذر قام به، أو أمر خارج عن التشريع متعلق بملابسات الواقع ولهذا كان مهمة الرسل شاقة عظيمة، ولهذا رفضت الخلائق أن تنوء بأعباء التكليف: "إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً" (الأحزاب:72).
وهذا اليسر الذي هو من خصائص الشرع المنزل، قد يكون ظاهراً في التكليف بحيث يلمس المرء التيسير ويشعر به أثناء أدائه، ولاسيما إن علم حِكَمه وأدرك منافعه، فالصوم مثلاً إمساك مدة مقدرة هي من أحسن ما يناسب عامة المكلفين.
وقد يكون اليسر باعتبار ما يترتب على ترك التكليف، ومن ذلك الجهاد، فهو مشروع مع أنه كره للنفوس: "كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ" (البقرة:216)، ولاشك أن في الجهاد مشقة ظاهرة وحسبك اسمه ومادته، وإن لم يكن فيه إلاّ السفر لكفى ففي الصحيحين: (السفر قطعة من العذاب، يمنع أحدكم طعامه وشرابه ونومه)(2)، فكيف وفي الجهاد حمل الحديد، ومصابرة العدو، ومقاسات الألم، وبذل المال، وإصابة الجراح، وذهاب المهج. ولكن لما كان مقصده نبيلاً وهدفه سامياً ألا وهو بسط حكم الشريعة السمحة الغراء، وإظهارها على القوانين الأرضية والأهواء، هانت المشقة التي لم تكن مقصودة لكنها عارضة قد علم أنه لابد منها.
فبهذا التيسير يؤول التشريع -وإن كانت فيه مشقة محتملة- إلى تيسير، ونظير هذا المشقة العارضة في الصناعات الدنيوية التي تسهل الأمور الحياتية، فلا ينبغي أن يقال إن الصناعات –كالسيارات مثلاً- لما تقتضيه من إلانة حديد ومعالج صعاب محض عنت وتعذيب للنفوس، بل هي من جملة تيسير أسباب الحياة.
وهكذا قد يكلف العباد بأفعال لا تنفصل عن مشقة ظاهرة لحكمة بالغة.
وقد تكون المشقة عارضة لا يقتضيها أصل التكليف فهذه إما أن يمكن التخلص منها دون ترك العمل، فيحصل المقصود بدونها، وإما أن يتعذر التخلص منها أو يستحيل.
فإن أمكن التخلص منها مع القيام بالتكليف فالعقل والشرع والحكمة قاضيات بجواز التخلص منها.
وإن لم يمكن ذلك فلا مناص منها ولن يخلو تقديرها من خير للعباد في الدنيا والآخرة، وإن لم يظهر وجهه للناس.
وقد يعذر في هذه الحال بعض الناس بترك العمل المُكَلَّف به لعجزهم عن تحمل المشقة العارضة إما لسبب متعلق بهم في أشخاصهم، أو لأحوال وملابسات متعلقة بواقعهم خاصة دون.
فإذا كانت المشقة في من لازم نفس التكليف –وهي المحتملة لعموم الناس كالمشي إلى المساجد دون الركوب فعلى المسلم أن يحتملها، وليوقن أن في التزامها خيراً له في عاجل أمره وآجله.
أما إن كانت المشقة العارضة لا يمكن دفعها، فإما أن يأتي التشريع بما يدل على أن العاجز بسبب تلك المشقة غير مخاطب بالأمر على الوجه الذي خوطب به القادر، كقيام الصلاة فلا يلزم به الكسيح أو المريض مرضاً مقعداً، ولا يقال إن الله كلف مثل هذا بالقيام، بل ما كلف الله إلا بالقيام مع القدرة "لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا" (البقرة: من الآية286).
وإما أن يدل التشريع على أنهما سواء –العاجز بسبب المشقة والقادر- غير أن للعاجز بسبب المشقة رخصة في تأخير الفعل أو تركه، كتأخير الصوم للمريض، فلم يقل أحد من أهل العلم ههنا بما أن المشقة تجلب التيسير فليصم المريض نصف اليوم وكفى، أو ليصم بالليل عوضاً عن النهار لأنه أسهل!
والمقصود من المثال بيان أنه لا يسوغ في تلك الحال أبداً أن تغير الشريعة وتبدل باسم التيسير إلى ما يتلاءم مع ذلك الواقع الخاص.
ففرق بين أن تكون الشريعة بخصائصها كما أنزلها ربنا مناسبة لكل زمان ومكان، مع عذر المكلف في تركه بعضها لعذر قام فيه، وبين أن نغير الشريعة ونجعل أهواء البشر وما يضعون شرعاً متبعاً ليوافق أعذار الناس أو أهواءهم. فالتيسير في ما دل عليه الدليل، لا في شريعة مبدلة مغيرة باسم الإحسان والتوفيق.
إن ماء الوحي الصافي النازل من السماء يصلح لتحمله كل إناء غير منكوس، ومن خصائصه أنه لا يأسن مع الزمن، أما إذا كان بالإناء عارض كنحو صدع فلن يحمل الماء، وقد يحمل أشياء أخرى وعندها ليس لنا أن نسميها ماءً، وليس لنا أن نخلط الماء بالطين ليحتمله الإناء ويشربه الناس.
ومن هنا يظهر الفرق الكبير بين من جعل التيسر مرجحاً لاختيار خلاف ما رجحه الدليل، فأحدث لأجل التيسير –الذي يعتقده- تشريعاً يخالف مقتضى الأدلة، وبين من جعل التيسير مرجحاً في حال تكافؤ الأدلة عنده– على أن هذا محل بحث وخلاف عند أهل الأصول معلوم.
غير أن الثاني في الجملة عملٌ بمقتضى الشرع، والأول معارضةٌ للشرع موافقة للهوى.
وإذا تبين ما مضى تبين الغلط في اللغط الذي يسوغ به بعض الناس أفعالاً لم تأت بها الشريعة باسم التيسير.
ولو تأمل المنصف لوجد أن كثيراً منها يعود على المكلفين بالعنت والتعسير.
ولعل من المناسب في هذه الآونة أن يُضرب مثل بالحج، فالحج تكليف هو ضرب من الجهاد والجهاد مشتق من (جهد) فلا بد من أن يلاقي المكلف مشقة فيه.
ومشقة الحج على الضربين المذكورين، ففيه مشقة عارضة غير مقصودة لكن لابد منها، وفيه مشقة مقصودة في مواطن لحكمة علمها من علمها وجهلها من جهلها لعل منها أن يتربى الناس على ترك الترفه والتوسع في المباحات، وتمام العبودية لله بالتزام أمره في المكره كالمنشط، وتحصيل منافع بتدريب البدن بل النفس على تحمل بعض ما يُحتمل.
وإذا كانت المشقة والمعالجة مما طبع عليه الفعل، فمحاولة التخلص منها لا تكون إلاّ بالتخلص من الفعل المكلف به، إما بإسقاطه أو الإتيان بآخر لم يأمر به الشرع عوضاً عنه، وفي كثير من الأحيان لا يزيد هذا العوض الناسَ إلاّ عنتاً لو التزموا به، وربما لم يزد الفعل البديل الناس عنتاً ظاهراً بيد أنه قد يذهب بعض مقصود الفعل المأمور به فتذهب حكم جمة شرع لأجلها العمل المنطوي على بعض المشقة.
أما المشقة العارضة فلا إشكال في ترك تقصدها، كنحو المشقة المصاحبة لسفر أهل الأصقاع البعيدة براً أو براً وبحراً، فلو تيسر لبعضهم ركوب الطائرة فليفعل ولا حرج مادام لن يغير ذلك من المأمور به شيئاً.
وأما المشقة الناجمة عن أصل الفعل كالسعي مثلاً، فإن الشرع دل على أن في الركوب للمحتاج إليه مندوحة عن المشي، فساغ هذا ولا يسوغ في نحو هذا أبداً أن يقال ليقتصر على أربعة أشواط نظراً للمشقة! فإن الشرع لم يأت بهذا الفعل على هذا الوجه، فالصيرورة إليه محض إحداث.
وبناء على هذا قد يحتمل اجتهاد لعالم، ولا يحتمل لآخر يقول بنفس قوله لتباين منزعيهما، فمن قال مثلاً إن جدة ميقات لمن كان غربها، لأنها لا تحاذي ميقاتاً وبنى ذلك على أن شرط المحاذى به أن يكون من جهة محاذيه، احتمل قوله وإن خالفه من لم ير اعتبار الجهة في تعريف المحاذاة.
فإذا جاء آخر فقال إن جدة ميقات لأن الدين يسر فينبغي أن يغفل قوله ويهمل فالدين الذي هو يسر ما أنزله الله لا ما جعلته أنت ديناً! "إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ" (المائدة: من الآية1)، لحكمة بالغة قضاها، أما أنت فعبد تطيع.
وقُل مثل ذلك في مسألة توسيع وقت الرمي، فإن في الرمي مشقة عارضة غير مقصودة حاصلة بسبب الزحام دار حولها الجدل.
فمن وسع الوقت لدلالة الأدلة فالفيصل الأدلة يعرض كلامه عليها، ليعلم هل له وجه من النظر والاعتبار، أو هو محض تهويل ليس عليه تعويل، أما من وسعه بحجة أن هذا الدين يسر، دون أن يستند في ترجيح قوله إلى الأدلة الظاهرة، فقد أخطأ وأرشد الناس إلى دين لم يحقق هل هو دين الله أم لا، فإن علم أن ظواهر الأدلة تخالف ما ذهب إليه فقد ضل وأضل باسم التيسير، هو كمن جاء إلى الحرم وقت صلاة العيد فوجد الزحام شديداً فصاح في الناس: إن هذا الدين يسر! صلوا العيد بعد الغروب إذ الزحام أخف. فدلهم على شيء محدث ظن أنه دين وظن أنه يسر.
وكان الأولى به إن خاف على بعضهم في تلك الحال أن يَكُفَّ من خشيَ عليه عوضاً عن تغيير الشرع فلا يكلف الله نفساً إلاّ وسعها، والنية تبلغ ما لم يبلغ العمل، وهذا مطرد في الحج وأمر الشرع كله، وقد قيل:
يا سائرين إلى البيت العتيق لقد | سرتم جسوماً و سرنا نحن أرواحا | |
إنا أقمنا على عذر و قد رحلوا | ومن أقام على عذر كمن راحا |
وقد حددت الدولة نسب الحجاج القادمين من الخارج، ووضعت قوانين لتنظيم نسب حجاج الداخل، وأخرى لتنظيم المناسك كالتوجيه بخروج الحجاج أفواجاً لرمي الجمرات في أوقات متفاوتة.
والتعويل على هذا التنظيم أقرب إلى تخفيف المشقة من تغيير الأحكام لأجلها، خاصة مع أن المشقة غير المحتملة عارضة يمكن تلافيها بطرق ترفع من وعي المسلمين، وتعينهم على إحكام تنظيم أمورهم وحسن إدارة شؤونهم، أما تغيير الأحكام فإقرار للفوضى، ورضوخ لواقعها من أجل الخروج من وطأتها بدون تحقيق المقصود المأمور به، أما تنظيم المسلمين وترتيب أمورهم فدعوة للانضباط والتعاون المشترك، وحسن التنظيم والسياسة، وأهم من هذا أداء للنسك على وجهه المشروع في دون عنت أو مشقة بالغة.
والمطلوب أن نؤمن بأن هذا الدين يسر، وأن نتعامل مع الواقع ونحن موقنين بذلك دون محاولة لتحوير الشرع وتحريفه ليناسب بعض الناس، بل علينا أن نسعى لإصلاح الواقع تحت أنوار الوحي الهادي.
والله الموفق وهو يهدي السبيل.
______________
(1) ينظر الصحيح 1/23 (39).
(2) متفق عليه من حديث أبي هريرة ينظر صحيح البخاري 2/639 (1710) ورواه في غير موضع، ومسلم 3/1526 (1927).