على هامش حادث الجمرات ..الموتى لا يتكلمون !
20 ذو الحجه 1424

الحمد لله على أقداره والشكر له على آلائه وإنعامه، وبعد: فقد تناقلت وكالات الأنباء خبر مضي نحواً من مائتين وخمسين حاجاً إلى ربهم، ولعل العزاء لأهلهم وذويهم في أن أمثالهم يبعثون ملبين، فقد صح عن ابن عباس _رضي الله عنهما_ أنه قال: بينما رجل واقف بعرفة إذ وقع عن راحلته فوقصته، فقال النبي _صلى الله عليه وسلم_: "اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبين ولا تحنطوه ولا تخمروا رأسه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً".<BR>غير أن الناس في تعليقهم على هذا القدر النازل والحادث الأليم شط كثير منهم نحو إظهار الحادث في مظهر طبعي، زاعمين أنه ليس في الإمكان أحسن مما كان، وأن الخطأ الذي نجم عنه موت المئات يتحمل الموتى تبعاته، وربما حمّل بعضهم المطوفين وشركات الحج بعض هذه التبعات، وربما تبجح بعضهم بأن الحج في عصر النبوة لم يسلم من وفيات، في محاولة لتصوير حادثة موت وحيدة لرجل وقصته راحلته بحادث فاقه بخمسة وعشرين ضعفاً لأناس ماتوا أو أصيبوا تحت الأقدام، وكأنه من الطبعي الذي لاغضاضة فيه نمو الأخطاء وتفاقمها جيلاً بعد جيل!<BR>وربما غلب على تصور أصحاب هذا الاتجاه أن الموتى لايتكلمون وأن الصواب يستنبط برفع الصوت، وربما غاب عنهم نحواً من مليون شاهد عاقل منهم من وطأته الأقدام غير أن الله بلطفه مّد في آجالهم ونَسَأ في آثارهم.<BR><BR>وفي مقابل هؤلاء الذين اشتغلوا بالتبرير فئة أخرى ألقوا بالائمة على الدولة، بل دعا بعضهم تحت دعوى عدم احتكار المناسك والمشاعر، إلى تكوين لجان إسلامية من مختلف دول العالم لتنظيم أداء هذه الشعيرة، أو أن تكون دورية تشرف عليها دولة كل عام، وقالوا: إن المواقيت والمشاعر ليست حكراً على عشائر أهلها، بل هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن، وهذه كلمة حق ولكن ليس هذا وجهها، فإن المواقيت أياً كان وضعها وكيفما كانت إدارتها تبقى الحقيقة الشرعية أنها محل لإحرام أهلها ولمن أتى عليها كما هو واقع الآن.<BR><BR>ولو فرضنا جدلاً إمكان تحقق ما دعوا إليه وهو بعيد حسب معطيات الواقع فإنه كفيل بأن يزيد الطين بلة، فالإمكانات التي تملكها الدولة السعودية وتبذلها في سبيل تيسير الحج لاتملكها أغلب الدول الإسلامية، خاصة إذا وضع الجانب التوعوي والإرشادي في الحسبان.<BR>بل إن المتوقع من دخول أطراف أخرى حصول مزيد من الخلل في الجانب التنظيمي والإرشادي، نظراً لضعف الإمكانات، واختلاف التوجهات المذهبية والطائفية بل والدينية.<BR><BR>وعلى كل حال توقع تقصير غير المكلف في حماية جناب توحيد الحجاج والمعتمرين، أوتقصيره في صيانة بقية الدين وما بعده من الضروريات التي جاءت الشريعة بحفظها، ومنها: الأنفس المعصومة -هذا التقصير لو فرضنا أنه كان متحققاً فيما إذا لو أُوكِلت لصاحبه مهمة إدارة المشاعر والشعائر، لا يبرر بحال تفريط من أُنِيطَت به المُهمّة وإن كان الأكفأ.<BR><BR>قد يحسن بنا بل يتوجب علينا من الناحية التكتيكية أن ندعم الأفضل، وأن نقف مع الأولى إذا كان ثمة من ينازعه على أرض الواقع، نزاعاً يحتمل معه أن تفلت الأمور منه أو تصير به إلى غيره، أما والحال بعيدة عن هذا الواقع فلا معنى للمقايسة والترجيح بينه وبين غيره، ومن الخطأ جعل التكتيك استراتيجية وهدفاً منشوداً لذاته، بل لابد من تفحص الخلل ونقده نقداً بناءً للرقي بأفضل الموجود نحو الكمال الواجب شرعاً.<BR>وفي حالة رفضنا لهذا واقتصارنا على ترديد قولنا: "نحن أحسن من غيرنا"، فلن تزداد النار إلاّ مِلّة، ولو فرضنا أن هذه العبارة اليوم حقاً، فيوشك أن يأتي عليها يوم جراء اجترارها تكون فيه باطلة لايصح تردادها، وفضلاً عن هذا فإن الميزان الذي ينبغي أن تعرض عليه الأمور هو ميزان الشريعة، فيتعين علينا أن نضع نموذجها المرضي الآمرة به في كفة، ثم نقف على الأخرى وبعد ذلك نقايس، ومهما جعلنا النموذج المقاس عليه غير نموذجها كان البعد عن الشريعة مطرداً مع بعد النموذج المَقِيس عليه.<BR><BR>ولذا كان من الأهمية بمكان أن نفتح أعيننا على الواقع، وأن ننظر في هذا الحادث، وأن نبحث عن جواب لعدة تساؤلات، منها: هل بالإمكان تيسير الحج على قاصدي البيت الحرام أكثر أم لا؟ وهل ما تبذله الدولة السعودية هو غاية الوسع فليس بالإمكان أفضل مما كان أم أن الأفضل متيسر؟ وأخيراً هل قامت السعودية بواجبها أم أنها قصرت في القيام بهذا الواجب؟<BR><BR>وعند الإجابة على هذه الأسئلة ينبغي النظر إلى شقين اثنين، أحدهما: المادي والآخر التوعوي الإرشادي، مع مراعاة الإقرار بمسلمات الواقع، والتي من أهمها الجهود المبذولة والإنفاق الحاصل الذي لا ينكر، والذي ينبغي أن يراعى عند تقييمه والحكم عليه (سلباً أو إيجاباً) أمور، منها:<BR><BR>هل كان ذلك الإنفاق كافياً للضمان أداء الشعائر بصورة أمثل؟ هل في الوسع والطاقة زيادة الإنفاق لتحسين خدمات ضيوف الرحمن؟ هل أسلوب التوعية الحالي هو الأرشد؟ هل العملية التنظيمية والإدارية الحالية في مجملها هي الأسد؟<BR> <BR>إن الناظر في أرض الواقع، يلحظ محاولة التسديد والمقاربة من الدولة، فإن الإنفاق على المناسك والمشاعر بادية مظاهره في مرافق عدة، وذلك على الرغم من ديون الدولة!! وهذا الإنفاق لا أرجم بما غاب عني، فأقول غير كاف، بل قد يكون كذلك وقد لايكون، ولكن ما يُجزم به أنه لم يكفل سلامة جمع من الحجيج، غير أنه لا يصلح تبرير القصور في الإنفاق إن كان ثمة بعجز ميزانية الدولة بصرف النظر عن أسبابها، فإن الدخل الوارد للبلاد من حجاج الخارج يقارب الأربعة مليارات في موسم الحج فقط، وقد حققت القطاعات الاستثمارية المختلفة في النقل والإسكان والتغذية والخدمات خلال الموسم قبل الماضي عائدات مالية بلغت حوالي 1322 مليون ريالاً تقريباً، وهذا يشير إلى أن عقدة المشكلة تكمن في العملية التنظيمية الإدارية بالدرجة الأولى، وربما تبعتها عوامل جانبية أخرى.<BR><BR>وأخيراً ليس هذا المقال تحليلاً للمشكلة أوتتبعاً لأسبابها وليس الغرض منه وضع اليد على مكمن الداء، ولكنه دعوة للنظر في المشكلة، وترشيد لأسلوب نقدها وأمثالها من النوازل النقد البناء الذي يُرجى نيل طائل بعده، لا مجرد الحَطِّ من هؤلاء و هؤلاء أو الجعجعة في الهواء أو التحليق في السماء بعيداً عن أرض الواقع.<BR><BR>أسأل الله أن يتقبل من الحجيج وأخص من قضى نحبه، وأن يجبر مصاب من أصيب حساً في بدنه أو معنى في قريب أو حبيب، والحمد لله أولاً وآخراً وعلى كل حال، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.<BR><br>