تناقلت عدد من وسائل الإعلام دفاع (وزير الداخلية الإيطالي) جوليانو أماتو عن الحجاب الإسلامي في مقابلة مع صحيفة ( إل كوريري ديلا سيرا ) ، بقوله : " المرأة التي حظيت بأكبر نصيب من المحبة على مر التاريخ ألا وهي السيدة العذراء تصور دائماً وهي محجبة " ، وتابع جوليانو : " ولكن على ألا يغطى كامل الوجه، ولا أود أن يصل التطرف بالبعض درجة المطالبة بتعديل رسوم مريم العذراء بحيث تصور وهي سافرة لكي تتلاءم وشعاراتهم " .
الجملة الأخيرة المروية عن جوليانو أماتو ، أشعرتني أنه يخاطب بعض بني جلدتنا ، عندما يتعرضون لمسألة شرعية من خلال الحديث عن شخصية علمية أو مؤسسة يتولاها أهل العلم الشرعي فيتجاوزون ثوابت الدين ومسلمات الأمة ..
1 ) وقبل الدخول في الموضوع أودّ التأكيد على أمرين :
الأول : أنَّ تدخل الكتّاب والصحفيين من غير أهل العلم والتخصص فيما يكتبون فيه ، فضلاً عن كتّاب الأفكار وممثلي الأدوار ممن هم أقلّ شأناً من أن يعبِّروا عن رأيٍ في القضايا الكبار – أقول إن تدخل هؤلاء في الأمور الكبيرة التي لا يعي حقائقها إلا أهل الشأن وأهل المعرفة من المثقفين الحقيقيين ، لهي من الابتلاءات التي تمرّ بها الأمّة ، وإنني لأتذكر في هذا الشأن الحديث العظيم الذي هو إعجاز نبوي : أن يتحدث الرويبضة في أمر العامة !
ومن تلك الأمور : ما يعرف باختلاف الأحكام أو تفاوت العقوبات التي تصدر من القضاة ! وهو موضوع لا يختص ببلد دون بلد ولا بمدرسة قانونية دون أخرى ، وهذا ما سأوضحه إن شاء الله تعالى في الأسطر الآتية ..
علماً أن مجال التفاوت لا يتطرق إلى الأحكام المقرّرة في الشرع كالحدود والقصاص والإرث ونحوها ، ومع ذلك لم تسلم من نقد حملة الأفكار الأجنبية والتأثرات الخارجية ، وقد أوضحت شيئاً من ذلك في مقالات : محاولات التسلل إلى نقد الشرعية الإسلامية العليا، ومقال : الحملة الصحفية على المحاكم الشرعية .
الثاني : أنني هنا لا أكتب دفاعاً عن عالمٍ شرعي ، أو جهازٍ قضائي له مؤسساته التي تجب عليها حمايته ، ولا عن خطأ قد يقع من شخصٍ أو مؤسسة ما ؛ ولكنني أكتب دفاعاً عن ( قاضٍ في الجنّة )، أراد بعض كتبة الأفكار وممثلي الأدوار أن ينالوا منه في مشاهد ساخرة ، تحت ذرائع باطلة ووسائل قديمة ، قِدم الحرب على الإسلام ليس أخبثها بناء مسجد ضرارٍ ودعوة محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم لافتتاحه !! في كمين ماكرٍ فضحه الله من فوق سبع سماوات ..
كتبة الأفكار و ممثلوا الأدوار ممن لا تقبل شهادتهم – عند قاضٍ في الجنّة - في دخول شهر رمضان فضلاً عن خروجه ، يبدو أنهم أقلّ ثقافة من حاملي ( الكاميرات ) التي تصورهم وهم يمارسون الإثم والتلبيس ، كما لو كان عملهم نيابة عن مردة الشياطين المصفّدة في هذا الشهر الكريم الذي جعلوه وقتاً لبثّ ما أُشربوه من سموم أجنبية..
2 ) إنَّ تفاوت القضاء في الوقائع المتقاربة في حدود سلطة القاضي التقديرية ، لا يُعدّ تناقضاً عند أهل الشأن المتمرسين من قضاة الشرع ، بل وقضاة الوضع ، وكذا عند من له معرفة بأمور القضاء من دارسي الشريعة وخريجي كليات الحقوق ، سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين .. وهنا لن أُعرِّج على الثقافة القضائية في الفقه الشرعي المستهدَف من أهل الباطل ، ولا بتفاصيل التفريد القضائي ومعايير تحقيق العدالة عند التقدير ، فهذا موضوع تخصصي يطول الحديث عنه ؛ ولكنني أكتفي بذكر بعض ما يتعلق بهذا الموضوع في القوانين الغربية التي يركن إليها بعض القوم ؛ مُفيداً من مؤلّفات متخصِّصة ، ومقالاتٍ علمية بهذا الشأن . وذلك تفريقاً بين السياسات القضائية العقابية وتفاوت العقوبات تبعاً لذلك ، وبين التناقض في الأحكام الذي يُريد المغرضون الإيحاء به كصفة من صفات القضاء الإسلامي في بلادنا .
فربما لا يعلم كتبة الأفكار و ممثلو الأدوار ومن يُصفِّق لهم من تلاميذ المسلسلات : أنَّ النظام القانوني الإنجليزي والنظم التابعة لمدرسته كالاسترالي مثلاً ، تُعد أكثر النظم توسعاً فيما تمنحه للقاضي من سلطة تقديرية في تطبيق العقوبة ، فلا يقيد القاضي إلا الحدّ الأقصى الذي يقرِّره القانون لكل جريمة إن كانت العقوبة مدونة في تقنين أو سابقة .
وأنَّه إذا وجد خطأ خارج هذا الإطار ، فليس مردّه السلطة التقديرية التي يُفتَرضُ فيها توخّى العدالة ، وإنَّما يرجع إلى أسباب أخرى تمثل انحرافاً عن العدالة المطلوبة في القانون العقلي ، وهذا أمر يشهد به أساتذة القانون ، من مثل king و radzinowicz إذ قالا : " لقد اتخذ القضاة في الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وانجلترا وفرنسا من السلطة التقديرية الممنوحة لهم ذريعة لإرضاء الرأي العام عند اختيار العقوبة ، وقاموا بتوجيه الاستجواب وجهة غالباً ما تكون غير ذات صلة بموضوع الجريمة ، ومن ثمّ استُخدمت هذه السلطة كأداة خرجت عن الغاية التي من أجلها مُنحت " .
ولكشف ما يرمي إليه الأستاذان ، يحسن أن أذكر أن الدراسات الإحصائية التي قام بها متخصصون في مقاطعة نيويورك الجنوبية سنة 1972م ، قد أسفرت عن وجود تفاوت في العقوبة ، ولو تساوت في النوع ، إذ قد تبيّن أنّ الأحكام الصادرة بعقوبة السجن ، أطول في مدتها بالنسبة للمتهمين السود عن نظرائهم من البيض ! ، في ذات الجرائم التي يرتكبونها ، ومع تماثل ظروف ارتكابها .
3) إن وجود قضاء لا يتفاوت فيه تقدير العقوبة تبعاً لبعض المتغيرات المؤثِّرة في العقوبة تخفيفا وتغليظا ، أو ما يعرف بظروف الواقعة : المشدّدة أو المخفّفة ، هو في الحقيقة قضاء ظالم ، والحلم به جهل بالحقائق ، و حلم بالظلم .
ولذلك فشلت محاولات التجاوب المتعدِّدة مع الانتقادات التي وُجِّهت للنظرية القضائية الأمريكية بسبب اختلاف عقوبات الجنايات والجرائم المتشابهة بعد أن اقتُرِح تشريع قانون بعقوبات إجبارية محدّدة بدقة وغير خاضعة لأي تغيير أو تبديل ، ومثالها معاقبة اللصوص جميعاً بالسجن لمدة سنة واحدة ، مهما كانت الدوافع والأحوال ! ولكن تعدد نوعية السرقات وأحوال اللصوص ، واختلاف درجات خطورتها ، جعل هذا الحكم فاشلاً من الناحية الموضوعية باعتراف القوم أنفسهم .
وقد اعترض القضاة والمحامون وشراح القانون على بعض القوانين التي تسلب القاضي سلطته التقديرية ، مع أنَّها وُضعت كحلٍّ لمنع التفاوت ؛ وذلك بحجة عدم ملاءمتها ، وبعدها عن تحقيق العدالة .
وتقريبا للصورة ، وبياناً لجهالة كتّاب الأفكار فضلاً عن ممثلي الأدوار ، فإننا كثيراً ما نسمع بين العامّة جواباً لمعترضٍ على تغليظ كلامٍ أو عقوبة على آخر ، يقول له الجملة الدّارجة : أنت ما تدري وش سوّى ! وما إن يُفصِّل له بعض الأمور ويفسِّر له مثلَها ، حتى يجيبه المعترِض : أعوذ بالله ! آسف ، لا والله أجل أنت على حق !
إنَّ علاج مرض السكّر يختلف من شخصٍ إلى آخر ! فربّ مريضٍ بهذا الداء - ذي المسمّى الواحد - ينفعه الله بالحمية ، وآخر يجعل الله شفاءه في أكل الحبوب ، وثالث لا يفيده _بإذن الله_ إلا حقنة الإنسولين ..
إن وجود قضاء لا يتفاوت فيه تقدير العقوبة تبعاً لشخصية الجاني الإجرامية ومؤثِّرات التفاوت المعروفة ، هو في الحقيقة قضاء ظالم، والحلم به جهل بالحقائق ، و حلم بالظلم .
هذه باختصار حكاية التفاوت في الأحكام القضائية إذا صدرت من قاضٍ يقضي قضاء قاضٍ في الجنّة . أمَّا تناقض الأحكام فشأن آخر، أوضحه بمثال من القوانين الفيدرالية ، ذلك أنَّ جريمة القتل : تكون عقوبتها في ولاية القتل ! و في ولاية أخرى السجن ! مع أنَّهما تحت حكم دولة واحدة ! يحمل مواطنوها جنسية واحدة . وهذا ما يجعل بعض محترفي الإجرام يستدرج ضحيته للولاية الأخف عقوبة !!
4) ومن لطيف ما يكشفه الله ولو بعد حين ، ما كشفته الحلقة التي أظهرت المتلبرلين من أهل الشراب والسكر ! وفقدان التربية - وفاقد الشيء لا يعطيه - وإن كانت الهداية بيد الله تعالى ، إلا أنَّه قد صح في الحديث ( كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ) ..
ولئن ساد انطباع مقزِّز من الليبرالية عند مشاهدي هذه الحلقة من البريئين ، وانطباع ناقم من كشف شيءٍ من المستور من المُتَهمين ، إلا أنَّني تذكرت – وأنا أتابع ردود الفعل تجاه هذه الحلقة - عدداً من المقالات الغاضبة - في أوقات مضت - على المؤسسات الحكومية ، التي تكشف مصانع خمرة متستِّرة بين حين وآخر ، وتُريق كميات هائلة من منتجاتها المحرّمة علناً ، كما تذكّرت تلك المقالات الناقمة من حماة الفضيلة الرسميين في بلاد الفضيلة على جميع المستويات، وهكذا المؤسسات التي تلاحق من وراء هذا النوع من المجرمين وتُقدِّمه للعدالة ، وصولاً إلى المحاكم الشرعية ولاسيما تلك التي تختص بنظر مثل هذا النوع من القضايا ..
فهل يمكن للمتابع أن يقرأ تلك المقالات مرة أخرى في ضوء مشهد الشارب والساقي من جهة ، ومشهد الغفلة عن التربية أو عدم الاهتمام بالقيم الفضيلة باسم الحرية من جهة أخرى !! وهل له أن يتأوّل قول الله تعالى : " وشهد شاهد من أهلها " في مواقف يمثلها من له عند القوم احتفاء ومن أجندتهم قرب ؟!
نسأل الله أن يحفظ لنا إيماننا وأمننا ، وأن يبطل كيد الكائدين ، ويهدي ضال المسلمين .