أنت هنا

الإحياء السني (4)
25 ربيع الثاني 1428

إن أعظم سبب لإصلاح الخلق هو إصلاح الاعتقاد؛ لأن الاعتقاد السليم يطهر القلب من رجس الوثنية، كما يطهره من الأوهام والضلالات الفاسدة الناشئة عن الشرك، وقد حارب الإسلام الوثنية في شتى مظاهرها من عبادة الآباء أو الأشجار أو الأموات. وقد كان العرب قبل الإسلام يقدسون الكواكب فأصبحت قواهم العقلية والنفسية مقيدة بمعتقداتهم الوثنية.

التوحيد يزكي النفس البشرية وتصلح به الحياة الاجتماعية ويتقبله أصحاب الفطر السليمة وأصحاب الرقي الفكري، وإذا قيس التوحيد بالأمور الأخرى من الأوامر والنواهي فهو كالروح للجسد، وأما الشرك فهو منتهى ما تهبط إليه عقول البشر وأفكارهم، ومنه تتولد جميع الرذائل وشخصية المشرك شخصية ممزقة مشتتة بسبب خضوعه لغير الله تعالى، والنزوع إلى المحسوس أحد الأسباب التي توقع الناس في الشرك وهذه مقولتهم " أجعل الآلهة إلهًا واحدًا إن هذا لشيء عجاب" ولذلك كثرت التصاوير والمجسمات عند أصحاب الديانات المحرفة وعند الفرق المنحرفة عن الإسلام وقد منع منهج أهل السنة تردي العقيدة إلى أي صورة من صور الوثنية لأن العقيدة تواجه عادة خطر التردي إلى عبادة الأوثان خاصة إذا جاءت الضربات من أناس يظهرون أنهم من أهل الإسلام.

ولخطورة أمر التوحيد وآثاره على الفرد والمجتمع فإن المسلمين لو رأوا رجلاً فيه استقامة وعفة فإنهم لا يلتفتون إلى هذه الفضائل إذا كانت عقيدته فاسدة.

المسؤولية الفردية:
ليس في الإسلام كهانة ولا سدنة ولا أحبار يعتبرون أنفسهم وسائط بين الخالق والمخلوق، ولكن هناك عالم ومتعلم والمسلم السني يعيش في عالم خالٍ من (الأكليروس) والتراتبية الدينية الموجودة عند أصحاب الديانات المحرفة ومقلدوهم من الفرق المنحرفة في الإسلام، الذين اخترعوا ألقابًا ومسميات ما أنزل الله بها من سلطان، هذه الفرق التي تعد الأئمة وسائط بين الله وخلقه ولا يدخل الجنة إلا من عرفهم، ولا يقبل الدعاء إلا بأسمائهم وأنه يستغاث بهم عند الشدائد، وتنشأ أجيالهم في هذا المحضن الوثني وينسون ذكر الله؛ لأن ذكر الأئمة على لسانهم بشكل دائم وليس هذا من الإسلام من شيء.

قال تعالى: "وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى" (النجم:39، 40)، ويعيش هؤلاء بالأماني الكاذبة حيث يظنون أنه بمجرد الانتماء إلى إمام أو مجرد حب آل البيت (رغم الاختلاف حول: من هم آل البيت؟ ورغم البحث: هل يحبون آل البيت فعلاً) بهذه الظنون يدخل الإنسان الجنة. قال تعالى رادًا عليهم وعلى أمثالهم: "وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً" (سـبأ: من الآية37)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا فاطمة بنت محمد، سليني أموالي، لا أغني عنكِ من اللهِ شيئًا). وقال تعالى واصفًا حال اليهود ونفسيتهم حتى لا تقع الأمة الإسلامية بمثل ما وقعوا، "وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً" (البقرة: من الآية80)، "وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ " (البقرة: من الآية111).

عند الشيعة: الإمام شخص غير عادي في تكوينه ومنزلته والأئمة كانوا أنوارًا، ولهم ولاية تكوينية تخضع لها جميع ذرات الكون، وهذا يعني رفعهم فوق منزلة الأنبياء بل إعطاءهم خصائص الربوبية، فهل هذه عقيدة دافعة للارتقاء والتقدم وتنمية طاقات الإنسان وقدراته، أم هي من النوع الذي ينحط بإنسانيته وتصيبه بالشلل، وهل نستطيع التقدم في أمة تطيع طاعة عمياء حيث تغلق العقول وتسلم المفاتيح إلى الإمام المعصوم؟! ألا يشبه هذا اعتقاد الفرس القدماء في (هرمزد) المخلص المحافظ القيوم؟!
وأهل السنة يعدون الخليفة أو الإمام شخصًا عاديًا وأن دوره لا يتجاوز دور المنفذ لشرع الله وأنه يتعرض للخطأ كما يتعرض سائر الناس.

ليس في الإسلام تقديم قرابة دون عملٍ وتقوى، بل من دلائل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أنه لم يقدم قرابته لمجرد القرابة وخلافة أبي بكر وعمر من كمال نبوته، فتوليتهم دون عمه العباس وبني عمه علي وعقيل ودون سائر بني عبد مناف كعثمان وخالد بن سعيد وغيرهم هو من أعظم الأدلة على أن محمدًا عبد الله ورسوله(1).

((ومبدأ تثبيت السلطة الدنيوية والسلطة الروحية بالارتباط بين حامل السلطة وبين النبي كما يشاهد في نظرية الشيعة في الإمامة، هذه النظرية قد تطورت في "المانوية" من قبل.."(2).

وقد ملك الله طالوت على بني إسرائيل وفيهم يومئذٍ داوود عليه السلام "وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً" (البقرة: من الآية247) وقد ولى الرسول صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة على جعفر بن أبي طالب يوم مؤتة، وولى أسامة بن زيد على كبراء المهاجرين والأنصار وهذه الولايات إما للمصلحة أو لاختبار الطاعة أو الانضباط.

مصدر المعرفة في الإسلام:
الأمة الإسلامية في تجددها وإقامة العدل والحق لا تنتظر نبيًا بعد محمد صلى لله عليه وسلم. فالقرآن والسنة هما أصل التجدد والتجديد ولا تعتمد هذه الأمة على شيء غامض بعيد عن العقل يقوم على مجرد التقديس، فالطائفة التي تمسكت بمثل هذه العقائد عاشت في عالم الخيال والأماني الكاذبة. منهج أهل السنة في الاجتهاد والقياس، وعقيدتهم في ترك الخرافات والخيالات مثل الذين يدعون العصمة من جميع الذنوب. هذا المنهج يعد حافزًا للإنسان على التقدم والمضي في مضمار الحضارة والمدنية يقول المفكر مالك بن نبي: "عندما نريد دخول حضارة لابد من تطويع الطاقات بين حدِّين: الخوف والرجاء، والقرآن والسنة طوعا هذين الحدين"(3) والشيعة غلبوا الرجاء دون عمل ودون قصد صالح.

إن مصدر المعرفة في الإسلام هو الآيات: آيات القرآن وآيات الأنفس والآفاق "سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ" (فصلت: من الآية53)، ومن آيات الآفاق: اختلاف الليل والنهار واختلاف الألسنة والألوان وعجائب الكون الكبيرة. ومن السنن الكونية: تداول الأيام بين الناس أي ما يتعلق بتجربة الإنسان في الكون وفي التاريخ، وأن نفس الأسباب تأتي بنفس النتائج وفي جميع الأوقات وبالنسبة لسائر الشعوب، إذ ليس هناك امتياز لشعب دون شعب ولا أمة دون أخرى، وقد شنّع القرآن على اليهود الذين زعموا أن لهم صلة قربى بالله تمنع من انطباق سننه عليهم "وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ" (المائدة: من الآية18).

كلمات القرآن هي رسول قائم بين المسلمين بلسان عربي مبين، وبهذا كانت رسالة الإسلام خالدة متجددة وأمّا الذين يدّعون أن للقرآن ظاهرًا وباطنًا، وأن الباطن لا يعرفه إلا جماعة ورثته عن إمام ذهب في الزمان القديم فهذا مروق من الدين، يقول صاحب قصة الحضارة: (لعل الشيعة قد تأثرت بفكرة البوذيين عن البدهستناس أي تجسد القديسين مرارًا بعد موتهم فقالت: إن أبناء علي هم الأئمة الذين تتمثل فيهم الحكمة الإلهية)(4).

ونظرية التعليم عند هذه الفرقة ترتبط بفكرة الإمام المعصوم، ولهذا السبب أنكروا في الفقه الرأي والقياس مع أن النظر في القياس من أعظم قواعد الفقه لأن فيه تحقيق الأصل والفرع فيما يقاس ويتماثل في الأحكام.

الباطنية:
ابتلي الإسلام بالفرق الباطنية التي لا تتبع المصدر الحقيقي للمعرفة والسلوك، وتحرف الدين باسم الرمزية حيث تخضع النصوص لما لانهاية له من أنواع التفسير، وهذا من أوضح الأدلة على محاولة إفساد الدين الإسلامي (ولم توجد في الدنيا جمعيات أدق نظامًا من وأنفذ سهامًا من جمعيات الباطنية التي أسسها عبد الله بن سبأ اليهودي ومجوس فارس لإفساد الدين الإسلامي وإزالة ملك دعاته العرب...)(5) بل نستطيع القول أن هذا الداء الباطنية هو آخر معتقد نشأ في الأرض بعيدًا عن روح التكليف والخلاف وحمل الأمانة والمسؤولية التي حملها الإنسان والتي تقتضي القدرة على الاختيار. وربما لم يبتل دين آخر بمثل ما ابتلي به الإسلام ربما لأن الإسلام أطاح بمدنيات وثنية وإمبراطوريات وانتشر في أنحاء الأرض، فلابد وأن يحسد وتدبر له المكائد والمؤامرات بل إن هذا الداء بلية حلت ببني الإنسان، فهذه الفرق (لا تستطيع أن تحقق أهدافها بالوسائل الشرعية المقررة، ولهذا تلجأ إلى البطش إن تمكنت،والاستتار المتآمر في دور التمهيد، والتقية الغادرة في ظل سلطان الخصوم...)(6).

ويقول ابن حزم رحمه الله: ودين الله ظاهرٌ لا باطن فيه، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكتم في الشريعة كلمة فما فوقها، ولا أطلع أخص الناس به من زوجة أو ابنة أو ابن أو عم أو صاحب على شيء من الشريعة كتمه عن الأحمر والأسود ورعاة الغنم، ولا كان عنده سر ولا رمز ولا باطن غير ما دعا الناس كلهم إليه...(7)

وقد قام علماء السنة بضبط العلوم الإسلامية حتى لا يقع الخبط والخلط، أو يدخل أهل الشبهة أو الردة أو البدعة على هذا الدين ما ليس منه فوضعوا ضوابط للتفسير وضوابط لقبول الخبر، وعندما فسر بعض الناس قوله تعالى: "وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ" (الأنعام: من الآية1) بأن الظلمات هي الكفر، قال ابن عطية: (هذا غير جيد لأنه إخراج لفظ بين في اللغة عن ظاهره الحقيقي إلى باطن بغير ضرورة...)(8) فقد أنكر ابن عطية على مثل هذا التأويل فكيف بالتأويلات الفاسدة البعيدة المارقة من الدين. وفي مقدمة الإمام مسلم (والأحاديث المنكرة رائجة لأنها أشد إغراءً للأغبياء والعوام وضبط القليل في هذا الشأن وإتقانه أيسر على المرء من معالجة الكثير منه)(9) فهل كلما اخترع إنسان طريقًا يقال له: هذا اجتهاده وربما يكون على صواب؟! أم أن هناك طريقًا مشرعًا واحدًا هو الحق؟ بلى لابد أن يكون كذلك وغيره أباطيل ولا يمكن أن تكون كل السبل صحيحة، قال تعالى: "وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" (الأنعام:153).

الحزن الدائم:
هل يصلح دين أو تقوم حضارة ومدنية على الحقد والحزن الدائم والشعور بالظلم (وهم غير مظلومين) هل هذا ينمي طاقات الإنسان وقدراته أم يعرقل التطور الإنساني؟ إن ولع هؤلاء وشغفهم بالبكاء يشبه الولع بالآم المسيح عند أتباع المسيح عليه السلام، ويشبه عقدة الاضطهاد عند اليهود.

(وقد استغل هذه النفسية المكلومة الموتورة عند اليهود بعض الأذكياء الذين اعتبروها فرصة سانحة لتحقيق مآربهم الشخصية أو أغراضهم السياسية، ففاجئوا أبناء ملتهم بمبشرات وتكهنات ووعود خلابة كان لها سحر عجيب في النفوس اليائسة البائسة فاضطربت العقائد وشاعت البدع، ونشأت طوائف محدثة تشجع البدع (10) وتوسع نفوذها وتقوي سلطانها..)(11).

الناس في حياتهم يحتاجون إلى المعاملة الكريمة الخالية من الحقد ومن العقد النفسية، يحتاجون إلى سعة الصدر والصدق في القول والعدل في الحكم والنظر والبحث في العلم والتعلم، وأن هموم المسلم وتشوفه لحمل الرسالة وبعد همته في ذلك لا يعالج بالحقد وتزوير الحقائق وتزوير التاريخ وتأويل آيات القرآن تأويلاً متعسفًا باطلاً لا يعترف بأي حدود للعلم والمعرفة والعقل (فليس في مصادر الشيعة الاثني عشر والإسماعيلية ما يعول عليه في التاريخ)(12).

ولذلك يقال: أن الدول الباطنية لا تدوم. ذلك لأنها تقوم على العنف والحقد على المخالفين وليس لها جذور في التمدن، والحضارة إنما تقوم على التسامح والعدل والرحمة، والواقع يدلنا على أن فتوحات سعد وخالد وعمرو ما تزال قائمة حتى الآن ولكن فتوحات الموتوريين المتجبرين الظالمين للشعوب قد ذهبت أدراج الرياح.

_______________
(1) انظر منهاج السنة النبوية لابن تيمية.
(2) عبد الرحمن بدوي: الإنسان الكامل / 39
(3) مشكلة الأفكار /61
(4) وول ديورانت: قصة الحضارة 13/130
(5) رشيد رضا: تفسير المنار 8/225
(6) عبد الرحمن بدوي: مذاهب الإسلاميين /3، ط. دار العلم للملايين
(7) انظر: الفصل في الملل والنحل
(8) تفسير ابن عطية 5/122
(9) طريف الخالدي: فكرة التاريخ /68
(10) كما وقع في ظهور البهائية والبابية، والشيخية عند الشيعة وكما ظهرت ولاية الفقية أخيرًا
(11) أبو الحسن الندوي: النبوة والأنبياء /142
(12) هادي العلوي: محطات في التاريخ /23