أخلاقيات العمل الاستشهادي
27 صفر 1425

يتردد في الأوساط الغربية السياسية والإعلامية وبعض الحلقات الفكرية والثقافية على مدى سنوات تعليقات تدين العمل الاستشهادي الفلسطيني وتعده عملاً لا-أخلاقياً، بعضهم يقول: إن هذا العمل عمل بهيمي وحشي يعبر عن نزعة حيوانية منحطة تحتقر كل ما هو إنساني، الفلسطينيون _حسب قولهم_ يقتلون أنفسهم إشبعاعاً لرغباتهم المتوحشة في قتل الأبرياء والمساكين، ويصنعون بذلك ظاهرة من أسفل وأقذع الظواهر الشرسة في التاريخ. </br>قد سار على درب هؤلاء بعض العرب ومن الفلسطينيين خاصة على رأسهم رئيس وزرائهم أحمد قريع فأخذوا يرددون ذات العبارات. </br>و يبدو أن فلسفة الأخلاق التي غابت ردهاً طويلاً عن مثقفي العرب قد أخذت تزدهر الآن بتأثير المد الثقافي الغربي والإغراق المالي الخاص. </br> عرب وفلسطينيون يطالبون الفصائل الفلسطينية التي تجند استشهاديين التوقف عن ذلك، والبحث عن أساليب جديدة لمقارعة الاحتلال وعلى رأسها الأساليب اللاعنفية<BR>للرد على هذه التعليقات والمواقف التي تتجاوز الجذور الفلسفية للأخلاق، أسوق التالي: </br> أولاً: العمل الاستشهادي ليس عملاً انتحارياً؛ لأنه لا تنطبق عليه مواصفات الانتحار، للانتحار في علم النفس مواصفات علمية واضحة لا تنطبق أبداً على فلسفة العمل الاستشهادي وغاياته والأهداف المرجوة منه، على الأقل يبحث المنتحر عن التخلص من هموم لا يقوى على معالجتها، إنه هارب من ثقل الحياة؛ أما الاستشهادي فيبحث عن الحياة لشعبه وللأجيال القادمة، الاختلاف مع الاستشهادي في تطلعاته لا يفسد الدوافع الوطنية والعامة التي تقوده إلى مثل هذا العمل، أي قد لا يوافق شخص على أن العمل الاستشهادي عبارة عن مساهمة في حياة الوطن والمواطنين، لكن هذا لا يعني أن الدافع وراء العمل غير موجود، وإذا نظر المتتبع إلى لغة الاستشهادي في تسجيله المسبق، وإلى هيأته الجسمانية والنفسية فإنه لا يجد ملامح للانتحار، وإنما ملامح لاستقبال حياة جديدة. </br> ثانياً: استعمل أهل شرق آسيا أجسادهم لتدمير الآليات العسكرية الزاحفة واستطاعوا أن يحققوا إنجازات عسكرية هامة ساهمت في النهاية في بناء الحياة الأفضل للوطن والمواطنين؟ لماذا لم يكن ذلك انتحاراً وبهيمية، بينما هو كذلك في الحالة الفلسطينية والعربية والإسلامية. المبدأ الأخلاقي كوني ولا يخضع للتجزئة أو الظرفية. ما هو صحيح كونياً في الأرجنتين، صحيح أيضاً في تشيكا وفي زيمبابوي. السيطرة على شعب آخر مرفوضة كونياً، وهي كذلك في فلسطين والعراق وغيرهما، كما أن قمع حرية التعبير محرمة كونياً في كل مكان، وعليه فإن تجزئة المبدأ الكوني عبارة عن انتهازية تتبع الأهواء أو المصالح ولا علاقة لها بالقيم الأخلاقية التي يمكن تعميمها على السلوك الإنساني في كل مكان.<BR>ثالثاً: الاستشهادي صاحب إيثار وتضحية من أجل الآخرين. شعار يتردد عند أغلب الأمم مفاده "نموت من أجل أن يحيا الوطن"، هذا يردده الرئيس الأمريكي دائماً في خطاباته عندما يثني على الذين ماتوا من أجل أن تحيا أمريكا، وهو ذاته ما يردده قادة الصهاينة باستمرار حول اليهود الذين ماتوا في حروبهم مع العرب مثلما يموت أبناء الأمم الأخرى دفاعاً عن مصلحة أو وصولاً إلى هدف، كذلك يموت أبناء العرب والمسلمين. فقط هناك فارق هام وهو أن الاستشهادي العربي المسلم يقدم نفسه طواعية دون ضغط أو قوانين تعاقبه على عدم الالتحاق بالعسكرية. دولة الصهاينة تعاقب من لا يلتحق أو يرفض الخدمة العسكرية في منطقة معينة، وكذلك تفعل مختلف الدول، أما في الحالة العربية الإسلامية فلا تتوافر الإمكانيات لاستيعاب الأعداد الهائلة الراغبة في التضحية في سبيل الله دفاعاً عن الأمة وأرضها.<BR>رابعاً: يتميز الاستشهادي بإيمان عميق يجعله مطمئناً بأن الحياة الآخرة أفضل من الحياة الأولى، ولهذا يقدم على التضحية وهو هادئ البال مرتاحاً وعلى يقين بأنه ينتقل من برزخ إلى برزخ آخر أبدي، على عكس المنتحر الذي فقد إيمانه بكل شيء بما في ذلك قدرته على التغلب على الصعاب، هذا لا يستوي مع ذاك. <BR>ربما يقول شخص: إن هذا الإيمان زائف؛ لأنه لا توجد حياة آخرة ولا توجد جنة ونار. هذه المسألة تخص القائل ولا تخص الاستشهادي. الاستشهادي لا يفكر بعقل الكافر ولا بتطلع العلماني ولا بروح دين غير دينه. قناعة الاستشهادي هي التي تحكم تقديرنا نحن لما قام به، وليس قناعتنا نحن لما يجب أن تكون عليه قناعاته. هذا شبيه بمن يحلل الموقف الأمريكي من غزو العراق بناء على موقفه حول عدم قدرتها على تحقيق مصالحها بالغزو. منطلقه ليس هو منطلق المخطط الأمريكي ومتخذ القرار، ولا يستطيع فهم الموقف الأمريكي من خلال موقفه هو وإنما من خلال الموقف الأمريكي ذاته.<BR>ولهذا من الخطأ الأخلاقي أن يعد شخص قيمه هي القيم التي تحكم الآخرين أو يجب أن تحكمهم، إلا إذا كانت تلك القيمة كونية تستقطب إجماعاً، وهنا أؤكد أن القيمة الكونية يشترك فيه المؤمن والكافر والعربي والأجنبي والأحمر والأسمر، مثل: حرية التعبير للجميع، أو التعليم حق لكل ذكر وأنثى...إلخ.<BR>خامساً: الاستشهادي يقدم على التضحية ليس حباً بقتل الناس، وإنما حباً للحرية وحياة الآخرين. الذين يقدمون حياتهم تضحية في سبيل الله من أجل الغير لا يمكن إلا أن يكونوا حساسين لآلام الآخرين ومعاناتهم. إنهم يرون في الاحتلال أو الهيمنة كابوساً مستمراً يثقل عليهم وعلى الأمة، فيسعون باحثين عن وسائل وأساليب تخلصهم، وإذا كان من ضحايا هذه الوسائل والأساليب أبرياء فإنهم ضحايا من ظلم وليس من شعر بالظلم فتمرد عليه.<BR>سادساً: في الحالة الفلسطينية، اجتمعت قوى الأرض من صهاينة وعجم وغرب وحكام عرب ضد شعب فلسطين وجيشت ضده وأمعنت فيه القتل وسفك الدماء والتشريد والقهر والتعذيب والإذلال، فما العمل؟ هل يقف الشعب الفلسطيني متفرجاً على جراحه النازفة ويدير ظهره لحقوقه مستسلماً؟ من يتتبع علم النفس، يجد أن الدفاع عن النفس جزء من التكوين البشري. الحيوان يدافع عن نفسه، والقطة تدافع عن أبنائها، والنبات وفق العديد من الأبحاث العلمية يدافع عن نفسه، ومن يتتبع التاريخ، يجد أن الرد على العدوان عبارة عن ظاهرة تاريخية موضوعية لا تخص شعباً دون آخر. إذا وقع العدوان، فعلينا أن نتوقع الرد بغض النظر عن الجهة التي أوقعت العدوان أو تلك التي وقع ضدها العدوان، وإذا كان هذا الشخص لا يريد الرد على العدوان فإن هناك آخرين يريدون، وإذا عجز شخص عن إيجاد الوسيلة فإن غيره سيجد، أي أن العدوان على الشعب الفلسطيني يولد نقيضه شئنا أم أبينا، صوت التاريخ أعلى من أصوات المصالح.<BR>سابعاً: إذا كانت العمليات الاستشهادية بهيمية ووحشية وغير حضارية، فلا أظن أنه لدى الشعب الفلسطيني مانع من استلام دبابات وطائرات حديثة وقنابل ذرية من الولايات المتحدة من أجل خوض حرب حضارية أخلاقية. الشعب الآن لا يمتلك الوسائل الحضارية الحديثة، وليس بحوزته إلا وسائل بدائية يعتقد أنها فعالة على الأقل في تحقيق توازن الرعب، وحسب الموضوعية التاريخية، أتوقع أن يستمر الشعب الفلسطيني في محاولاته لابتكار وسائل وأساليب قتالية جديدة أكثر فاعلية من العمليات الاستشهادية. عندها ربما يبدأ الأعداء بدعوة الشعب الفلسطيني للعودة إلى العمل الاستشهادي. <BR>ثامناً: البهيمي المتوحش هو الذي يغزو الآخرين فيقتلهم ويقطع أوصالهم ويهدم بيوتهم ويشردهم، أما الذي يشعر بالظلم فيجتهد في ابتكار الوسائل والأساليب لرد الظالم وطرده إنما يتمتع بالخلق الإنساني الرفيع وينسجم تماماً مع المنطق التاريخي، أما المغرق في التوحش البهيمي فذلك الذي يقف ضد المظلوم دفاعاً عن الظالم أملاً بفتات من رغد العيش.<BR>تاسعاً: فاقد الشيء لا يعطيه، وعلى من يريد إعطاء دروس في الأخلاق أن يكون أخلاقياً أولاً، يستطيع الباحث أن يورد أمثلة لا تحصى بالأعمال اللا أخلاقية التي قامت بها أمريكا وإسرائيل وما تزالان، والتي قام بها ويقوم حكام عرب وقادة فلسطينيون. على الأقل، على الفلسطيني الذي يريد أن يصف العمل الاستشهادي باللا-أخلاق أن يتوقف أولاً عن سرقة أموال الناس وعن نشاطات التطبيع مع العدو حتى تكون لكلماته بعض المصداقية.<BR><br>