العلماء المستقلون والمرحلة القادمة
20 شوال 1424

الباحث في تاريخ بلدٍ كالسعودية، لا يمكن أن تخطئ عينه المكانة التي شغلها العلماء فيه، والتأثير الذي أحدثوه في مساره المتسق مع طبيعة الدولة حينذاك، لكن مع دخول البلد طور الدولة الحديثة النسبي في الدولة السعودية الثالثة، ومع التغيرات الهائلة التي واكبتها إقليمياً وعالمياً، أخذت مكانة العلماء وأدوارهم الاجتماعية والسياسية تتقلص، لظهور أشكال متنوعة من المؤسسات والأجهزة والتخصصات الجديدة والضرورية للتعامل مع الأعداد الكبيرة من السكان وتنوع اهتماماتهم وأنشطتهم، ومع تعقيدات الحياة المعاصرة وتشابك علاقاتها ومصالحها.<BR><BR>وكان لاكتشاف النفط وتدفق الثروة أثر كبير في سرعة التحولات التحديثية الشكلية التي انساق وراءها البلد، دون إعطاء فرصة كافية لتفهم هذه التحولات ومحاولة تطويعها وأقلمتها مع طبيعة البلد المحافظة، ودون تنبهٍ لما تحدثه من خلطٍ في التمييز بين الحق والباطل أو الخطأ والصواب في السلوكيات والمفاهيم، ودون محاولة جادة لاستيعاب النافع منها واستبعاد الضار.<BR> <BR>الطبقة الأولى من العلماء التي واكبت نشأة الدولة الثالثة، حافظت إلى حدٍ ما على الدور شبه الشمولي للعالم في تاريخ البلد، فعلى سبيل المثال كان دور العلامة محمد بن إبراهيم يتجاوز بعده العلمي والقضائي المتعارف عليه إلى السياسي والاجتماعي في كثير من المواقف، وكذلك كان دور الشيخ عبد الله القرعاوي في المنطقة الجنوبية، والشيخ حمود بن حسين الشغدلي في منطقة حائل، أو غيرهم في بقية المناطق _رحمة الله عليهم أجمعين_ ولذلك تجد الانشغال بالشأن العام يطغى في هذه الطبقة على جوانب التأليف والتصنيف.<BR><BR>لكننا نجد أن الطبقة الثانية من العلماء، والتي ضمت الشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ عبد الله بن حميد، والشيخ محمد ابن عثيمين، والشيخ عبد الرزاق عفيفي، والشيخ حمود التويجري، وغيرهم _رحمهم الله جميعاً_ نجدها تستمر في أداء دور الإفتاء والقضاء، ولكن من خلال مؤسساته المؤطّرة باللوائح والنظم الرسمية، التي تبلورت في تلك المرحلة مما جعل دورها وتأثيرها الأوسع محكوماً بالقواعد التي تهيمن على العلاقات بين الأجهزة المختلفة في الدولة، ولأنها لم تشأ أن تصطدم بهذه الأطر التنظيمية، فلقد حاولت وسعها الاستمرار بدورها الأوسع من خلال هذه الأطر، ولذلك نجد أن هذه الطبقة قد انصرفت بدرجة كبيرة إلى التعليم والتصنيف دون إنقاص من اهتمامها بالشأن العام، وخصوصاً من الشيخ ابن باز _رحمه الله_ لطبيعة منصبه.<BR><BR>ولقد نشأ تبعاً لذلك الدور العلمي طبقة ثالثة واسعة من العلماء وطلبة العلم الذين تعددت تخصصاتهم واهتماماتهم ومسؤولياتهم، وهم الذين يعاصرون الآن المرحلة الحالية الحرجة من تاريخ البلد، والتي لا تماثلها مرحلة ما في الصعوبة والحرج عدا مرحلة التأسيس الأولى.<BR> <BR>ولقد تعرضت هذه الطبقة في مجملها لنظم التعليم الشرعي الحديثة، كما تابعت واطّلعت على علوم وفنون وثقافات العصر الأخرى بدرجاتٍ متفاوتة، كما عاصرت العديد من الأحداث والتحديات والأزمات التي واجهتها الأمة الإسلامية بعامة، وتبعاً لذلك تنوعت اجتهادات ومسارات هذه الطبقة. ولغرض الإجمال يمكننا حصر هذا التنوع في اتجاهين بارزين، الأول: اختار العمل من داخل المؤسسات الرسمية حفاظاً على تماسك البناء ولو كان في ذلك تقليصاً للدور والمكانة العلمية، والآخر لم يجابه الأوضاع الرسمية، لكنه أيضاً لم يعمل من خلالها؛ لأنه رأى في استقلالية المرجعية العلمية ومحافظتها على دورها العلمي الحر المعروف من مثلها شرعياً وتاريخياً، وفي تحررها من المظلة الرسمية، ما يكون أسلم لها وللجهات الرسمية، وأدعى لبقاء أثرها التوجيهي الاجتماعي التربوي العام، واستمرار تأثيرها السياسي والاقتصادي والفكري الثقافي، متحركةً في ذلك من منطلق الاحتساب العام المنضبط بضابط الشرع القويم، والقادر على مناصحة الحاكم أو أجهزته ومؤسساته، وتسديد اجتهاداتهم بالسبل والطرق المرعية، وساعيةً إلى ترشيد أي آراء معارضة داخل المجتمع، وإلى امتصاص حماسها وتوجيهها للقنوات التي يفترض أن تصنعها وتطالب بها المرجعية العلمية. <BR><BR>ولقد كانت الفوارق بين الاتجاهين غير ظاهرةٍ، بل كان الاحترام والتقدير بينهما سائداً ولا يزال، حتى وقعت أحداث اجتياح عراق صدام للكويت وما تلاها من مضاعفات، مما اضطر بعض أطراف الاتجاه الثاني الذي يمكن لنا أن نصفهم بالعلماء المستقلين للتصريح العلني بمخالفته لاجتهاد المؤسسة العلمية الرسمية، وكان هذا الموقف لضخامته ومفصليته في تاريخ ومسيرة العلماء المستقلين سبباً ومدخلاً للتوسع في طرحٍ عامٍ وتفصيليٍ جديدٍ على الساحة، إذ يبتعد عن الطرح العلمي النظري إلى الجانب التطبيقي الواقعي، وعن الفتاوى الفردية إلى المسائل ذات الشأن العام. أحدث ذلك ارتفاعاً وارتقاءً في اهتمامات الناس وقدراتهم على الحوار والنقاش، والمنصف لا بد أن يحسب لهذه المجموعة دورها الكبير في هذا المجال.<BR>وكان لهذا التجديد للدور الأوسع للعلماء انعكاساتٌ متباينة، فهو وإن كان قد حقق حضوراً وقبولاً شعبياً واسعاً، وأثبت أن الريادة العلمية لا تصنعها فقط المناصب الرسمية إنما أيضاً تصنعها المواقف الرصينة في الأوقات الحرجة، إلا أنه أثار حفيظة الأطراف التغريبية في البلد وكان أن شنّت عليه حملةً مركزةً اشترك فيها عدد من الرموز البارزة لهذه الأطراف.<BR><BR>وفي نفس الوقت أغضب شريحة من المنتسبين للعلم والدعوة تحرص دائماً على الارتباط بالمؤسسة العلمية الرسمية - وهي منها براء- وتحاول أن تلزم هذه المؤسسة باجتهاداتها وقناعاتها، فشنّت هذه الشريحة حرباً حقيقية، انتهت بتأليب السلطة السياسية في البلد على العلماء المستقلين وتبني إيقاف هذا الاتجاه عن الاندفاع في طروحاته العامة.<BR>الآن وبعد إطلاق اتجاه العلماء المستقلين في مدة لاحقة، ومع ضخامة التحديات والمسؤوليات الجديدة، يجد العلماء المستقلون أنفسهم أمام واقع صعب ومعقد.<BR>فالإيقاف السابق وعدم التعاطي الإيجابي مع مبادراتهم السابقة، و انتهاج مسار التدرج البطيء مرةً أخرى حرصاً على ألا يساء فهم دوافعهم في الطروحات العلنية السابقة، والهامش المحدود جداً الذي يتاح لهم من خلاله التواصل مع شباب الدعوة المتحمسين أو غيرهم، والتضييق الذي تعرضت له برامج الدعوة بعامة، واستغلال الأطراف التغريبية لهذه الأجواء المواتية لهم في تسريع برامجهم المصادمة لقيم المجتمع العميقة من خلال الفرص المتعددة التي يحظون بها في البلد؛ كل ذلك ساعد على تنامي الأطراف الانفعالية المتعجلة في الوسط الدعوي، ووفّر لها ظروفاً وتحولاتٍ جديدةٍ مكنتها من إقناع أعدادٍ متزايدةٍ بأن الحل العسكري هو الحل الأمثل، وخصوصاً أنها قرأت مدة ما بعد الإيقاف للعلماء المستقلين على أنها قعود. <BR>فأفاق الجميع على وقع ضربات نيويورك وواشنطن، ولا يزال الجميع منشغل بتطورات هذا الحدث وانعكاساته.<BR>وفي ظل هذه المستجدات وتكرُّر التأثيرات والتدخلات الرسمية تضاءل الدور الذي يمكن أن تلعبه المؤسسة العلمية الرسمية، وتزايد الدور المنتظر والمطلوب من العلماء المستقلين، وبدؤوا بطرح العديد من المبادرات لا تختلف في الجوهر عن رسالة طروحاتهم السابقة، لكنها تختلف في الأسلوب والآلية بعد الاستفادة من التجربة السابقة.<BR><BR>بطبيعة الحال الجمهور الآن غير الجمهور السابق، والظروف والأوضاع غير سابقتها، و التأثير سيكون أقل مما كان عليه في المدة السابقة لأسباب يطول شرحها، لكنهم مع هذا وجدوا الحاجة ماسةً للتركيز على المسلمات الكبرى التي اختلطت في ظل الحرب الصهيوأمريكية على الإسلام، ومدافعة أذنابهم في الداخل، وتوجيه الأوساط الدعوية لمراعاة المصالح والمفاسد، وإدراك معاني النصر والهزيمة الحقيقية، وفهم السياسة الشرعية والصبر الشرعي، والحذر من الاختلاف والتفرق والتحذير من الاستقلال بالاجتهاد في الأمور العامة. تحملوا كل هذه التبعات وحاولوا وسعهم القيام بها حسب ما أتاحته لهم الأوضاع الصعبة التي يحاطون بها، وهذا ليس دفاعاً انحيازياً مجرداً بل هذه مقالاتهم وبياناتهم تشهد بذلك.<BR> <BR>ورغم هذا لم يسلم اتجاه العلماء المستقلين من الخصوم كذلك، لكنه هذه المرة ليس من المنتسبين للمؤسسة العلمية الرسمية -وهم الأبعد ما يكونون عنها- ؛ لأن المرحلة قد تجاوزت هؤلاء بكل بساطة وتبين أنهم معضلة للبلد وللجهات الرسمية التي دعمتهم من قبل، إلا أن فريقاً جديداً من فضاء العلم والدعوة الواسع بدأ يصرِّح بمخالفته لاجتهادات العلماء المستقلين وبمحاربة وتسفيه كل مبادراتهم وأنشطتهم مستنداً في ذلك لا إلى المؤسسة العلمية الرسمية، بل في مفارقة مبكيةٍ مضحكة إلى المؤسسة الليبرالية الواسعة النفوذ في البلد، وخصوصاً ذراعها الإعلامي.<BR><BR>وفي تقدير المتابعين لمسيرة العلماء المستقلين أن خطورة هذه المجموعة أشد من سابقتها؛ لأنها ترتكز على منطلقات فكرية وشبهات عقلية تتفاوت حدتها بين طرف وآخر، وبين معتدل ومتشدد، وتستخدم مصطلحات الاستنارة والتجديد والتسامح والانفتاح وغيرها من المصطلحات التي أرهقت المسيرة الدعوية في مناطق عربية أخرى -غافلين عن أنهم يرددونها في الوقت الضائع- ، وخصوصاً أن تأثرها بالمؤسسة الليبرالية وتناغمها معها قصداً أو اجتهاداً غير مقصود، أتاح لها سعة انتشار وقدرة تأثير أكثر من سابقتها، مما جعل الأطراف الليبرالية التغريبية تختفي وراء هذه الفئة وتنكئ عليها لمواجهة العلماء المستقلين في الأعم الأغلب، وتلمِّع بعض أسمائها البارزة فتبرزهم فضائياً وتشيد وتحتفي بهم صحفياً، وتحاول بذلك أن تطرح النموذج الإسلامي الذي تريده أن يسود في البلد، وتجعله يواجه العلماء بدلاً منها، ولا تضطر للمواجهة بنفسها إلا عند الضرورة.<BR><BR>لكن التطورات المتلاحقة في البلد مؤخراً، أصبحت هي التي تدفع بالعلماء المستقلين إلى الواجهة مرةً أخرى وتفرض عليهم أدواراً متزايدة، وتطلب منهم طلباً مباشراً بدل أن كانوا يجاهدون سلمياً لتحصيل مثل هذه الفرص سابقاً ولا يزالون، تطلب منهم على المستوى الشعبي والرسمي، على الرغم من التشويش الذي يمارسه هذا الطرف أو ذاك. <BR>والغريب أنه في نفس الوقت لا يزال التردد قائماً من منحهم فرصة القيام بدورهم الواسع، مما يوحي أن المطلوب منهم رسمياً هو فقط هذا الدور الجزئي المؤقت.<BR>وهذا مما يزيد ا لمسؤولية على قادة هذا الاتجاه، ويعيد إلى الواجهة أيضاً الدور والمكانة التاريخية المفترضة للعلماء، لكن بطبيعة الحال وحتى تصبح الجهود مثمرةً، لا يقبل أن تكون أنماط وأساليب هذا الدور والتأثير الواسع كما كانت سابقاً، بل لا بد أن تتأقلم وتنسجم مع المتغيرات العصرية الحديثة، وطبيعة البناء الحديث للدول ومؤسساتها وأنشطتها، وتعقُّد العلاقات والتفاعلات الإقليمية والدولية.<BR><BR>بمعنى أن الدور "الكاريزمي" للعالم الرمز يفقد وهجه في هذه المراحل الحضارية والمدنية المتشابكة، لكنه يمكن استبداله بالدور القيادي للعلماء المستقلين الذين يفترض أن يصنعوا هم ومن حولهم - من القدرات الفكرية والعملية بتخصصاتها المختلفة- مؤسسات حقيقية تنقل رسالة العلماء العلمية والاحتسابية والإصلاحية العامة إلى دائرة أوسع باسم المؤسسة التي يصنع واجهتها الجماهيرية العالم الرمز الذي يمثلها لكنه لا يحتكر أبداً قراراتها ومواقفها وبرامجها، بل يؤسس للمنهجية العلمية الشرعية في التعاطي مع المتغيرات، ويتيح المجال لكل صاحب تخصص ورأي ملتزم بالمسلمات ومحترم لها في ظل الأجواء العلمية والأخلاقية والسلوكية التي يفترض أن المسيرة العلمية والدعوية قد أشاعتها نظرياً، وآن أوان تنفيذها عملياً وفي المجالات العامة، كما يتيح المجال لمد الجسور والعلاقات والتواصل مع كافة مؤسسات وشرائح المجتمع،وذلك لردم الهوة المصطنعة.<BR> <BR>وهذه المؤسسات - المنتظرة بكل إلحاح - ستساعد _بتوفيق الله_ في تعميق وضبط العملية الدعوية والاحتسابية والعلمية، وفي توسيع آفاقها وأبعادها وتطبيقاتها، وستساهم _بإذن الله_ في استيعاب وتفعيل وتوجيه الطاقات المتحفزة من الشباب المتألم لواقع الأمة العصيب، وهي وإن تعددت كما يتوقع لها، فيجب أن تتكامل وتتعاون وتنسق فيما بينها لحيثيات لا يمكن أن تجتمع لغيرها من المؤسسات، ولعل أهم هذه الحيثيات هو توحد الخصوم الذين يواجهونها بموقف واحد رغم اختلاف اجتهاداتها، وينتظر منها أن تتجاوز المرحلة السابقة وتجاربها المرة إلى غير رجعة. <BR>وحينذاك سيكون المشروع الدعوي الإصلاحي واسع الأرضية، ولا يدور في فلك الرمز أو العالم بذاته، بل يدور في فلك الرسالة المتفق عليها والقيم الأساسية التي يدعى إليها، ولا يمنعه ذلك من تداول الرأي داخل المؤسسة الواحدة أو بين المؤسسات المتنوعة حول المسائل الاجتهادية في خضم المتغيرات الكثيرة التي يواجهها.<BR>وبهذا الاتساع في دائرة التبني للمواقف والرؤى الاجتهادية الشورية، يمكن الانتقال بمكانة العلماء وتأثيرهم إلى مرحلة الحشد والتوجيه الجماهيري العملي الميداني المدروس والمنضبط بضوابط العمل المؤسساتي والقانوني والمتعدد المجالات والأنشطة، وسيتمكنون من التناغم مع والتأثير في مرحلة التغيير والإصلاح التي يبدو أن البلد مقبلة عليها، ويخرجوا من حالة التهميش التي يحاصرون بها من هذا الطرف أو ذاك، ويفترض في هذه المرحلة أن تتفادى سلبيات الحشد الجماهيري النظري العاطفي الذي ثبت بالتجربة أنه لا يوصل لنتيجة عملية مؤثرة إذا اقتصر عليه لوحده، بدون آلية حقيقية للتفعيل والتوظيف.<BR>فهل يا ترى سنشهد بروزاً لهذا النوع من الدور والتأثير من العلماء المستقلين؟ إن هذا في ظهر الغيب لكن الأمل في هؤلاء العلماء - بعد رجاء الله والتضرع إليه- كبير. والمسؤولية كذلك تقع على كاهل الكثيرين من طلابهم ومحبيهم ومتابعي أخبارهم وعلى أصحاب التخصصات المختلفة الذين ينبغي أن يتكاتفوا مع هذه المرجعيات العلمية المتفق عليها، ليدفعوا ما وسعهم الأمر في سبيل الوصول لهذا المستوى من العمق والإيجابية، وفي سبيل توفير هذه الأجواء وإقناع الأوساط المحيطة بأهمية وجدوى هذه المؤسسات. فدورها المدروس والمنضبط سيبقى بعد رحمة الله هو صمام الأمان الذي سيحقق التوازن وسيحفظ البلد _بإذن الله_ من الانجراف مع تيارات الغلو من هذا الطرف أو ذاك.<BR><br>