المآذن حرابنا، والقباب خوذنا، والمساجد حصوننا، والمصلون جنودنا" هذه أبيات تركية للشاعر التركي محمد عاكف ، كانت تلاوتها في مدينة سعرت التركية من قبل رجب طيب أردوغان سبباً في دخوله السجن لمدة عشرة أشهر، وحين كان الرجل بطريقه لدخول السجن صاح في الآلاف الذين كانوا يودعونه إثر صلاتهم في مسجد محمد الفاتح : "أستودعكم الله ، هذه الأنشودة لن تنتهي هنا، سأعمل بجد داخل السجن، وأنتم اعملوا خارجه كل ما تستطيعونه" .
مضت شهور سجن الرجل طويلة، وتسللت روحه الطموح من بين قضبان السجن إلى أتباعه لتزرع فيهم الأمل بغد أفضل، وبالفعل فقد نجح أردوغان وأنصاره في إحالة حلمهم بحكومة لها توجه إسلامي إلى حقيقة حين فاز حزب العدالة والتنمية المسلم الذي يترأسه أردوغان بأكثرية مقاعد البرلمان التركي بحصوله على 363 مقعد من أصل 550 مقعداً ، متقاسمًا بذلك مقاعد البرلمان مع حزب الشعب اليساري الأتاتوركي الذي حاز المقاعد المتبقية ، وذلك في الانتخابات البرلمانية والبلدية التركية التي جرت يوم 3/11/2002م وصوت فيها أكثر من 27 مليون مسلم تركي لصالح الخيار الإسلامي . (66 % من عدد مقاعد البرلمان) .
بعض الإسلاميين هلل لنجاح الحزب الإسلامي واستبشر خيراً بحكم إسلامي لدولة الخلافة من جديد، وبعضهم هالهم أن يعلن الحزب "الإسلامي" أول ما يعلن عن أنه حزب "علماني" يضع في صدر أولوياته أن يلحق بركب أوروبا !!
وهؤلاء وأولئك أعياهم الإحباط بعد أن فشل الحزب بنظرهم في إقامة حكومة إسلامية، وبعد أن "تورط" في دعم بعض خطط الأمريكيين في العراق، وبعد أن أبدى بعض التعاون مع الكيان الصهيوني، وبعد أن رأوه يهرول باتجاه انضمام الأتراك إلى الاتحاد الأوروبي، والواقع أن الحزب لم تكن أجندته السياسية تحمل هذا الطموح الذي يرنو إليه المتحمسون، بل إنه كان يتماهى في آليات تغييره للمجتمع ونظام حكمه مع تعريف السياسة ذاته، وهو "فن الممكن" أو "إنجاز الممكن" الذي تتشابك فيه المصالح مع المفاسد، ولا يمكن فصل بعضها في أحايين كثيرة عن بعض.
العدالة والتنمية دخل معترك السياسة، وهو يدرك تماماً أن "مجلس الأمن القومي" التركي هو الحاكم الفعلي في البلاد، وأن سلطات رئيس الدولة أعلى من سلطات رئيس الوزراء وإن بدا العكس، ويدرك أن الجيش ومافيا المال كلاهما يسيطر عليه بقايا يهود الدونمة و"حكماء الماسون" .
يدرك أيضاً أن اللاعبين الرئيسيين في تركيا يتجاوزون حدود المحلية يدرك أن الجيش التركي لم يترك كأضخم جيش في أوروبا من حيث العدد إلا بعد أن حاز ثقة الصهاينة والأمريكان والأوربيين . يدرك أنه يكاد ألا يقال في تركيا : "الله .. الله" من فرط ما تنبري منابر الإفساد بطريق إبعاد المسلمين عن دينهم، ويدرك أن التلفظ بكلمة الإسلام في تركيا كـ"مقوم" من "مقومات" الحضارة التركية هو أحد الموبقات الموجبة للسجن والحرمان من ممارسة السياسة . يدرك أن حديثه عن جهود حثيثة في اتجاه انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي أحد صمامات أمان بقائه في الحكم ومعول من معاول هدم الأتاتوركية في بلاد الخلافة، ويدرك أخيراً أن أحد أهم أوتاد استمرار حكومته هو النجاح في حل المعضلة الاقتصادية التركية التي فشلت جميع الحكومات العلمانية الائتلافية في حلها، بل ساهمت برعونتها في تفاقمها، فقد بلغت ديون تركيا أكثر من 200 مليار دولار، و تجاوزت نسبة البطالة حد الـ 20% قبل أن يعتلي حزب أردوغان سدة الحكم .
ولعل هذه النقطة هي أهم منجزات العدالة في تركيا خلال عام واحد فقط من حكمه لما يتسم به أعضاؤه من طهارة اليد، وحسن التخطيط، وجودة الإدارة، وصدق التوجه، والبعد عن مواطن الفساد المالي والخلقي، حيث انخفض معدل التضخم في العام الجاري إلى19.1% بعد أن كان حوالي34% في عهد الحكومة الائتلافية التي قادها يولنت أجاويد (زعيم حزب اليسار الديمقراطي) قبل تشكيل حكومة حزب العدالة والتنمية في18 نوفمبر من العام الماضي، وهذا المعدل هو الأقل منذ 27 عاماً، بالإضافة إلى نمو الاقتصاد بنسبة5% بينما كان قد انكمش في عام2002م بنسبة7.8 % ، كما انخفض سعر الدولار أمام الليرة بعد تولي حزب العدالة والتنمية السلطة بنسبة تتراوح بين20% و30% ما يعد دليلاً على نجاح برنامج الإصلاح الاقتصادي التركي الذي تنفذه العدالة، وقد حظي أداء الحكومة التركية بإشادة وتشجيع صندوق النقد الدولي الذي يشرف على برنامج الإصلاح الاقتصادي في البلاد وعديد من المؤسسات المالية الدولية .
كما أن الحكومة التركية استطاعت بذكاء الالتفاف على المطالب الأمريكية بشأن السماح لتركيا بأن تكون جسراً لغزو الولايات المتحدة الأمريكية للعراق، ولم تسرع إلى مساندتها عندما غاصت أقدامها في أوحال دجلة . وأفرجت ـ ضمن عفو عام ـ على 1132 إسلامياً متهماً بممارسة أنشطة غير مشروعة، واقتصرت اعتقالات الداخلية التركية على 200 إسلامياً مقارنة بـ710 في العام الماضي.
وحكومة العدالة ـ فيما نلحظ ـ لم تتباه أول حدوث تفجيرات اسطنبول بمعرفتها بـ"الغيب!!" أول الأمر، بل تريثت ورفضت أن توجه التهم جزافاً لهذا الطرف أو ذاك ؛ لا بل جاوزت ذلك إلى تسريب أنباء إلى صحيفة يني شفق القريبة من العدالة مفادها أن الموساد ربما كان متورطاً في هاتين العمليتين في محاولة منها لصد هجمة تترية ضد الإسلام وأهله استناداً إلى تلك التفجيرات، زاعقة بأن تساهل العدالة بشأن الإسلاميين هو أحد أسباب عودة "الإرهاب" إلى تركيا .
هناك بالفعل من يريد الكيد إلى حكومة العدالة وإطاحتها في أي لحظة، سيما بعد أن أكدت آخر استطلاعات للرأي سبقت تفجيرات اسطنبول أن 43% من الأتراك يؤيدون سياساتها وتوجهاتها في شتى المجالات. وليست سياسة حزب العدالة وممارساته الحالية هي سقف طموحات المسلم في تركيا أو غيرها، فدون تمكنها أن تمثل الإسلام تمثيلاً صحيحاً مسافات طويلة، بيد أن السهام التي ترمى اليوم بصدر الإسلام حتى تكسر بعضها على بعض قمينة بأن تجعلنا لا نقف أمام كل جهد يساهم في حفظ الدين هنا أو هناك , حتى لو لم يتطابق مع طموحاتنا , وما على العدالة أخيراً إلا أن تتمثل قول الصادق المصدوق _صلى الله عليه وسلم_ :"...ولكن سددوا وقاربوا".