إن من يستقرئ تاريخ الأمة الإسلامية يجد أن أسوأ مراحلها يوم أن سقطت كثير من بلاد المسلمين في حبائل الكفار والمنافقين فاتخذوهم أولياء من دون المؤمنين وقربوهم وكشفوا لهم إسرارهم واتخذوهم مستشارين وخبراء ومعاونين فغدروا ومكروا بهم وأضلوهم سواء السبيل, فالكافر لا يقف مكره عند حد ولا يرضى من المسلم إلا بالكفر والإلحاد "وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ" (البقرة: من الآية120)، "وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ" (البقرة: من الآية109).
والمتأمل في أحوال العالم الإسلامي في هذا القرن يجد العجب العجاب. فقد ضرب الكفر بأطنابه في كثير من بلاد المسلمين فتحكم في سياساتهم واقتصادياتهم وشؤونهم العسكرية بل والثقافية والاجتماعية والإعلامية حتى أصبح كثير منها _ وللأسف _ مراكز تنفيذية لأوامر الغرب الكافر ولنظمه وأحكامه وأصبح الغرب ينظر إلى العالم الإسلامي على أنه أمة ذليلة تابعة له منقادة فهم أصحاب الحضارة والرقي ومحور الخير والسلام ومنهم يجب أن يستضيء العالم الإسلامي ويستمد الحضارة والثقافة ليخرج من نور الإسلام وصفاء العقيدة إلى ظلمات الكفر والفسوق والانحطاط.
لقد حل بالعالم الإسلامي هزيمة نفسية أصابت الحكومات قبل الشعوب فلم تعد حكوماته قادرة على حماية شعوبها سواء في دينهم أو دنياهم بل سقط كثير منها فريسة بين أنياب العدو الكافر وأقدام المنافق الماكر فحل بها الخذلان ولم تعد قادرة على حماية شعوبها والحفاظ على ثوابت الدين ومصالح الدنيا. ولم يعد الأمر سرا فقد صرح بذلك رئيس وزراء ماليزيا السابق "مهايتر محمد" في اجتماع منظمة المؤتمر الإسلامي فأعلن أن العالم الإسلامي أصبح أمة ضعيفة لا تملك قرارها وأن الغرب الكافر قد استذل العالم الإسلامي وتحكم في شعوبه وخيراته. ويمكن تلخيص هذه الحالة المأساوية فيا يلي:
تحكم الأمم الكافرة بالعالم الإسلامي حتى في شؤونه الداخلية, فالمناهج يطالبون بتغييرها والسياحة يطالبون بفتحها ضمن المفهوم الغربي ومنابع الخير والإصلاح تحارب وتجفف.
ظهور منكرات الشرك والكفر بالله وغير ذلك من المنكرات الكبرى والطوام المهلكة من الأحزاب الكافرة التي تتنكر للدين وأهله, وتحارب مبادئ الإسلام علانية وتوالي الكفرين والمفسدين.
الانحراف الاقتصادي المذهل سواء تمثل ذلك في بنوك الربا أو في التبعية الاقتصادية المفرطة للغرب فأصبحت منظمة التجارة الدولية هي المشرع لاقتصاد العالم الإسلامي.
بناء شبكة إعلامية هائلة تغذي في عقول الناشئة محبة الغرب الكافر وقيمه الزائفة وأخلاقه الهابطة لتتخذ الأجيال القادمة الغرب قبلة لها تستمد منه حياتها وقيمها فتذوب شخصيتها وتذبل عقيدتها فهو المنقذ لحياة الشعوب وهو الأمل الوحيد للتقدم والرقي.
وأد المفاهيم الشرعية ومحاربتها فلا ولاء ولا براء ولا جهاد فهذا كله إرهاب غير مقبول في ظل الهيمنة الغربية.
محاصرة الحركات الإصلاحية وقمع رايات الجهاد أنى وجدت.
استباحة دول العالم الإسلامي فمن لم تنفع فيه الدبلوماسية السياسية يقمع بالتدخل العسكري باسم مجلس الأمن أو هيئة الأمم المتحدة فتدمر بلاد المسلمين وتهدم على رؤوس شعوبها دون رحمة أو هوادة.
إن هذه الصورة المحزنة لتستدعي نهوض العلماء والدعاة والمصلحين للقيام بواجبهم الشرعي. فالعلماء هم ورثة الأنبياء وهم المنارات التي يقتدي بها الناس لاسيما في أيام الفتن والمحن. ومتى صلح العلماء واجتمع أمرهم صلح أمر العامة واجتمع شملهم ومتى فتن العالم أو زلت به القدم أو انشغل بالدنيا وحطامها ضاعت بضياعه الأمم. فالعلماء هم صمام أمان للأمة متى قاموا بدورهم في الإصلاح. ويمكن تحديد دور العلماء في الإصلاح في أربعة محاور:
المحور الأول: مناصحة العلماء بعضهم بعضا:
إن من أسباب اجتماع الأمة وصلاح أمرها هو اجتماع علمائها على الخير وتعاونهم على البر والتقوى وإحسان بعضهم إلى بعض وتشاورهم فيما فيه مصلحة الأمة، ويمكن تلخيص هذا الدور في النقاط الآتية:
1- ملازمة العلماء بعضهم لبعض وتكوين رابطة قوية تجمعهم على الحق والهدى. فالعلماء متى كانوا يدا واحدة متعاونين متناصحين يستشير بعضهم بعضا وينصح بعضهم بعضا وفقوا لصلاح الأمة فيتشاورون فيما يجد من قضايا للأمة، ويجتهدون في الخروج برأي متقارب بعيدا عن الخلافات والنزاعات المفرقة للأمة والمهلكة لها. ومتى كانوا كذلك فإن الأمة تصدر عن رأيهم وتتوحد راياتها وتجتمع كلمتها. وهكذا كان علماء السلف ينصح بعضهم بعضا ويثبت بعضهم بعضا ويذكر كل منهم الآخر بتقوى الله ولا سيما في أيام الفتن حيث تشتد العواصف وفيها يقع الهلاك لكثير من أبناء الأمة ما لم تجتمع علماؤها، وتخرج برأي متقارب يتفق مع الكتاب والسنة وفهم السلف لصالح رحمهم الله.
كان ابن القاسم رحمه الله يقول لأصحابه: اتقوا الله فإن قليل هذا العلم مع تقوى الله كثير, وكثيره من غير تقوى الله قليل. وأن من أخطر ما أصاب الأمة اليوم تفرق علمائها شذر مذر واختلاف كثير منهم وتنازعهم مما جعل الأمة تتمزق وتختلف وتتجاذبها الأهواء لاسيما ونحن نعيش قي عصر الفضائيات حيث تنقل الآراء الفردية والاجتهادات المستعجلة في قضايا الأمة فتصدر الأمة مصادر شتى فتتعدد الرايات وتختلف الغايات فيحدث التفرق والاختلاف وهذا ما يريده أعداء الأمة لها. ولذلك فإن من أهم واجبات علماء الأمة هو جمع كلمة الأمة على الحق ما أمكن ولا يتم ذلك إلا باجتماع العلماء الربانيين أو أغلبهم تحت رابطة واحدة أو روابط متعاونة لا متنافرة يتشاورون من خلالها ويتبادلون الآراء ويلين بعضهم لبعض خشية لله وطبا لاجتماع الأمة ونجاتها بعيدا عن الأهواء ومطالب الدنيا الفانية.
2- مناصحة بعضهم بعضا بعيدا عن المداهنة والملاينة في الحق فإن تعلق العالم بالدنيا وركونه إليها ومداهنته لأهل الرياسة من أهم أسباب زلته وزلة العالم هلاك للأمة.
3- اجتماعهم في القيام بواجب الإصلاح. فالاجتماع قوة وعزيمة والتفرق ضعف وهزيمة. فالواجب على العلماء تقوية بعضهم بعضا ومؤازرة بعضهم بعضا. ولا شك أن اجتماع اثنين من العلماء أقوى من واحد والثلاثة أقوى من الاثنين وهكذا ومتى رأت الأمة اجتماع وقوة علمائها ازدادت قوة وتمسكا بالحق (وقد حرص الأعداء على تفريق علماء الأمة وتخذيل بعضهم ببعض والإيقاع بينهم وتفريق كلمتهم ليصفو الجو للعدو فيغرد كيفما شاء).
4- استغناؤهم عن غيرهم في معايشهم. أن استغناء العالم عن غيره في معيشته من أقوى ما يدفعه للإصلاح فالنفس مهما قويت فإنها تستحي ممن أحسن إليها، وقد يحملها ذلك على السكوت عن باطل المحسن والإحجام عن أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر بل ربما وصل به الضعف إلى إقرار باطلهم ولدفاع عنه وتبريره.
المحور الثاني: مناصحة العلماء للحكام:
الحكام بيدهم السلطة ولهم القدرة على إصلاح المجتمع, وقد قيل أن صلاح الأمة بصلاح حكامها وصلاح حكامها بصلاح علمائها ومتى حرص العلماء على صلاح الحكام ومناصحتهم ومحاسبتهم وتخويفهم بالله سبحانه كان ذلك سببا لصلاحهم ومن ثم صلاح الأمة. فالله سبحانه يزع بالسلطان مالا يزع بالقرآن. ومهما كان جبروت وظلم الحاكم فإنه يتردد كثيرا في ظلم الناس إذا وجد علماء الأمة صادقين مخلصين مجتمعين على الحق ناصحين له محذرين له من غضب الله ومقته, فالعلماء الربانيون هم أهل الحل والعقد وهم أمل الأمة والركن المتين الذي تتحصن به الأمة في محنتها.
و يمكن الأشارة إلى دور العلماء مع الحكام على سبيل المثال في الأمرين التاليين:
1- مناصحتهم في السر والعلن فإذا كان المنكر قد ظهر واشتهر أمره فإن الأصلح للأمة مناصحتهم علنا حتى يفهم العامة أن هذا منكر لا يجوز إقراره أو السكوت عليه وليكون ذلك أردع للحاكم وأبعد له من إقامة هذا المنكر أو السماح له أو العودة إليه. أما ما كان من منكر خفي فيكفي في ذلك المناصحة الخاصة للحاكم وتخويفه بالله وتحذيره من عقوبات الذنوب.
2- المشاركة في اتخاذ القرارات المصيرية للأمة. فينبغي للعلماء أن يكون لهم حضور مع الحكام في اتخاذ القرارات المصيرية والتي يكون أثرها على الأمة عامة. فالأصل أنهم هم أهل الحل والعقد فهم أولى الناس بأن يستشاروا ويؤخذ برأيهم ولا يليق بهم أن يكونوا مغيبين عن اتخاذ القرارات ويصبحوا شماعة متى أراد الحاكم علق بهم المصائب ومتى استغنى عنهم أهملهم ولم يهتم بشأنهم ولذلك ينبغي على العلماء أن يبدوا رأيهم للحاكم ويبينوا أوجه الحق في النوازل التي تقع بالأمة وذلك بعد دراسة النازلة واستقصاء الآراء المناسبة من مختلف التخصصات وذلك لتبرأ ذمتهم عند الله سبحانه.
المحور الثالث: دور العلماء مع عامة الأمة:
العلماء هم صمام الأمان لعامة الأمة فهم يعتبرون خط الدفاع الأول في الحفاظ على سلامة المجتمع إذ هم أقدر الناس على مناصحة الحكام والأخذ على أيديهم عند الانحراف عن الحق. وهم كذلك أولى الناس بالقبول لدى العامة. فالعامة تنظر لعلمائها وتتأسى بهم وتسمع لهم ولذلك وجب على العلماء القيام بحق العامة في الأمور الآتية:
مداخلة العامة والاختلاط بهم ومناصحتهم. يقول ابن القيم رحمه الله: "والعالم الذي قد عرف السنة والحلال والحرام وطرق الخير والشر ففي مخالطته الناس وتعليمهم ونصحهم في دينهم أفضل من اعتزاله وتفريغ وقته للصلاة وقراءة القرآن".
التواضع لهم والترفق بهم والسؤال عن أحوالهم. فهذا الأوزاعي رحمه الله يسأل عن أحوال الناس ويطالب الحاكم بالإحسان إليهم فقد بعث للخليفة في زمنه برسالة يشفع فيها في زيادة أرزاق أهل الساحل ويذكر له حالهم وحاجتهم.
إظهار القدوة الصالحة لهم. وهذا أمر في غاية الأهمية لتحقيق الدور المطلوب للإصلاح, فإن العامة ينظرون إلى أهل العلم ويقتدون بهم ويأخذون دينهم عنهم فإذا كان العالم قدوة صالحة يخشى الله ويتورع عن كل ما فيه منقصة له في دينه ودنياه صلح بصلاحه العامة وأما إذا رتع وأطلق لنفسه العنان فإن الناس يقتدون به فيضلون بضلاله ويستدلون بحاله فيكون عليه من الوزر مثل أوزارهم. يقول الإمام الأوزاعي رحمه الله: "كنا قبل اليوم نضحك ونلعب, أما إذ صرنا أئمة يقتدى بنا فلا نرى أن يسعنا ذلك وينبغي أن نتحفظ. ولما دعي سعيد بن المسيب رحمه الله إلى بيعة الوليد وسليمان ابني عبد الملك بعد أبيهما قال لا أبايع اثنين ما اختلف الليل والنهار فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين فقيل له ادخل واخرج من الباب الآخر, قال والله لا يقتدي بي أحد من الناس فجلد مائة جلدة رحمه الله. ويقول هرم بن حيان: "إياكم والعالم الفاسق" ويفسر ذلك بقوله: هو أن يكون إمام يتكلم بالعلم ويعمل بالفسق ويشبه على الناس فيضلوا".
بيان الحق للعامة وعدم التلبيس عليهم. يقول الإمام أحمد رحمه الله: "إذا أجاب العالم تقية والجاهل يجهل فمتى يتبين الحق" ويقول شجاع بن الوليد: "كنت أحج مع أبي سفيان فما يكاد لسانه يفتر من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ذاهبا وراجعا". ولهذا كان علماء السلف الربانيون رحمهم الله يبينون الحق للناس في دروسهم ومواعظهم وفي كتبهم ويدعونهم للقيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويحذرونهم المعاصي وأهلها. ولا شك أن بيان الحق للناس من أوجب واجبات أهل العلم كما قال تعالى: "وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ" (آل عمران: من الآية187). قال ابن تيمية رحمه الله: "وأهل السنة والعلم والإيمان يعلمون الحق, ويرحمون الخلق وينبعون الرسول فلا يبتدعون". ويصف ابن الجوزي رحمه الله الأنبياء عليهم السلام بقوله: "أما علمت أنهم آثروا تعليم الخلق على خلوات التعبد لعلمهم أن ذلك آثر عند حبيبهم".
المحور الرابع: دور العلماء في محاربة البدع وأهل الأهواء:
كان السلف الصالح رضوان الله عليهم شديدي الإنكار على أهل البدع لما في بدعهم من ضرر على المسلمين وتحريف للحق فالبدعة أشد من المعصية. وهذه نماذج من أقوال علماء السلف في التحذير من البدعة وأهلها:
يقول أبو قلابة: "لا تجالسوا أهل الأهواء, فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم ويلبسوا عليكم بعض ما تعرفون".
و يقول سفيان: "من أصغى إلى صاحب بدعة وهو يعلم خرج من عصمة الله ووكل إلى نفسه".
وسئل سفيان الثوري رحمه الله عمن يشتم أبا بكر رضي الله عنه, فقال: كافر بالله العظيم. قال: نصلي عليه؟ قال لا ولا كرامة. ثم سئل: ما نصنع به؟ قال لا تمسوه بأيديكم, ارفعوه بالخشب حتى تواروه بالتراب. ولهذا جاد أولئك العلماء بأنفسهم يوم رفعت راية أهل البدع والأهواء, فهذا الإمام أحمد رحمه الله يقول عنه ابن المديني: "أيد الله هذا الدين برجلين لا ثالث لهما: أبي بكر الصديق رضي الله عنه يوم الردة وأحمد بن حنبل يوم المحنة".
إن ما يعيشه العالم الإسلامي اليوم من محن وفتن ليس لها كاشف بعد الله إلا وقفة أهل العلم وثباتهم وقيامهم بالواجب في زمن قل فيه الناصر واشتد فيه ساعد الحاقد. وهل أشد مما نحن فيه فالأمة أصبحت بين مخلبي سباع الغرب وثعالب الصفويين في الشرق. فأهل السنة في العراق لا بواكي لهم والمسلمون في الصومال منسيون وأهل فلسطين محاصرون وأهل الشيشان محصورون فهل أصبحنا أضعف الطوائف وأقلها نصرة لأهلهم وذويهم, فاليهود لهم دول تحميهم والرافضة كذلك فدولتها الصفوية تخطط منذ عشرين سنة لخلخلة العالم الإسلامي وهاهي اليوم تقطف بعض ثمار هذا التخطيط في غفلة ونسيان من دول أهل السنة.
بل والوثنيون والبوذيون يدافعون عن باطلهم, وأما أهل السنة فلا دول تحميهم ولا علماء يدافعون عنهم إلا ما ندر من جهود فردية هنا وهناك فهل يستيقظ علماء الإسلام ويعيدوا للأمة مجدها وعزها ومكانتها لتبقى مهابة الجانب منيعة الحصون لا يفكر في الاقتراب من حصونها العابثون والمفسدون.
هذا ما نأمله ويأمله المصلحون والغيورون على أمتهم ودينهم وعقيدتهم. والله خيرٌ حافظاً وهو أرحم الراحمين.