في القسم الأول من المادة، تحدثنا عن الإشكالية التي تواجه الفكر الحركي الإسلامي من حيث المقاربة بين الدعوة والسياسة، مستعرضين أهم المفاهيم في طرح المادة، كمفهوم الدين باعتباره خطاب دعوي لجميع الناس، والتأكيد على أن السياسة هي أحد فروع الدين، كما ناقشنا قضية الدعوة كمفهوم علمي في المجتمع، من حيث قدرتها على إحداث التغيير في التركيبة الثقافية والقيمية للمجتمع.
ونستكمل الحديث ابتداءً من موضوع الدعوة والتفريق بينها وبين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونقول:
ما يميز الدعوة عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هو أن الدعوة تستهدف نقل قيم وتصورات جديدة عن النظام القيمي السائد، فهي عملية إقناع بقيم جديدة، أما الأمر بالمعروف فهي عملية حفاظية تستهدف تحصين القيم التي تبناها المجتمع، وصارت في حكم المعروف المقبول والمدعوم اجتماعيا. إنها القيم التي بشرت بها الدعوة حين صارت تتمتع بالشرعية الاجتماعية. وكونها معروفا أي اكتسبت قبولا من طرف القاعدة الاجتماعية حتى صارت جزءا من النظام القيمي والثقافي السائد، والأمر هو غير الدعوة، لأن فيه قدرا من القوة بينما الدعوة مجرد خطاب الالتماس يتوخى الوصول إلى قلوب الناس وعقولهم، والفرق بين الأمرين واضح يمكن تفسيره بالشرعية الاجتماعية، فحينما تتمتع قيمة ما بشرعية اجتماعية وترزق القبول وتصبح جزءا من النظام الثقافي السائد، حينها تكون وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وظيفة حفاظية تستهدف تحصين مكتسبات الدعوة التي توسلت عناصر الإقناع والالتماس في التبشير بالقيم الجديدة.
ونفس الأمر يمكن إبصاره في الشق الثاني المتعلق بالنهي عن المنكر، فالقيمة المتعارضة مع جوهر النظام الثقافي السائد مما يستنكره الناس يدعو الشرع إلى النهي عنها ما دامت العملية تلك ستكون مدعومة بقاعدة اجتماعية كبيرة. فالمعروف والمنكر يضمران قضية في بالغ الأهمية هي الشرعية الاجتماعية، أو القاعدة الاجتماعية الداعمة. فإذا تمكنت الدعوة مثلا في بلاد من البلدان أن تبشر بقيمة العفة وتبين أهميتها ودورها الاجتماعي والثقافي والتربوي، واقتنع الناس بها وصارت معروفا، وصار كل ممارس لعكسها في منظور الناس قبل منظور الشرع منكرا، حينها تتحرك عملية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لتحصين مكتسبات الدعوة، وما لم تصبح الفكرة الإسلامية أو القيم الإسلامية مدعومة بشرعية اجتماعية، فعملية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تصبح غير ذات جدوى لأن من شرط نجاح هذه العملية هو القاعدة الاجتماعية الداعمة.
ولعل من أخطاء الدعاة وأنصار الحركة الإسلامية الخلط بين المفهومين في واقع العمل، وهو ما يجعلها بعيدة عن تلمس المنهجية الإسلامية في تغيير النظام القيمي والثقافي للمجتمعات. تلك المنهجية التي تعتمد عنصرين متكاملين: الدعوة باعتبارها تبشيرا وإقناعا، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باعتباره تحصينا لمكتسبات الدعوة، والفاصل بين العنصرين أو بين المرحلتين هو القاعدة الشعبية أو الشرعية الاجتماعية. فالدعوة بهذا الاعتبار تحتاج إلى من يحصن قيمها وتصوراتها، وليس هناك غير المجتمع وقاعدته العريضة للقيام بهذا الدور، وما لم نصل إلى هذا المستوى من الوعي فعملية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يمكن أن تقود إلى نتائج عكسية، لأنها ستشتغل حينها خارج فضائها وخارج نسقها، وستكون لا شك فاقدة لأي معنى وغير مؤيدة بأي تحصين ودعم شعبي.
قيم الدين بين الحفاظ الوجودي والحفاظ العدمي:
كان الشاطبي في غاية التحقيق حين فصل بين الحفاظ الوجودي الذي يعني إيجاد الدين وإيجاد قيمه وتبشير الناس وإقناعهم بها، وبين الحفاظ العدمي الذي يعني منع الضرر الواقع أو المتوقع بالقيم التي تم تأكيدها في المجتمع. الحفاظ الوجودي هو الدعوة التي تسعي إلى نقل القيم الجديدة إلى المجتمع وإقناعه بها والسعي إلى جعلها أساسا ضمن بنائهم الثقافي والقيمي، والحفاظ العدمي هو تحصين هذه القيم ومنع أي ضرر يهددها حالا أو مآلا، الحفاظ العدمي إذن، يستحضر يقظة كاملة، ويشترط قبل ذلك قاعدة اجتماعية داعمة، مستجيبة للتحديات، مقتنعة بالخطر المهدد لأساسيات نظامها الثقافي والقيمي. الحفاظ العدمي هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يكون هدفه هو تحصين مكتسبات الدعوة والحفاظ على القيم التي جعلها المجتمع محور وأساس نظامه الثقافي والقيمي.
في مفهوم السياسة: السياسة هي تدبير شؤون الأمة على الوجه الذي يتحقق به الصلاح. السياسة تتوجه إلى المجموع فتحقق مقصوده ومطلوبه، وتيسر له العيش وتضمن له مصالحه، وتوفر له الأمن في الغذاء والحياة. السياسة بهذا المعنى، خطط واختيارات تغير شروط الواقع السائد، وتروم إنتاج واقع جديد، يحقق أعلى قدر من المصلحة للمجموع.
منذ البدء، نلاحظ أن السياسة مرتبطة بشكل أكبر بمصالح الناس المباشرة. وكل اختيار يستهين بهذه المصالح أو يعطلها أو ينقص من قدرها فلا تكون محل قبول من طرف المجموع. السياسة بهذا الاعتبار لا بد لها من شرعية اجتماعية مثلها مثل الدعوة. فأي سياسة لا تتمتع بقدر من الشرعية لا يمكن أن تكون محل قبول، والقاعدة في ذلك كله هو الشرعية الشعبية التي تكسب السياسة مصداقيتها أو تسحبها عنها.
من داخل المنطق الداخلي للسياسة، لا شيء غير تحقيق مصالح الناس يمكن استساغته ضمن موضوعها ووسائل اشتغالها، لكن قطعا السياسة لا يمكن أن تكون مفصولة عن قاعدة مرجعية ورؤية فكرية ناظمة. ومن ثمة فاستعانة السياسة بالثقافة لبناء مشروع مجتمعي أمر يعتبر في غاية الأهمية. ذلك أن تأهيل المجتمع وترشيده يعد من الأساسيات التي تتوازى مع تدبير الشأن العام بما هو سعي حثيث لتحقيق مصالح الناس. في هذه النقطة بالذات تتقاطع السياسة مع الدعوة. فالدعوة توفر الشروط الأساسية لبناء المشروع المجتمعي الذي يتفاعل مع المنهجية المعتمدة في تدبير الشأن العام. والسياسة تستثمر حصيلة عمل الدعوة.
ففي ظل ظروف قلة ذات اليد لا يمكن لسياسة تتنزل على وسط منهك بثقافة الاستهلاك أن تنجح إلا بإعادة النظر في المنظومة الثقافية والتربوية، وفي هذه القضية بالذات تتقاطع الدعوة مع السياسة، إذ تكون السياسة في أمس الحاجة إلى خدمات الدعوة ومكتسباتها على الأرض، فتعينها الدعوة في إقناع الشعب بالحد الأدنى من المصالح ريثما تتوفر شروط جديدة تسمح بسقف أعلى من المصالح المحققة. لا يمكن لأي سياسة أن تكون ناجحة ما لم تعط للمشروع المجتمعي أهمية قصوى.
فالمجتمع هو الذي ينجح هذه السياسة وهو الذي يمكن لها ويمنحها الشرعية، ومن ثمة، فلا مناص من أن يكون ضمن أولويات السياسة المراهنة على مجتمع مؤطر برؤية جديدة تقنع الشعب تربويا وقيمياً وثقافيا بالممكن فعله من زاوية مصالح الناس المباشرة، والواجب التزامه من زاوية المصلحة الوطنية ضمن الشروط الوقتية التي تمارس فيها السياسة.
نحو تمايز وظيفي وتكامل استراتيجي:
الدين يسعى لتحقيق المصالح بمجموعها دينية ودنيوية، والسياسة قصدها تحقيق مطلوب الناس في عالم دنياهم بما ييسر لهم شروط التعبد والثبات على الدين. والتقاطع بين السياسة والدعوة كما رأينا يكون في المشروع المجتمعي. فالدعوة تسعى لبناء مجتمع قاعدته هي القيم والتصورات والنماذج الجديدة المنبثقة من الدين، والسياسة ضمن شروط الواقع الممكنة لا يمكن أن تحقق مطلوب الناس وتطلعاتهم، فهي تحتاج اضطرارا لمجتمع مؤطر برؤية جديدة تؤهله للتجاوب مع منهجيتها في التدبير. السياسة تحتاج إلى الثقافة وإلى القيم لجذب المجموع حتى يكون ملتفا حول الاختيارات السياسة التي انتهجتها. فهل يعني هذا التقاطع أن تقوم السياسة بنفس عمل الدعوة فتصير الدعوة هي السياسة وتصير السياسة هي الدعوة؟ أم أن السياسة ستستعير مفاهيم ومفردات الدعوة توظيفا وتأويلا كلما دعت إلى ذلك الضرورة السياسية؟
التقاطع هنا لا يعني التطابق وإنما يعني التكامل وتمايز الأدوار، فدور السياسة أن تحصن مكتسبات الدعوة، وأن تقنن هذه المكتسبات في شكل قوانين واختيارات واضحة ما دامت قد تمتعت بشرعية اجتماعية. وكل قيمة جديدة يتردد المجتمع في قبولها أو لم تمتلك بعد شرعية القبول فمن خطأ السياسة الخوض فيها وتقنينها لما يمكن أن ينشأ عن ذلك من سحب للشرعية لا عن السياسة فحسب ولكن عن القيمة نفسها. فلا يمكن لطرف إسلامي أن يصدر قرارا بمنع الاختلاط في الشواطئ ابتداء حتى تكون الدعوة قد قطعت أشواطا في إقناع الناس بهذه القيمة الجديدة، وحتى تصير هذه القيمة مقبولة من لدن مجموع الشعب أو غالبيته.
فدور السياسة أن تبصر تطورات القيم ودرجة إقبال الناس عليها. وكلما تمكنت قيمة من القيم بفضل رصيد الدعوة من التمتع بشرعية اجتماعية وشعبية كان لزاما على السياسة أن تحصنها بسن سياسات وقوانين واضحة يلتف حولها الشعب، ولا يكون للأقلية المعارضة لها أي دور سياسي أو إعلامي معطل، وفي المقابل فكل قيمة لم تستطع الدعوة أن تمكن لها فالسياسة أعجز عن التمكين لها، فمن الخطأ أن تقوم السياسة بما يجب على الدعوة أن تقوم به.
الدعوة بمنطق السياسة: ليس هناك أخطر على قيم الدين ورصيده من أن تتحول الدعوة بوسائلها وأدوات اشتغالها إلى خدمة الأهداف السياسية. وليس هناك أخطر من أن تمارس الدعوة بقصد الوصول إلى الحكم. إنه من الطبيعي أن يكون للدعوة مآلا قد يقود إلى الحكم، لكن من الخطورة أن يكون تدبير الدعوة يتأطر بهذا المنطق السياسي. حينها تفقد القيم حقيقتها، وتصبح الدعوة آلية من آليات صناعة الرموز الحركية التي تدخل عالم السياسة. وتصبح منتجات الدعوة وسيلة للتوظيف السياسي والانتخابي.
الفصل بين المنطق الدعوي والمنطق السياسي ضروري من جهة الدعوة، لكنه ليس ضروريا من جهة السياسة. فالدعوة ينبغي أن تشتغل بمنطق ديني مبدئي، لكن السياسة يمكن أن توظف كل مكتسبات الدعوة وفق المنظور الذي أشرنا إليه سابقا. فالسياسة من هذه الزاوية تستثمر منتجات الدعوة، وتقنن ما يمكن تقنينه، وتحافظ على مكتسبات الدعوة، وتوظف المجموع الشعبي الملتف حول القيم لإقناع مجمل الشعب بسقف المصالح الممكن تحقيقها ضمن الشروط التي تشتغل فيها السياسة. وما لا يمكن قبوله في هذا الإطار هو أن تشتغل الدعوة بوسائل السياسة ومنطقها، وأيضا أن تتجاوز السياسة شرط الشرعية فتبادر إلى اتخاذ قرارات واختيارات منسجمة مع رؤيتها الفكرية دون النظر إلى شروط الواقع.
بهذه الرؤية يمكن أن نتصور إسلاميين على رأس الحكم لا ينزلون كل ما يعتقدونه من اختيارات على واقع الناس، ذلك أن شرك التنزيل هو الشرعية الشعبية، وهو أمر يتعذر تحقيقه ما لم تكن الدعوة قد قطعت أشواطا في هذا الاتجاه. وأي عمل سياسي مخذول من طرف رجال الدعوة لا يمكن أن يكون مآله النجاح، إلا أن ينفصل عن رؤيته تماما وينخرط في تبني المفهوم السائد للعمل السياسي السائد الذي لن تنجح الحركة الإسلامية قطعا في أن تضيف جديدا من خلاله.
السياسة قد تمارس الدعوة لكن بمنطق سياسي:
ما ذكرنا سالفا لا يعني أن السياسة ستنتظر منجزات الدعوة وستبني عملها اعتمادا عليها. السياسة قد تشتغل بدون نظر إلى كسب الدعوة، فكلما استطاعت السياسة أن تحقق مقصود الناس ومطلوبهم ضمن الشروط القائمة فهي حينها تؤدي وظيفتها الأصلية التي أنيطت بها. لكن يمكن للسياسة أيضا أن توفر مناخا إيجابيا وهامشا واسعا للدعوة لكي تشتغل. وهي إذ تقوم بذلك لا تكون ممارسة للدعوة بقدر ما تكون راعية للحريات وحقوق الإنسان داعمة لمؤسسات المجتمع المدني بمجموعها على قدم السواء. السياسة هنا تتدخل، لتمكن للدعوة وسائل الاشتغال. إنها تمنحها الدعم اللوجستي حتى تستطيع القيام بدورها بشكل فعال. إنها لغة التكامل التي تكون فيها السياسة دعوية لكن بطريقتها الخاصة.