الحمد لله رب العالمين وصلى الله وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه، وبعد:
فيقول الله عز وجل :
" أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب " (البقرة 214)
ويقول سبحانه : " أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين " (آل عمران 142) .
ويقول تعالى : " ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم " (محمد 31)
وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال : ( قلت يا رسول الله : أي الناس أشد بلاء ؟ قال الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل فيبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان دينه صلباً اشتد بلاؤه وإن كان في دينه رقه ابتلي على حسب دينه فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة ).
ومصداق ذلك جلي في ما قصه الله عز وجل علينا في كتابه الكريم من البلاء العظيم الذي تعرض له أنبياؤه عليهم الصلاة والسلام في أنفسهم ومع أقوامهم .
والآيات والأحاديث الواردة في حتمية الابتلاء كثيرة تفيد بمجموعها أن الابتلاء سنة إلهية مطردة لا تتخلف ولكن الابتلاء تختلف صوره فمن الناس من يبتلى بالخير ومنهم من يبتلى بالشر حسب علم الله عز وجل وحكمته . قال سبحانه : " ونبلوكم بالشر والخير فتنة " . (الأنبياء 35 )
والابتلاء بالمصائب والمكروهات على نوعين :
1 – ابتلاء تكفير وتنبيه على ذنوب وأخطاء وقد يكون أجراً ورفعة في الدرجات كما هو شأن الأنبياء والصديقين، وهذا في الغالب يكون على مستوى الأفراد .
2 – ابتلاء اختبار وتمييز للخبيث من الطيب ، وهذا يكون في الغالب على مستوى الجماعة .
وكلا النوعين فيهما خير ومصلحة للمصابين بها ، فالابتلاء الذي للتكفير والتنبيه على الأخطاء والمخالفات فيه خير للمبتلى حيث تحط عنه خطاياه ويراجع نفسه في المنهج الذي هو سائر عليه ، فلربما كان فيه من المخالفات ما كان سبباً في هذا الابتلاء وفي ذلك خير لأنه لو لم يكن البلاء لتمادي الخطأ بصاحبه ولم ينتبه له .
والابتلاء الذي فيه اختبار وتمييز الخبيث من الطيب فيه مصلحة عظيمة ، وذلك في تمييز صحيح الإيمان وصادقه من ضعيفه وفيه فضح للمنافقين وتثبيت للمؤمنين الصادقين وزيادة صلابة لإيمانهم ، وفي ذلك خير عظيم ولولا هذا النوع من الابتلاء لادعى كل إنسان صدق الإيمان وقوته واختلط المنافق بالمؤمن الصادق . قال الله عز وجل : " ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب " (آل عمران 179)
وقال سبحانه : " الم (1) أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون (2) ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين (3) " (العنكبوت 1-3)
وقد ذكر الله عز وجل هذين النوعين من الابتلاء في آيتين متتاليتين في سورة آل عمران بعد الهزيمة التي حصلت للمسلمين في غزوة أحد حيث قال الله عز وجل : " أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير" (آل عمران 165) .
وهذا هو النوع الأول من الابتلاء المشار إليه سابقاً ، حيث ذكر الله عز وجل أن هذا القرح الذي أصاب المسلمين في غزوة أحد بسبب ذنوبهم وذلك عندما خالف الرماة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم .
ثم ذكر عز وجل بعد هذه الآية النوع الثاني من الابتلاء الذي هو للاختبار والتمييز فقال سبحانه : " وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين (166) وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالاً لاتبعناكم هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون " (آل عمران 166-167) .
وهذا هو النوع الثاني من الابتلاء حيث كان سبباً في اختبار الناس وتمييز المؤمن الصابر من المنافق وفي كلا هذين النوعين من الابتلاء مصلحة عظيمة للمؤمنين حيث يكفر الله عز وجل به سيئاتهم ويوقفهم على أخطائهم وزلاتهم لكي لا يعودوا إليها مرة أخرى . كما أن فيه مصلحة للصف المسلم وذلك بتنقيته من المنافقين وأصحاب القلوب المريضة الذين هم شوكة في حلوق المؤمنين وسبب في الفتنة وتأخير لنصر الله عز وجل . ولا يُعرفون وينكشفون إلا في الشدائد
ذكر بعض الأسباب التي يثبت الله عز وجل بها أولياءه عند الشدائد :
السبب الأول : بما أن التوفيق وتثبيت القلوب لا يملكه ملك مقرب ولا نبي مرسل وإنما هو بيد الله وحده ، فكان حقا على المؤمن أن يلتجأ إلى ربه عز وجل ويستعين به وحده ويتضرع إليه في أوقات الإجابة في طلب الثبات على الحق والنجاة من الفتن وتفريج الكروب وأن يتوكل على الله عز وجل وحده ويتبرأ من الحول والقوة والله سبحانه لا يرد دعوة الصادق المضطر . والمتأمل في أدعية الرسول صلى الله عليه وسلم يرى أمراً عجباً في طلبه الهداية والثبات مع أنه رسول الهداية المعصوم من ربه عز وجل ، ومن هذه الأدعية الجامعة قوله صلى الله عليه وسلم : ( اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك . اللهم يا مصرف القلوب صرف قلبي على طاعتك ) وقوله صلى الله عليه وسلم : ( اللهم اهدني وسددني) وقوله صلى الله عليه وسلم في استفتاح صلاة التهجد كل ليلة : ( اللهم رب جبرائيل وميكائيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم ) وقوله صلى الله عليه وسلم يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين ) وقوله صلى الله عليه وسلم : ( اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني أنت الحي الذي لا يموت والجن والأنس يموتون )
السبب الثاني : العلم الشرعي والبصيرة في الدين . لأن في ذلك باب إلى معرفة الحق والاتباع للرسول صلى الله عليه وسلم . وكلما كان العبد مطمئناً إلى طريقه وأنه حق مشروع يحبه الله عز وجل كان ذلك من أسباب ثباته وبقائه عليه كما أن في العلم بالشرع سداً لباب الشبهات التي هي من أسباب الفتنة والانحراف لأن الشبهات لا تنطلي على أهل العلم وإنما يروج سوقها في الأوساط الجاهلة أو قليلة البضاعة من العلم الشرعي .
وهناك ثمرة عظيمة من ثمار العلم والبصيرة في الدين لها أثر كبير في الثبات على الدين والتسلية عند الشدائد ألا وهي ثمرة العلم بأشرف معلوم وأجله وأكرمه ألا وهو العلم بالله عز وجل وأسمائه وصفاته . هذا العلم العظيم الذي نحن في غفلة عنه مع أنه علاج لكثير من أمراض القلوب ومساوئ الأخلاق .
وفي ذلك يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: ( لا سعادة للعباد ، ولا صلاح لهم ، ولا نعيم إلا بأن يعرفوا ربهم ويكون هو وحده غاية مطلوبهم ، والتعرف إليه قرة عيونهم .. ومتى فقدوا ذلك كانوا أسوأ حالاً من الأنعام . وكانت الأنعام أطيب عيشاً منهم في العاجل ، وأسلم عاقبة في الآجل .. )
وقال أيضاً : ( إن حياة الإنسان بحياة قلبه وروحه . ولا حياة لقلبه إلا بمعرفة فاطره ومحبته وعبادته وحده والإنابة إليه والطمأنينة بذكره . والأنس بقربه ، ومن فقد هذه الحياة فقد الخير كله ولو تعوض عنها بما تعوض في الدنيا )
وقال العز بن عبد السلام : ( فهم معاني أسماء الله تعالى وسيلة إلى معاملته بثمراتها من الخوف والرجاء والمهابة والمحبة والتوكل وغير ذلك من ثمرات معرفة الصفات ) .
وعلى سبيل المثال فعندما يتعبد العبد لربه سبحانه وبخاصة في أوقات الشدائد باسمه سبحانه ( العليم ، الحكيم ) فإن هذا يثمر في القلب طمأنينة وحسن ظن بالله تعالى وتسليماً لأمره القدري والشرعي ، ذلك لأن مقتضى هذين الاسمين الكريمين أن شيئاً في هذا الكون لا يحدث إلى بعلم الله سبحانه وحكمته وعدله وقدره . وعندما يشهد المؤمن أسماءه سبحانه ( اللطيف ) ، ( الرحيم ) ، (البر ) فإن هذا الشهود يثمر في قلب العبد محبة لله تعالى ورجاء ورَوْحاً ، ذلك أن من معاني ( اللطيف ) أنه الرفيق الذي يسوق لعبده الخير من حيث لا يشعر بل من حيث يكره . وهكذا في بقية أسماء الله عز وجل الحسنى التي أمرنا الله سبحانه أن ندعوه بها ونتعبد له بها
السبب الثالث : الإخلاص لله تعالى في الطريق والأمر الذي دخل فيه لأن الذي يبتغي وجه الله عز وجل والدار الآخرة لا تراه إلا ثابتاًَ على طريقة لا تغريه مطامع الدنيا ولا يغيره ترغيب ولا ترهيب . والإخلاص عمل قلبي يحتاج إلى يقظة ومعاهدة وتربية ليس هنا محل تفصيلها . وإنما المقصود الإشارة إلى أهمية الإخلاص وأثرة في الثبات والعكس من ذلك فإن ضعفه يقود إلى الاضطراب والانحراف وترك الحق عند أدنى شدة وابتلاء .
وقد أجمل الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى الأسباب الثلاثة السابقة في كلام نفيس ينبغي أن يقرأ عدة مرات حتى ينقش في القلب . قال رحمه الله تعالى : ( ... فإذا قام العبد بالحق على غيره وعلى نفسه أولاً ، وكان قيامه بالله ولله لم يقم له شيء ، ولو كادته السماوات والأرض والجبال لكفاه الله مؤنتها ، وجعل له فرجاً ومخرجاً ، وإنما يؤتى العبد من تفريطه وتقصيره في هذه الأمور الثلاثة ، أو في اثنين منها أو في واحد ، فمن كان قيامه في باطل لم يُنصر ، وإن نصر نصراً عارضاً فلا عاقبة له وهو مذموم مخذول .
وإن قام في حق لكن لم يقم فيه لله وإنما قام لطلب المحمدة والشكور والجزاء من الخلق أو التوصل إلى غرض دنيوي كان هو المقصود أولاً والقيام في الحق وسيلة إليه فهذا لم تضمن له النصرة ، فإن الله إنما ضمن النصرة لمن جاهد في سبيله ، وقاتل لتكون كلمة الله هي العليا ، لا لمن كان قيامه لنفسه ولهواه ، فإنه ليس من المتقين ولا من المحسنين ، وإن نصر فبحسب ما معه من الحق ، فإن الله لا ينصر إلا الحق وإذا كانت الدولة لأهل الباطل فبحسب ما معهم من الصبر ، والصبر منصور أبداً ، فإن كان صاحبه محقاً كان منصوراً له العاقبة ، وإن كان مبطلاً لم يكن له عاقبه .
وإذا قام العبد في الحق لله ولكن قام بنفسه وقوته ولم يقم بالله مستعيناً به متوكلاً عليه مفوضاً إليه برياً من الحول والقوة إلا به فله من الخذلان وضعف النصرة بحسب ما قام به من ذلك ، ونكتة المسألة أن تجريد التوحيد في أمر الله لا يقوم له شيء البتة ، وصاحبه مؤيد منصور ولو توالت عليه زمر الأعداء )
فقول ابن القيم رحمه الله تعالى : ( فإذا قام العبد بالحق ) أي أن يكون مشروعاً مرضياً لله تعالى وهذا لا يكون إلا بالعلم بالشرع وهو المشار إليه في السبب الثاني .
وقوله ( بالله ) يعني مستعيناً بالله متبرئاً من الحول والقوة وهو المشار إليه في السبب الأول ، وقوله ( لله ) يعني أن يكون مخلصاً لله تعالى في أمره وهو المشار إليه في السبب الثالث .
السبب الرابع : الإكثار من الأعمال الصالحة بداية من إتقان الفرائض الباطنة والظاهرة والإكثار من النوافل المتنوعة من صلاة وصيام وصدقة وذكر وقراءة قرآن وغيرها من الأعمال الصالحة . فكلما قويت الصلة بالله عز وجل كان ذلك سبباً في محبة الله عز وجل للعبد وهذه المحبة تثمر حفظ الله عز وجل لعبده وتثبيته عند الشدائد . قال الله عز وجل : " ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيراً لهم وأشد تثبيتاً (66) وإذا لآتيناهم من لدنا أجراً عظيماً (67) ولهديناهم صراطاً مستقيماً " (النساء 066-068)
وقال الله عز وجل في الحديث القدسي : ( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها ، وإن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه )
ولا يخفى ما في هذا الحديث العظيم من دلالة واضحة على أن حفظ الله تعالى للعبد في سمعه وبصره وبطشه ومشيه إنما هو ثمرة للصلة القوية بين العبد وبين ربه بالفرائض والنوافل ، ومن حفظ في هذه الجوارح كلها فهو المعصوم والناجي بإذن الله تعالى .
السبب الخامس : مجالسة الصالحين الذين يجمعون بين المعتقد الصحيح والتقوى والأخلاق الفاضلة لأن في العيش معهم تقوية للإيمان وثبات على الحق واقتداء بهم في فعل الخير . ومما يلحق بذلك القراءة في سير العلماء العباد من أئمة السلف ومجاهديهم .
وفي مقابل ذلك الحذر من مجالسة أهل الشبهات والشهوات والحذر من قراءة كتبهم ومقالاتهم لأن القلب ضعيف وقد تعلق به شبهة من شبهاتهم فيكون سبباً في الزيغ والضلال .
السبب السادس : تذكر المصاب نعمة الله عز وجل عليه بالهداية للإسلام والسنة . وأن المبتلى المصاب بحق من ابتلي في دينه ولم يوفق للهداية لذا كم من مبتلي بفقر أو مرض أو سجن أو تشريد هو افضل عند الله عز وجل وأكرم من غني أو صحيح أو حر طليق ضغيف في إيمانه أو فاقد له ، والمحبوس من حبس قلبه عن ربه يقول الله عز وجل : " أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون " . وإن في تذكر ذلك وتذكر أن ساعات البلاء هي من أرجى ما للعبد عند الله عز وجل إذا صبر واحتسب . إن تذكر ذلك كله لمن أعظم أسباب تسلية المصاب وتثبيته _بإذن الله عز وجل_ .
نسأل الله أن يصلح لنا شأننا كله وأن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه .