الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فإن القرائح الغاضبة على تردي أوضاعها إذا صدقت، لا تألوا جهداً في التفكير الجاد بالحصول على مخارج من الأزمات التي تعيشها، وأحسب أنّا كأمة إسلامية نعيش أزمة حقيقية منذ أمد، أشدها أزمة الشعوب المغلوبة والمستضعفة مع حكامها المستبدين الظلمة، هذه الشعوب التي مارست القوة من أجل التغيير فبطش بها، ومارست الصمت من أجل التغيير فنسيت جميعها، ومارست الصراخ من أجل التغيير فسخر منها، ومارست المدح من أجل التغيير فانتفخ ممدوحها، فيا لله ماذا تفعل؟
قال هاجس: عندما كنت صغيراً في المدرسة وأنا أكبر إخواني جميعاً، كانت تمر بي أزمات تتمثل أحياناً في سرقة مصروفي وكان المصروف لأبناء الأثرياء آنذاك أربعة قروش فقط لا غير! كان في مدرستنا الابتدائية سراق مهرة! يكبرونني بقرابة عقد من الزمن أو أكثر، كانوا يتحينون اصطفافي في الطابور أمام المقصف التعيس، وكنت مرتباً ونظيفاً وأحب النظام، كانوا وبكل قسوة يخدعونني، أو يضربونني، فيأخذون مصروفي وأحياناً مصروف أخي، وحيناً يقترضون مني مصروفي وإلى تأريخه لم تسدد تلك المديونيات.
ويوماً قلت: وإلى متى هذا الذل والهوان ألست إنساناً لي كرامة ومن حقي أن أستمتع بمصروفي، فصحت بصوت قوي وكشرت بأنيابي، قائلاً لهذه الطغمة الجائرة الخارجة عن قوانين المدرسة حرام عليكم حرام! فقام أكبرهم وبصق في وجهي ووضع يده في نحري يهددني بالضرب!
وفي اليوم التالي عزمت أن أحمي مصروفي حتى لو ضربت بالحذاء، وكان الوقوف في طابور المقصف وقتاً عصيباً للغاية لما فيه من العراك، واللطم والركل، وبكل نفس واثقة صممت على حماية نقودي، وكانت المفاجأة أن كبير السراق جاءني معتذراً عن بصاقه بالأمس وتهديده المخيف! فقلت الحمد لله كفى الله الشر، إلا أنه أخبرني أن معه أربعة قروش قال أنه جمعها أثمان عصافير صادها وباعها وبكل الحزن والندم فقدت منه! قلت له: يا أخي أمتأكد أنك سرحت بها أم نسيتها في البيت؟ فأقسم يميناً أنه سرح بها، وكان آخر العهد بها قبل قليل في المكان الذي أنت فيه، عندما نقلتها من جيبي الأيمن إلى الأيسر، فاجتهدت معه في البحث عنها، وكنت ماهراً في حرث الأرض بأصابع يدي جميعاً، علني أبشره بوجودها كعربون سلام بيننا! لكن جهودي ويا للأسف باءت بالفشل، الغريب أن الولد لم يجتهد في البحث مثلي بل صوب عينيه لجيبي، ثم قال لي يا المعنى ممكن أنظر إلى قروشك؟ قلت: لماذا، قال: حتى أطمئن أن التي معك هي قروشك! قلت: ها هي قروشي في طرفها رقمة خضراء، وفجأة صاح بأعلى صوته يا حرامي هذه قروشي، واقتادني بعمامتي البيضاء الجميلة ويداه ملوثتان فاتسخ من العمامة جميع جوانبها وكدت أهلك من شدة الخنق، ومعه العصابة يسوقونني إلى المدير! وقلت في نفسي الساعة يظهر الحق ويخنس الباطل البينة على المدعي واليمين على من أنكر، وعزمت أن أحلف يميناً غير حانث فيها أنها قروشي! فقال المدير: ولم يلمه على جرجرتي ما الذي حصل بينكما؟ فأردت أن أبادر بالشكوى ولكني سبقت، قال المدعي هذا الطالب الماثل بين يدي سعادة المدير وجد قروشي التي فقدت مني في وسط طابور المقصف وأخذها، وأمارتها آثار التراب الذي في يديه وعلامة خضراء في طرف النقود، وهذا جيبي مشقوق وقد نقلتها من الآخر فيه، وأنا محتاج لنقودي وأطالب بردها فوراً، ومعاقبة الطالب على خيانته النكراء! قال المدير: أرني يديك يا المعنى؟ قلت: ها هي يدي يا سعادة المدير! قال: أرني جيبك يا صقر؟ قال: ها هو مشقوق! قال: أرني القروش يا المعنى ؟ قلت: ها هي قروشي! قال المدير: ظهر الحق وخاب الخائن! ها هي النقود وعليها العلامة الخضراء! وها هي اليدين وعليها آثار الغبار! وها هو الجيب مشقوق! فضرب بعصاه على الطاولة فأفزعني وقال: أفي مدرستي يحصل كل هذا! قد حكما نحن مدير المدرسة بما هو آت: الأول: ترد النقود فوراً إلى صاحبها صقر! والثاني: يجلد المعنى عشرة أسواط أمام الطلاب قبل صلاة الظهر! والثالث: يشعر والد الطالب بذلك! والرابع: ترفق صورة من الحكم بملف الطالب! وكان أن ذهبت نقودي! وجلدت أمام الطلاب! وحملت الإشعار إلى والدي! وبقيت حزيناً على غياب العدالة.
قلت: يا لله أما لهذا الظلم من أخر؟ أهكذا تهدر الحقوق؟ أهكذا تطمس الحقائق؟ أهكذا تغيب العدالة؟
قلت: لا والله لن أستسلم أبداَ فلا بد من وسيلة أخري تحفظ مصروفي وترفع كرامتي! نعم لا بد من ذلك مهما كلفني الثمن، حينها مكثت ليلة كاملة ، فلما شارف غياب القمر وجدتها، إنها ببساطة جمع المحبين غداً على مأدبة في بيتنا على عصيدة تجليها أمي بالسمن والعسل! وشاي تفوح منه رائحة النعناع والحبق، وكل شيء بعدها سهل المنال. فلما أكل الفتية وكنا في سن متقاربة، عرضت مشكلتي، وكيف مكر الغادر بي، وما كان من عاقبة مكره، فتعاطف الجميع، وتقاسمنا يميناً أن نتناصر في الحق مهما كانت النتائج.
وجاء الغد وفيه ما يحمله من المفاجأة، إنها هجمة شرسة من العصابة نفسها يقودها متمرس آخر في الضرب وتشقيق الملابس! يا للهول بينا أنا في الطريق إلى المدرسة مبكراً وليس معي من رفاقي إلا اثنان، وقعنا في الكمين وحاولت إنقاذ الموقف بالتفاوض للخروج بأقل الخسائر، ولم تجد تلك المحاولات، دارت رحى المعركة وخسرت مصروفي وخسر رفاقي مصاريفهم وأوجعنا السراق ضرباً، وطاروا بالغنائم والنصر! عندها أبت لرشدي وعلمت أن العيون الساهرة ليست في كل مكان، وأن الحق يلتبس على من لا علم له، وأن من لا يملك القوة منهوب ومغلوب ومشوه الصورة.
قلت: لا بد من حيلة سلمية تخفف الجور والظلم والاستبداد، فاهتديت إليها.
ما هي الحيلة الذكية السلمية؟ قلت: غاندي تحرر من الرق وحرر قومه بالمظاهرات الصامتة ، قالت الفكرة يا المعنى إنها لا تجدي وإن أجدت غاندي فالزمان غير الزمان والمكان غير المكان والإنسان غير الإنسان! قلت: لها إذن ماذا؟ قالت: وهي باكية والدمع يتحدر من غرب عينيها هكذا يا المعنى فافعل مع خصومك! قلت: يا عيباه أبكي وأنا فتى الإسلام؟ قالت: جرب فمن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي، قلت: والحرقة تقطع نياط قلبي هل وصل بي الحال أن أدافع عن حقوقي بدمع عيني!
وفي اليوم الذي يليه: وأمام الجموع المغلوبة على أمرها من أقراني ومن دونهم، جاء السراق كعادتهم، فلما دنوا مني تذكرت البكاء من أجل التغيير، فجهشت بالبكاء وتفجرت صارخاً بالعويل وندبت نفسي وقلة حيلتي وهواني على مدرستي وتخاذل الطلاب عن نصرتي، وإذ بي أبكي على الحقيقة، فلما رأت الجموع المستضعفة بكائي بكت لا من أجلي فقط ولكن من أجل مستقبلها التعيس غداً مع تلك العصابة، بكينا جميعاً وتنادى الخائفون بالبكاء، وتجاوب من لا حول له ولا قوة من المدرسين بالبكاء، وكان أن سلم الله مصروفي وخافت العصابة من بكاء المقهورين وتراجعوا،عن ظلمهم لنا، واستبدادهم بمصاريفنا، والتضييق على حريتنا المشروعة.
قال المعنى: فلما أفنيت زهرة شبابي في طلب العلم وأصبحت من حملة أرفع الدرجات العلمية، استشعرت مسئوليتي أمام أمتي التي مزقتها الحدود، وقيدتها العهود، وحكمت حكامها النصارى واليهود أيقنت أن التجارب الناجحة يجب أن تعمم ليفاد منها! لا سيما وقد رأيت مصداق تلك التجربة بأم عيني من الكبار فهذا صاحب السمو أمير دولة الكويت الشقيقة تفجر بالبكاء حزناً على الكويت عندما غزاها فخامة الرئيس صدام حسين، يا له من منظر محزن للغاية على رؤوس الأشهاد وعلى الهواء مباشرة من مجلس الأمن، مما جعل صدام حسين يبيت ليلته يستغفر من جرم خطيئته الفاجرة، وقريباً جرب البكاء فخامة رئيس الوزراء اللبناني فؤاد السنيورة عندما خرج على شعبه وعلى شاشات الفضائيات العالمية فناشد الأشراف كف العدوان اليهودي النصراني على بلده، يا لها من جهشة فاضت دموع الأسى واللوعة، إن هذه الدموع الحارة أرعبت الجيش اليهودي فهوى مغشياً عليه لم يستفق إلا وهو على مشارف بيروت، وأخيراً وليست بالأخيرة أسقط في يد صاحب الفخامة الرئيس حامد كرزاي رئيس دولة أفغانستان عندما عادت جنود طالبان تمعن قتلاً وجرحاً في الجيوش الأوربية الغازية لبلادهم حينها خرج صاحب الفخامة شاكياً أحواله وأحوال الفاتحين من أعوانه وما نالهم، فما كان من صاحب الفخامة وعلى نظر العالم أجمع وفي مشاهير القنوات إلا أن بكى بكاء اليأس من العافية المشارف على الهلكة الواقع أسيراً في يد العدالة، يا لها من دموع لو كان معها عويل!
أيها الخلص من أبناء أمتي المسحوقة: ما المانع يا دعاة الإصلاح أن تعمم ثقافة البكاء من أجل التغيير المحمود، حتى إذا تمرست النخبة على حسن البكاء، وأحسنت استدعاءه من الناس، خرجنا نحن ونساؤنا وأولادنا في الطرقات نبكي لصلاح حالنا! عل قلباً بقيت فيه ذر نخوة يكف عن البطش بنا وبعقيدتنا وبمقدراتنا!
قال كاتبها: فلما استفقت من هاجسي صدقت أن لليقظة أحلاماً قد تكون أعجب من أحلام المنام، وخشيت أن يصدق صاحبي أن بكاء المستضعفين والمقهورين يستدر عطف الظلمة الجائرين، وكان ما خشيت لأن صاحبي هداه الله حسن الظن حتى بالشيطان الرجيم، يا صاح: إن هؤلاء ليسوا من الشياطين الذين تعرف غفر الله لك إنهم من مردة الشياطين وهم بكل صراحة عراة من العواطف النبيلة! يا صاح: كف عن هذه السذاجة فإنه ليس للحجارة عواطف، وكذا ليس للذئاب قلوب، وبالتأكيد ليس للثعالب عهود.
قال صاحبي: وما السبيل إذن؟ قلت: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) حتى يغيروا ما بأنفسهم من الذنوب والمعاصي إلى التوبة والطاعة، ومن الخور والعجز إلى علو الهمة والعزيمة،ومن تلمس العزة في التبعية إلى التماسها في الخصوصية، ومن الاشتغال بسفاسف الأمر إلى الاشتغال بمعاليها، ومن الفوضى والارتجال إلى التأمل والتخطيط، ومن العمل في مشاريع متباينة إلى العمل في مشروع مستوعب، ومن الاستغراق في الوسائل والمراحل إلى تحقيق الأهداف والأصول، ومن التفرق والتشرذم إلى الاعتصام بالوحدة الإسلامية.
قال صاحبي: أيكون هذا أم أنه من نسج الخيال؟ قلت: كلا إن في الأمة الإسلامية رجالاً كمَلاً ونساء، رجالاً ونساء يرخص كل غال ونفيس لديهم ، من أجل الذود عن دينهم وأمتهم، كل بما مكنه الله تعالى من القدرات، شعارهم الصدق، وسيماهم العمل الصالح، وعناوينهم الابتسامة الحانية، وميادينهم الإصلاح المحمود بكل مفرداته، يسعون جاهدين للخروج بهذه الأمة من صحراء التيه إلى العزة والكرامة، الكرامة الدينية والدنيوية، إنهم دعاة صدق لمفهوم الأمة الإسلامية من جديد لا الشرق الأوسط الجديد.