الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله ومن والاه .. أما بعد ..
" فإذا أردتم أيها المسلمون النجاح والفلاح في دينكم ودنياكم ومعاشكم ، فكونوا مؤمنين غير منافقين ، واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا ، وكونوا عباد الله إخوانا ، وأدعوكم جميعاً إلى الإخلاص للدين أولاً ، وإلى التآخي والتناصح والجمع بين القلوب ثانياً ... نحن معشر المسلمين ضعفاء بأنفسنا ، أقوياء بالإسلام .. فاتخذوا من اتحادكم قوّة " .
هذا النص جزء من خطبة الملك عبد العزيز رحمه الله في وفود الحجيج في يوم النحر بمنى عام 1359هـ الموافق 12/1/1941م يؤكِّد فيها أهمية التضامن الإسلامي .
ولمعرفة خلفية هذا الخطاب الحيّ وما سبقه وما لحقه من خطابات مشابهة ، ودعوات متكررة للتضامن الإسلامي انطلاقا من هذه البلاد المباركة - أوجز ذلك بقول أستاذنا أ.د.نبيل بن سعد الشاذلي - رعاه الله - إنَّه بعد : " قيام مصطفى كمال أتاتورك بإلغاء الخلافة الإسلامية التي كانت تركيا مقرّها (1343هـ/ =1924م) اضطرب العالم الإسلامي ، وتصاعدت من بعض أقطاره دعوات تنادي باستمرار الخلافة ، ومبايعة خليفة جديد . وقَصَدت جلالة الملك عبد العزيز رحمه الله وفود كثيرة من بعض البلاد الإسلامية للتباحث معه في هذا الأمر ، وأبدى بعض تلك الوفود أمله في مبايعة جلالة الملك عبد العزيز خليفة للمسلمين ؛ لأنَّه الوحيد – بين سائر ملوك وسلاطين وأمراء وحكّام المسلمين – المؤهّل لذلك ، لتوفر الصفات الشرعية للخليفة فيه ، ولكنّ جلالته اعتذر عن عدم قبول هذه البيعة ؛ انطلاقا من نظرة موضوعية ، أبداها لتلك الوفود.
ووسط هذا الجو الذي شغل المسلمين ، وأثار قلقهم ، دعا جلالة الملك عبد العزيز إلى عقد مؤتمر إسلامي في مكة المكرمة ، للبحث في شؤون المسلمين واقتراح سبل توحيد كلمتهم ، والنظر في مختلف المشكلات الإسلامية ... وبدأ المؤتمر جلساته يوم 20 ذو القعدة 1344هـ ( مارس /آذار 1926م ) " ( السياسة السعودية والتضامن العربي والإسلامي :5-6 ) . وقد وجه الملك عبد العزيز - رحمه الله - كلمة جاءت فيها عبارات إسلامية مدعّمة بنصوص شرعية منها قول الله عز وجل : "وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ " [آل عمران : 103] الآية .
إنَّ من نعمة الله عز وجل على بلادنا ، حيث تنزّلَ الوحي ، وبَعْثَ النبي صلى الله عليه وسلم ، ومحور رحى الأمة في هذا العصر ، أن هيأ الله لها وحدة ، شرعيّة ، إسلامية ، لا شيوعية ولا علمانية ولا ليبرالية .
ولم تقف الرغبة في الوحدة عند حدود الإقليم ، بل كانت طموحة الروح ، مدركة لحجم الرسالة ، مستشعرة عِظم المهمّة ، ممتلئة أملاً بالوحدة الأخوية الإسلامية ، قيادة وشعبا ، ولاة ورعيّة ، سيراً في ظلال (( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد)) وكان هذا من أسس قيام هذه الدولة : المملكة العربية السعودية ، وكان الهم قد نشأ مع نشأة وحدتها .
ولكنّ المتربصين بالأمّة لا يريدون التعايش بينها ولا معها تعايشاً إيجابيا ، لأنَّهم يقرؤون الإسلام قراءات مغلوطة ، ويستسقون من غير ظمأ منابع فكرٍ أجنبي منحرف ، يكتبه حقَدة ما بين أفراد ومؤسسات ، تُنظِّر لصراع الحضارات ! في عصر يسعى عقلاء العالم فيه لسلام أممي ، يتبادل فيه المصالح ، ويحفظ فيه كل ذي حقٍ حقَّه .. ولكنَّ القوّة المادية المنفلتة ، تولِّد الصراع من القهر والظلم بالظلم ذاته !
إنَّ هؤلاء المفكرين من أصحاب المواقف العدائية للأمة الإسلامية ، لا يسرّهم أن يروا الأمة الإسلامية تسير نحو وحدتها رغم الصعوبات ، وترتضي الأخوة الإسلامية رغم كل الإشكالات ، وتنبذ غيرها من الروابط ذات الشعارات المغريات ؛ من هنا أوجدوا الخِطط وأظهروا المكائد ، وأعلنوا المؤامرة في تقارير أجنبية سبق الحديث عن بعضها مرارا .
وحيث لا يجد القارئ أو المشاهد الواعي ، فضلاً عن المتابع المتخصص – عناءً في فهم دوافع الخوض المتكرر ، في مسائل أصولية كليّة تتعلق بالإسلام عقيدة وشريعة .
ووصل الأمر ببعضهم إلى الجرأة حتى على العروبة ! التي لا يتنصّل منها بعد تنصّله من ثوابت دينه إلا من به لوث ظاهر ، أو انتماء خارجي مستتر ..
و لقد بلغوا في المنحدر ، أن تجرَّأ بعضهم على سلبنا - أمّةً ودولةً - حقَّنا وواجبنا في الانتماء لأمتنا الإسلامية ! بل زعم بعضهم أنَّه لا شأن لنا بإخواننا المسلمين ؛ وكيف أنسى تلك السخرية ، التي كأنِّني أسمعها الآن بلسان عربيّ وفكرٍ انهزامي ، وصوتٍ يشبه متثاقلٍ سخريةً ،كآلة تسجيل صوتي تشتكي قلّة الطاقة : يقول فيه : ( أيش إخواننا في فلسطين ! إخواننا في ... ) .. يا لها من عبارة مؤلمة ، ويا له من فكرٍ أجنبيٍ جلّاب للعار!
هذا في الوقت الذي لم تجف أقلام هؤلاء القوم من التأكيد الزائد على حقوق الآخر ! وكأنَّنا وحوشٌ تَنْهَدّ على قطيع من البهْم لا راعي له، فيما نحن الضحية التي ينهشها الآخر ( المتغطرس ) صباح مساء ..
وأنا هنا ، لست بصدد الردّ على هؤلاء بردود شرعية ، فهم لا يريدون مرجعية شرعية ؛ فأنَّى لهم السماع لنصوص الشرع التي يحاولون النيل من قداستها ، وإلا لاكتفيت بتلك الآيات العظيمة التي افتتح بها حفل توقيع الصلح ، وتلاها الشيخ عبد الودود حنيف بصوته الشجي ، ليسمعها كل العالم في بثٍّ مباشر .
ولكنّي أريد أن أُذكِّر الناسي ، وأُنبِّه المتغافل بما جرى هذه الليلة – ليلة الجمعة 21/1/1428 ببكة - بجوار بيت الله الحرام ، حيث يُعلَن الصلح الذي تمّ بعد دعوة خادم الحرمين الشريفين – وفقه الله - لقومنا في قيادتي فتح وحماس ، للاجتماع في رحاب الحرم المكي ، سعياً في الصلحِ ، وحقنِ الدَّم الإسلامي والعربي . إنّ هذا لردّ عمليّ يكتم أنفاس دعاة سايس بيكو الفكرية ، التي تمهد لمشروع الشرق الأوسط الكبير ! ذاك الأمل الأجنبي الذي فشل قبل سن الفطام ، وربما دخل السرداب تأثراً بفكر الحليف الجديد ، فلا عجّل الله له فرجا !
لقد شعرت هذه الليلة بأننا نحن السعوديين لا زلنا محلّ ثقة أمتنا ، بل وقياداتها من شتى المشارب ، وكفى دليلا سرعة الاستجابة القولية التي أتت بعد نداء خادم الحرمين بدقائق على لسان الأستاذ / خالد مشعل ، القائد الفلسطيني ذي الشعبية الإسلامية الواسعة ، ثم تتابعت بعد ذلك لتصل الوفود الفتحاوية والحماسية ، في مدة قياسية إلى بلادنا ، وكأنها كانت تنتظر هذا النداء على أحرّ من جمر ..
استمعت إلى كلامات هؤلاء القادة في المجلس الملكي ، وتأكيدهم لمكانة بلادنا وقيادتنا ، في قيادة الأمة الإسلامية ، ودعائهم الحارّ لخادم الحرمين الشريفين وإخوانه ، الذين وصف أثرهم في الصلح رئيس الوزراء الفلسطيني إسماعيل هنية بالجولات الأميرية أثناء الحوار ..
وإنني إذ أشكر خادم الحرمين الشريفين - نصر الله به الإسلام وأهله – على هذا العمل الجليل الذي يستحق الشكر ، فإنني أنبِّه أولئك المتنادين بنبذ ثوابتنا الإسلامية ، وأخلاقنا العربية الأصيلة ، وواجباتنا تجاه أمتنا شعوبا وقضايا – أنبِّههم إلى أنَّهم يجهلون علينا حين يظنون أنَّ قيامنا بواجبنا تجاه أمتنا تدخل في شؤون الآخرين ! إذ إنَّه في الحقيقة واجب شرعي ، ومبدأ دستوري .. وأُحبّ أن أؤكِّد لهم ذلك بعرض موادّ من النظام الأساسي لبلادنا – حفظ الله إيمانها وأمانها – موادّ يحق لكل عربي ومسلم أن يفخر بها ، لأنَّني أريد أن يتعلّموا شيئاً من معاني الوطنية الصادقة ، إن بقي فيهم شيء من خلاق ، وذلك بعد أن عرضتُ شيئاً من كلام مؤسس المملكة العربية السعودية الحديثة في آماله بوحدة المسلمين ، وشعوره بثقل الأمانة في تحقيق ذلك وفق الممكن دولياً ، مما يُبيِّن الهمَّ الإسلامي لنا ، فهو ليس مجرد شرف ، بل سبب بركة وبقاء .. وهو همّ لن يقطع إن شاء الله تعالى ، ولذا دوّن ونصّ عليه في النظام الأساسيّ للحكم كما أشرت ، وهو ما أردت ذكره هنا بياناً للحقيقة ، وكشفاً لأجنبيي الفكر أصالة أو تبعاً ، فأقول :
جاء في نص ( المادة الأولى ) من النظام الأساسي للحكم : ( المملكة العربية السعودية دولة عربية إسلامية ذات سيادة تامة ، دينها الإسلام ، ودستورها كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ). وهي مادة لا تحتمل التفسيرات الأجنبية لمبادئنا ! فهي تؤكِّد عروبتنا ، كما تؤكِّد إسلامنا ، وهما وصفان يجب أن يكونا متلازمين تلازم الروح والجسد ، إذ لا خير في شعار عروبة من غير إسلام !
وجاء في نص ( المادة الخامسة والأربعون ) من النظام ذاته ، في باب الحقوق والوجبات ، نعم الحقوق والواجبات : ( تحرص الدولة على تحقيق آمال الأمة العربية والإسلامية في التضامن وتوحيد الكلمة .. وعلى تقوية علاقاتها بالدول الصديقة ) ؛ وهي مادة واضحة تحدد علاقتنا بالأنا والآخر بعبارات مستمدة من أصولنا الشرعية .
وأخيراً أختم بتأكيد الملك عبد العزيز على هذه المسيرة ، بقوله رحمه الله : " إنَّ أبنائي سيعكفون بعدي على إكمال رسالتي ، وإذا منحهم الله العون الذي منحني ، فإنَّهم سيرسمون الطريق لأكثر من مائة مليون مسلم " (دور المملكة العربية السعودية في خدمة الإسلام ، د. عبد الحكيم عبد السلام المدني :438) . وأنصح من يتبنى فكرة عزلنا عن العالم ، أن يقرأ هذا الكتاب ، ليعلم أنه في المملكة العربية السعودية ، بلاد الحرمين ، وليس في قيانا أو قرين لاند .
هذا ما جال في الخاطر حول ما جرى من صلحٍ سارٍّ هذه الليلة ، بين قومنا في فلسطين ، والله تعالى أعلم ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله .