أسرى الحرب بين رحمة الإسلام وهمجية الغرب
13 ربيع الأول 1425

مسعود صبري

يوماً بعد يوم تكشف لنا أمريكا وبعض حلفائها عن الوجه القبيح لحضارة الإرهاب، وكأن التاريخ الأمريكي يجب أن يعاد فيه النظر، فاحتلال الأمريكان للقارة وقتلهم وأسرهم للهنود الحمر، مروراً بدور أمريكا في الحروب المتتالية فيما يخص المسلمين وغير المسلمين، ولا ينسى التاريخ ما فعلته أمريكا في الصومال وفي أفغانستان وفي العراق، وكذلك ما يفعله اليهود في فلسطين المحتلة، والروس في الشيشان، والهندوس في مسلمي الهند وكشمير.<BR>ولعل مما كشف الوجه القبيح لأمريكا وإنجلترا ما صنعتاه في أسرى العراق، من انتهاك لكل الحقوق الإنسانية والأعراف الدولية التي يتشدقون بها، وأضحت الاتفاقيات الموقعة في جينف وغيرها حبراً على ورق، ويحدث هذا في مسمع ومرأى من العالم غربه وشرقه، باختلاف عقائدهم وعاداتهم، ليكشف عن الحقيقة لهذه الدول الإرهابية، والتي تمثل حكوماتها أزرى ما يمكن وصفه من أناس تولوا أمر غيرهم، فلم يكتفوا بالاحتلال، بل قاموا بانتهاك حقوق الأسرى المدنيين في أبشع صورها.<BR>ولعل هذا يجعلنا نعيد النظر فيما كتبه القرآن الكريم والسنة النبوية وفقهاء المسلمين حول حقوق الأسرى في الإسلام، ليعرف الغرب من هو الإرهابي الحقيقي، ومن هو الذي يحترم إنسانية البشر بعيداً عن معتقداتهم، ليقف الناس على الحرية الحقيقية،لا الحرية الزائفة، وليجعل الجميع في مسؤولية حول ما يحدث من خروج عن الإنسانية السوية إلى الهمجية اللاإنسانية.<BR>والأسير في الإسلام هو المقاتل الحربي الذي يقع في أسر المسلمين أثناء الحرب؛ لاعتدائهم على بلاد وديار المسلمين، وهذا يعني أن الإسلام لا يجيز أسرى المدنيين، ولا الاقتراب منهم بسوء،لا أن يذهب الجنود إلى ملاجئ الأيتام وينتهكوا أعراض الفتيات، ويشردوا البنين والبنات حتى يبقوا في العراء؟<BR>ولا أن تنتهك أعراض النساء على مرأى من رجالهم، وتنقل الصور عبر وسائل الإعلام غير الرسمية بالطبع؟<BR>ولم يأمر الإسلام يوماً بالتعرض للأطفال، ولا النساء، ولا العجائز من النساء، ولا الشيوخ الذين طعنوا في السن، بل لكل هؤلاء احترام وتقدير.<BR>لقد كرم الإسلام الأسير، وضمن له الحفاظ على حياته، وأنه لا يمكن أن يتعرض له أحد بأذى، فلا يجوز في الإسلام لمن أسر أسيراً أن يقتله، بل يسلمه لإمام المسلمين، ويتشاور الحاكم المسلم مع وزرائه وقادة الرأي، كيف يتعاملون مع الأسرى، بل يحث القرآن المسلمين أن يفكوا أسرهم، إن كان في الإمكان هذا، ولم يترتب على تركهم ضرر بأسرى المسلمين "فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا" ( محمد:4).<BR> فيجوز لحاكم المسلمين في الحرب أن يمن على الأسرى فيتركهم بلا مقابل، ويجوز له أن يفديهم بمقابل من المال ونحوه، وهذا يعني أن الإسلام يحد من الأسر، ولكنه لا يستطيع إلغاءه من جانب واحد.<BR>إن على القوات الأنجلو أمريكية، والحكومة الأمريكية والبريطانية أن يعرفوا هدي الإسلام في معاملة الأسرى، وليقارنوا بين ما يفعله جنودهم وما أمر به الإسلام، ففي الوقت الذي يعذب فيه الجنود الأمريكان الأسرى بالكهرباء وغيرها، وإذلالهم، نجد أن الإسلام حرم تعذيب الأسير.<BR>فمع كل ما صنعه يهود بني قريظة من عداء وخيانة للمسلمين، فقد أبى الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يبقوا في شدة الحر، بل أمر الصحابة أن يتركوهم في القيلولة، وأن يسقوهم ماء بارداً، وفي ذلك يروي الإمام السرخسي في أسرى بني قريظة حينما كانوا في حر الشمس أنه: جلس رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لبني قريظة حتى قتل من قتل منهم في يوم صائف، وسُمي ممن قتل منهم بين يدي رسول الله في المغازي: حيي بن أخطب، وكعب بن أسيد، وجماعة، فلما انتصف النهار قال النبي عليه الصلاة والسلام-: "لا تجمعوا عليهم حر الشمس وحر السلاح، قَيِّلوهم، واسقوهم حتى يبردوا"..<BR>أما الصعق الكهربائي في أجزاء جسم الإنسان، ومنها في المناطق الحساسة، فلم يعرفه الإنسان،وإنما ابتدعته حضارة الغرب، المسماة بحضارة الحرية!!<BR>وفي الوقت الذي تعري فيه قوات الاحتلال الغاشم أسرى العراقيين، وتجردهم عن ملابسهم، كما ولدتهم أمهاتهم، وأن يشرف على ذلك امرأة من النساء، مشيرة إلى الأعضاء التناسلية منهم، نجد أن الإسلام يأمر أن يستر الأسير، وأن يؤتى له بثياب أفضل مما يلبسها، ويروي الإمام البخاري عن جابر بن عبد الله- رضي الله عنهما- قال: "لما كان يوم بدر أُتي بأسارى وأُتي بالعباس ولم يكن عليه ثوب فنظر النبي- صلى الله عليه وسلم- له قميصًا، فوجدوا قميص عبدالله بن أبيّ يقْدُر عليه فكساه النبي- صلى الله عليه وسلم- إياه فلذلك نزع النبي- صلى الله عليه وسلم- قميصه الذي ألبسه".<BR>وفي الوقت الذي تقوم به قوات الاحتلال بترك الأسرى في العراء، أو عدم إسكانهم أماكن تليق بإنسانيتهم، نجد أن المسلمين، وقد كانوا فقراء يأوون الأسرى في بيوتهم، أو في المساجد، حتى يحافظوا عليهم، بعيداً عن أن يصيبهم أذى، أو تصيبهم الأمراض، يقول الحسن: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يُؤتى بالأسير، فيدفعه إلى بعض المسلمين، فيقول: "أحسن إليه" فيكون عنده <BR>اليومين والثلاثة، فيؤثره على نفسه.<BR>ويروي الإمام مسلم بسنده عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ "بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَيْلاً قِبَلَ نَجْدٍ فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ يُقَالُ لَهُ ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ سَيِّدُ أَهْلِ الْيَمَامَةِ فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ فَخَرَجَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-..<BR>بل وصل حد تكريم الإسلام للأسير ألا يعذب لأجل الحصول على ملعومات عن جيشه، وهم المحاربون الذين أتوا بلادنا، واعتدوا علينا، ويسجل هذا الرأي كمفخرة للمسلمين عن الإمام مالك – رحمه الله – حين يسأل: أيعذب الأسير إن رُجيَ أن يدل على عورة العدو؟ قال: ما سمعت بذلك.<BR>وفي الوقت الذي لا يستطيع الأسير أن يتحدث مع رتبة من رتب الجيش، أو يكلم قائدا من قواده، نجد أن الإسلام يعالج الحاجات النفسية للأسير، فله أن يتحدث مع حاكم المسلمين أو قوادهم، أو يدير معه الحوار، وأن يناقشهم دون خوف من عذاب أو إهانة، وتسطر السنة النبوية، فيما يخرجه الإمام مسلم هذه المفخرة "فعن عمران بن حصين قال: كانت ثقيف حليف بني عقيل، فأسَرَت ثقيف رجلين من أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأسر أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- رجلاً من بني عقيل، وأصابوا معه العضباء، فأتى عليه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو في الوثاق قال: يا محمد، فأتاه، فقال: ما شأنك؟ فقال: بم أخذتني، وبم أخذت سابقة الحاج؟ فقال "إعظامًا لذلك أخذتك بجريرة حلفائك ثقيف" ثم انصرف عنه فناداه، فقال: يا محمد، يا محمد، وكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- رحيمًا رقيقًا فرجع إليه، فقال: "ما شأنك؟" قال: إني مسلم. قال: "لو قلتها وأنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح"، ثم انصرف فناداه، فقال: يا محمد، يا محمد، فأتاه، فقال: "ما شأنك؟" قال: إني جائع فأطعمني وظمآن فاسقني قال: "هذه حاجتك".<BR>بل يجعل الإسلام الاهتمام بالأسير وإطعامه طريقاً إلى جنته - سبحانه - وإن كانت الجنة هي أسمى ما يتمنى المسلم، وإن كان الإسلام يجعل الاهتمام بالأسير طريقاً إلى الجنة، فإن هذا أبلغ دلالة على اهتمام الإسلام بالأسير وتكريمه له كإنسان من البشر، بل يجعل الإسلام ذلك في دستوره ومنهجه وكتابه الخالد، يتلى دائماً على مر العصور والدهور إلى أن يقوم الناس لرب العالمين،فيتلو المسلمون ذلك في صلاتهم، فيكون دائماً معهم لا ينسى أبداً، فيحكي الله - تعالى - عن أهل الجنة وصفاتهم، فيقول: "وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً. وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً" ( الإنسان:8-12).<BR>ومن اللافت للنظر أن آية إطعام الأسير والاهتمام به تأتي في سورة تسمى سورة الإنسان، وكأن هذه المعاملة النابعة من شرع الله هي احترام لإنسانية الإنسان، أياً كان جنسه، وأياً كانت عقيدته.<BR>بل يتوج الهدي النبوي في معاملة الأسرى بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الأمة بمعاملة الأسرى معاملة حسنة، وألا يكون أسرهم دافعاً للتقليل من شأنهم أو ازدرائهم، فيقول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه الطبراني: "استوصوا بالأسارى خيراً"، وكانت كلمة "خيراً" نكرة، لتتجدد وسائل تكريم المسلمين للأسرى عبر كل زمان ومكان دون تحديد لوسيلة تكريم معينة، فإن لكل عصر وسائله وخصائصه،وإنما يجمع المسلمين الأمرُ العام بتكريمهم والاهتمام بشأنهم، بل وتوفير راحتهم، ويفعل المسلمون ذلك بدافع من دينهم وشريعتهم.<BR>وإن كان بوش يجعل ما يقوم به من حرب ضد الأبرياء باسم المسيح، وأنه جزء من الخلاص، فلتقارن الدنيا بين تعاليم الخلاص التي تقتل وتشرد وتسفك الدماء وتنتهك الأعراض، وبين قوانين الإسلام دين الرحمة الذي يوجب على أتباعه أن يتبعوا منهج الله، وألا يحرفوا فيه حسب أهوائهم وما تمليهم عليه نزواتهم وشهواتهم.<BR>و كان المسلمون يفضلون الأسرى على أنفسهم، فكان المسلمون يقدمون للأسرى أجود الطعام ويأكلون أردأه، أو أقله قيمة، لتقديرهم أن الأسرى أمانة في أعناقهم حتى يقضى في شأنهم، وكأن الأسرى أصبحوا ضيوفاً في ديار الإسلام، فوجب على المسلمين إكرام ضيوفهم.<BR>بل كان من رحمة النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يخرج بنفسه ليطمئن على حال الأسرى، وأن أحداً لم يتعرض لهم بأذى أو سوء، وربما كساهم من ثيابه، وأطعمهم من طعامه، فقد كان ثمامة بن أثال رجلاً قتل كثيراً من المسلمين، حتى وقع أسيراً، فخرج إليه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: "ماذا عندك يا ثمامة"؟<BR> فقال: عندي يا محمد خير، إن تقتل تَقتل ذا دم، وإن تُنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت.<BR> فتركه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهكذا ثلاث مرات في ثلاثة أيام، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "أطلقوا ثمامة".<BR> فانطلق إلى نخل قريب من المسجد، فاغتسل ثم دخل المسجد، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، يا محمد، والله ما كان على الأرض وجه أبغض إليَّ من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إلي، والله ما كان من دين أبغض إلي من دينك، فأصبح دينك أحب الدين كله إلي، والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك، فأصبح بلدك أحب البلاد كلها إليّ...<BR>وإن كانت الحضارة الغربية تعلمت من المسلمين فنون القتال وخططهم، لكنهم لم يتعلموا رحمة المسلمين بالأعداء، وفي هذا العصر الذي طغى فيه إرهاب الدولة على المستضعفين، فإن أمريكا وأوربا في حاجة أن تقرأ في هدي الإسلام مرة أخرى،وأن تتعلم منه كيف تحافظ على إنسانية الناس وأن تحترمهم، سواء أكانوا أسرى أم غير أسرى.<BR>وما يحدث الآن من انتهاك لحقوق الأسرى يحتم على المجتمع الدولي أن يقوم بدوره، كل حسب مكانته:<BR>- فعلى أوربا أن تقوم بضغط على أمريكا، وأن تجعلها تلتزم بما اتفق عليه دولياً فيما يخص معاملة الأسرى، وخاصة أنها في هذه الآونة تحتفل بتوسيع الاتحاد الأوربي، وإن كان الاتحاد لن يخدم القضايا الإنسانية، فإنه لن يكتب له النجاح، أو سيكون مطعوناً فيه في كثير من جوانبه، وأن يقنن الاتحاد الأوربي عقوبات على أعضائه ممن يخالف المواثيق الدولية المتفق عليها.<BR>- إن على المجتمع الدولي أن يقوم بدوره من خلال مجلس الأمن والأمم المتحدة ومنظمة المؤتمر الإسلامي وجامعة الدول العربية، وأن يطالب التحقيق الدولي في انتهاك حقوق الأسرى العراقيين وغيرهم، وأن يخضع الجميع لهذه المحاكمة العادلة.<BR>- أن تتخذ الدول العربية مواقف حازمة من هذه الانتهاكات، وأن يظهر أثر هذا في معاملتها للدول التي قامت بهذه الانتهاكات حتى ولو بفعل القليل، مثل: المقاطعة لحضور بعض فعاليات التعاون مع هذه الدول احتجاجاً على ما يفعل بالعراق، وأن تقدم الدول العربية طلب إحاطة في مجلس الأمن والأمم المتحدة حول هذه الانتهاكات.<BR>- أن تطالب الدول العربية والمجتمع الدولي بالإفراج الفوري عن الأسرى في العراق، وأن يعجل بخروج الاحتلال من العراق وتسليم السلطة للعراقيين عبر انتخابات برلمانية نزيهة، بإشراف من الدول الإسلامية.<BR>- أن تصوغ الدول العربية والإسلامية عبر علمائها وفقهائها قانونا لحقوق الأسرى وكيفية معاملتهم بما يتماشى مع روح الإسلام وسماحته.<BR><br>