وثيقة جنيف .. جهد لإنقاذ "إسرائيل" ولغم في أرض المقاومة
7 شوال 1424

"المقاومة الإسلامية بما تملك من رصيد عقائدي لا تعرف الصفقات على حساب الحقوق المشروعة ، فهي لا تعرف الالتقاء في منتصف الطريق الممتدة بين الحقوق الإسلامية المشروعة و أهداف النزوات العدوانية لقوى الشر ، فالالتقاء في منتصف الطريق يعني التنازل عن حقوق إسلامية مشروعة لصالح أعداء الله ، و هذا يعني أن المقاومة الإسلامية لا تنهزم سياسياً أيضاً ، و هذا يضع العدو أمام معادلة جادة و واضحة، إما إعطاء الأمة حقوقها كاملة ، أو استمرار المواجهة و الاستنزاف الذي لن يتوقّف ، و استقرار هذه المعادلة في وجدان العدو يجعله أقرب للانهزام منه للثبات". الدكتور/ عبد العزيز الرنتيسي (أحد أبرز قادة حماس) .<BR><BR>تلك هي القاعدة التي ينطلق منها الإسلاميون المقاومون في فلسطين , وثمة قاعدة "اللاقاعدة" التي باتت تحكم تحركات "أفراخ السلطة الفلسطينية"، فكل ثابت في عقيدتها هو خاضع لمتغيرات الأحداث , وكل "مقدس" لابد وأن يذعن لمنطق "فن إنجاز الممكن" , والدين القمين بالبذل له هو "دين البراجماتية" التي عادة ما تكون شخصية أكثر منها شعبية .<BR><BR>وعلى قاعدة "اللاقاعدة" الآنفة كانت "وثيقة جنيف" التي وقعت في غرة ديسمبر 2003م، ووقعت مبدئياً أواخر شهر أكتوبر الماضي بين جانبين أحدهما فلسطيني شبه رسمي , أبرز ممثليه، هم: جبريل الرجوب (مستشار الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات) وياسر عبد ربه (وزيرالإعلام السابق) ، هشام عبد الرازق (الوزير السابق لشؤون السجناء) ، نبيل قسيس (وزير التخطيط السابق)، و جملة من ممثلي حركة فتح .<BR><BR>والآخر صهيوني , أبرز من فيه هم رئيس حركة "شاحر" يوسي بيلين (وزير العدل السابق) ، و (الرئيس السابق لحزب العمل) عمرام متسناع ، و (المتحدّث البرلماني السابق) أفرام بورغ (حزب العمل) ، و (رئيس هيئة الأركان السابق) أمنون شاحاك ، و العميد جيورا عنبار ، و حاييم أورون (حزب ميرتس) ، و أعضاء كنيست آخرون، بالإضافة إلى الدكتور أسامة الباز مستشار الرئيس المصري حسني مبارك، ومندوب عن ملك المغرب محمد السادس، والرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر مهندس اتفاقات كامب ديفيد (1979م)، وسيمون فيل الرئيسة السابقة لبرلمان أوروبا.<BR><BR>وتمحورت وثيقة جنيف حول : <BR>· موافقة الجانبين الفلسطيني والصهيوني على إقامة "دولتين" إحداهما "إسرائيلية" كاملة السيادة والأخرى فلسطينية منزوعة السيادة مجرّدة من السلاح ما عدا قوى الأمن الفلسطينية التي من واجبها حفظ الأمن والقضاء على ما سُمّي بالمنظمات (الإرهابية)، ومحاربة التحريض في وسائل الإعلام وفي المناهج الدراسية وفي خطب الجوامع , فيما تمكن الكيان الصهيوني من بسط سيطرته على الأمن و على معابر الحدود والمطارات وعلى الاستيراد والتصدير، والسيطرة على مصادر المياه وتطبيق القوانين والسيطرة على الأجواء بحيث يُسمح للطائرات الحربية (الإسرائيلية) بالتحليق في الأجواء الفلسطينية , كما تحافظ (إسرائيل) على وجودٍ عسكريٍ في مناطق غور الأردن .<BR>· اختزال حق العودة الفلسطيني في أحقية اللاجئين بالعودة إلى دولة فلسطين "الجديدة" (فلسطين 67 أو دونها بالأخذ بالاعتبار واقع الجدار الأمني) ، أو الحصول على تعويضات مع البقاء في الدول المضيفة ، أو الهجرة إلى بلدٍ ثالث ، ولكن لا يسمح لهم العودة إلى قراهم الفلسطينية وبيوتهم الأصلية التي طُرِدوا منها عند قيام ما يسمى بدولة إسرائيل (فلسطين 48) ، كما يحقّ لهم تعويضات عن قيمة الأرض التي فقدوها بعد تثمين هذه الأرض حسب سعرها سنة النكبة مع إجراء تعديلٍ ليوافق القيمة الحالية لها" . <BR>· الإشراف الدولي على "أماكن العبادة" في القدس مع اعتبار القدس مدينة تمثل عاصمتي "الدولتين" معتبرة تنازل (الإسرائيليين) عن سيادتهم في الحرم مقابل تنازل الفلسطينيين عن حق عودة اللاجئين إلى (إسرائيل) , مع احتفاظها بالسيطرة على الحائط الغربي و النفق المؤدّي إليه و السيطرة على المقبرة اليهودية في جبل الزيتون و مقبرتهم في الحي الألماني و حرية إقامة الاحتفالات الدينية اليهودية في القدس . <BR>والواقع أننا لا نملك القفز فوق هذه الوثيقة ولا المناخ الذي وضعت فيه باعتبارها محطة تفاوضية هامشية في مسيرة الصراع داخل فلسطين ؛ كونها صادرة عن جهات غير رسمية من الجانب الصهيوني على الأقل وشبه رسمية من الجانب الفلسطيني , سيما وأن الكيان الصهيوني لم يحترم حتى معاهداته واتفاقاته الرسمية السابقة بما فيها اتفاقية "أوسلو" التي وقعها مسؤولون رسميون على أعلى مستوى من كلا الطرفين الفلسطيني والصهيوني وحظيت برعاية وضمان الولايات المتحدة الأمريكية , ذاك أنها تكتسي أهمية خاصة كونها أطلقت في ظل معطيات لا تخدم الجانب الصهيوني , وبالتالي أصبح لزاماً الاعتراف بأن أي منزلق تفاوضي هو رغبة صهيونية ملحة للخروج من أتون الانتفاضة أكثر منه حاجة فلسطينية للخلاص من تبعات الانتفاضة , وهو ما يجعل هذا المنعطف الذي تعبره القضية الفلسطينية بالغ الأهمية وبحاجة إلى إشارات طريق , يمكننا أن نجملها فيما يلي :<BR>[] ثمة مطبات عديدة في أرضية هذه الوثيقة تتضح في :<BR>1ـ تمنح هذه الوثيقة اعترافاً مجانياً من الطرف الفلسطيني المفاوض بما يسمى بحق اليهود في القدس وفي الوطن الفلسطيني من دون أي مقابل حتى الآن . <BR>2 ـ يتنازل الفلسطينيون عملياً بموجب هذا الإعلان عن حق العودة لمعظم الخمسة ملايين لاجئ فلسطيني تحت عنوان صيغة لتحقيقه , ويختزل حقوق الكثير من اللاجئين في مجرد تعويض مادي عن "الوطن" , وليت اليهود هم الذين سيعوضون ؛ بل سيتكفل بدفع التعويضات صندوق أممي يساهم فيه الكيان الصهيوني , ويتوقع أن تتكفل الدول العربية بمعظم قيمته كالعادة !<BR>3 ـ تتسم وثيقة جنيف بالغموض فيما يخص المسجد الأقصى ومنطقة الحرم , وتترك تفسير شكل الإشراف عليه مائعة وغير محددة .<BR>4 ـ تلزم الوثيقة المسلمين بالاعتراف بدولة "إسرائيلية" لليهود , فيما لا تمنح الحق ذاته للمسلمين , ومعروف أن أياً من المفاوضين لن يجرؤ على تبني دولة تمثل المسلمين في فلسطين المحتلة . <BR>5 ـ تمنح الوثيقة الكيان الصهيوني السيادة وتنزعها من الدولة الفلسطينية التي لن يكون لها على المستوى العسكري الحق في إنشاء جيش وتشرع لاستباحة المجال الجوي الفلسطيني , ومن الناحية الاقتصادية ؛ فإن أهم مقومات نجاحها سيبقى في يد اليهود إذ يشرف كيانهم على التصدير والاستيراد والمعابر الحدودية .<BR>[] الوثيقة وردود الأفعال الصهيونية تؤشر إلى شكل المزاج العام داخل الكيان الصهيوني , فهو من جهة أضحى تواقاً إلى حل المشكلات الأمنية والاقتصادية والنفسية التي أغرقه فيها شارون وأركان حكمه ؛ بيد أنه من جهة أخرى لا يريد أن "يكافئ" الفلسطينيين على عملياتهم الناجحة،<BR>فحين تشير استطلاعات الرأي إلى وجود نحو 65% من الصهاينة يؤيدون تفكيك غالبية المستوطنات والانسحاب من معظم الأراضي المحتلة عام 67م، وإقامة دولة فلسطينية، في إطار حل تفاوضي متفق عليه بين الجانبين , فإن ذلك لا يعبر بالضرورة عن رغبة اليهود في تقديم "تنازلات" للفلسطينيين تحت وطأة ضربات المقاومة الفلسطينية , وهو ما أماطت عنه نسبة المؤيدين لهذه الوثيقة التي جرى تمريرها على يد اليسار الصهيوني والتي لم تتجاوز أول الأمر حد الـ 40% قبل أن تتراجع بعد ذلك إلى 27% ثم تعود إلى الارتفاع مجدداً لدى توقيعها. <BR>[] لا يعرف لحد الآن صلة شارون بهذه الوثيقة برغم تنديده بها مراراً باعتبارها "أسوأ من أوسلو" على حد وصفه التي قال عنها آنفاً: إنها لم يعد لها وجود، فثمة من يتوقع لهذه الوثيقة الاستمرار باعتبار أن أوسلو ذاتها جاءت من خلال قناة تفاوضية سرية سلكها حزب العمل أثناء وجود حكومة ليكودية بزعامة شامير .<BR>[] تفرض الوثيقة نفسها باعتبارها صهيونياً الحل الناجع بعدما أعجزت حكومة شارون المتشددة الحيل مع الانتفاضة , ولم يعد بإمكانها "أبدع مما كان" , وفي هذا السياق يمكن فهم الدور التبادلي لليكود والعمل , فالأخير أفسح الطريق لشارون بتنسيقه معه في زيارة المسجد الأقصى التي فجرت الانتفاضة الفلسطينية ؛ ما أدى إلى حلول شارون مكان باراك في رئاسة الحكومة , وشارون يغض الطرف عن قيام مفاوضين يساريين بسلوك قناة تفاوضية ثم ينتقدهم علناً , وهو بهذا يترك الباب مشرعاً أمام إطلاق اليسار بالون اختبار للموقف الفلسطيني من الحل "السلمي" , مثلما عمد شارون هو نفسه من قبل إلى إطلاق بالونات اختبار لقياس ردود الأفعال الفلسطينية والسورية والعربية بتنفيذه محاولة اغتيال فاشلة (عمداً على الأرجح) للشيخ أحمد ياسين , وضربه أهدافاً وهمية في سوريا (عين الصاحب) .<BR>[] تشير معظم الدلائل إلى أن الكيان الصهيوني ماض إلى حتفه بإيغاله في سفك الدم الفلسطيني ؛ مستدعياً ردات فعل مقاومة من قبل الفلسطينيين أضحى الكيان الصهيوني لا يطيق تبعاتها الأمنية والاقتصادية والنفسية , فالجيش لم يعد قادراً على القتال النظامي بكفاءة إذ ظل منهكاً في اقتحام المدن والقرى الفلسطينية ,والأجهزة الأمنية فشلت في تحقيق الأمن للصهاينة بعد أن قتل منهم ما يقارب الألف وفق المصادر الصهيونية، والبطالة والركود يكادان يفتكان بالاقتصاد الصهيوني , والهجرة العكسية بلغت حداً مخيفاً للصهاينة (أكثر من 750 ألف يهودي غادروا فلسطين خلال سني الانتفاضة)، وبالتالي كان على اليسار أن يطرح نفسه كمنقذ للكيان الصهيوني من الانهيار , وكالعادة وجد من الفلسطينيين من هم على استعداد لأن يكونوا مطية لطموحاته . <BR>[] لا يتفهم معظم الفلسطينيين لماذا يظل قيام الفدائيين بعملياتهم "الاستشهادية" خروجاً عن الموقف الفلسطيني الموحد في نظر السلطة وجوقة إعلامها , ولا يمثل التفاوض السري بدون أي تفويض رسمي من قبل مسؤولين نافذين في فتح وضعية مشابهة ؟! <BR>وقعت الوثيقة منذ سويعات قليلة لتصبح مؤشر الساعة الأبرز على سأم العدو وإرهاقه من كثرة ضربات المقاومة الفلسطينية من بين عشرات من التصريحات والمواقف الصهيونية المعلنة التي تومئ جميعها إلى أن الانتفاضة تخطَت طريقها الطموح للنصر بعيداً عن لوثة وتلوث قنوات المفاوضات , بعد أن عجزت حملات القمع في غزة وجنين وبيت حانون ونابلس ورام الله وبيت لحم وغيرهم عن وأدها. <BR><br>