يوم ارتقى ياسين ويوم تجلجل ريجان
1 جمادى الأول 1425
أمير سعيد

هي العظمة بكل أشذابها في مقابل الدناءة بكل مفرداتها؛ الشيخ الشهيد أحمد ياسين الذي استثمر حياته في النضال، وتعامل مع عدوه بمنطق الأخلاق الإسلامية الرفيعة، وأرغم الجميع على احترامه حتى من كثير من أعدائه، ولقي ربه وعنه أمته كلها راضية في مقابل من ابتاع الهيمنة على العالم بخنق الشعوب المهيضة، والرئيس الراحل الذي شهدت حقبته حوادث عالمية مصيرية ، وأفاد الصهاينة منه كثيراً في الولايات المتحدة الأمريكية، لكنه كان من الذين "نسوا الله فأنساهم أنفسهم".<BR>بين العظمة الأصيلة والعظمة الزائفة تبدو المسافة شاسعة كما بين قبري الرجلين في غزة وكاليفورنيا.

تبدو كذلك حين تحتشد الجماهير المسلمة في "الشرق الأوسط الكبير/ العالم الإسلامي سابقا!!" فتتجاوز الملايين من طنجة إلى جاكرتا ؛ ترتفع حناجرها إلى عنان السماء وفية لرمز النضال بحقه المحفوظ ، وحين تخرج بعض الجماهير بالعاصمة الأمريكية المكتظة فلا تفي للرئيس الأمريكي الأسبق سوى بمئة ألف مشيع، وتخلد بذلك عبارة إمام أهل السنة أحمد بن حنبل "قولوا لأهل البدع بيننا وبينكم يوم الجنائز".

قدم الرجلان الكثير للعالم ، فالأول شيخ شهداء فلسطين ودرة النضال الفريدة ؛ علَّم العالم كيف تتمثل الريادة في رجل لا يقوى على الحراك، وكيف يحقق نظرية التكافل الاجتماعي الإسلامية من هو ذاته فقير لا يملك من حطام الدنيا الكثير، كيف ينبري للناس خطيباً لا يشق له غبار من يحتبس صوته عن الانطلاق، كيف يستحيل معه الكرسي المتحرك عرشاً لا ينازعه عليه زعيم ، كيف تتوالد السواعد الفتية المناضلة من جسد واهن عليل، كيف يسبق العمل الخيري والتعليمي والإصلاحي النضال والجهاد في بلد يعيش تحت نير الاحتلال لنصف قرن ونيف.

الشيخ ياسين غادر الدنيا، وقد ترك للعالم ـ كل العالم ـ قيماً عظيمة ومبادئ قيمة، الصبر على ظلم القريب، والرد على عدوان الغريب، والتراحم فيما بين أبناء الشعب الواحد، الشعور بالمسؤولية تجاه الأمة الإسلامية والعالم كله، ولو لم يكن يملك صولجاناً للحكم ولا حكومة ونظاماً .. الشيخ غادر دنيانا وهو قد خرج من رحم الشعب وانتخبته أمته وشعبه دون أي تدخل من أساطين الاقتصاد والشركات المتعددة الجنسيات وتجار السلاح ...

والثاني قدم للعالم الكثير، غير أنها لا توضع في خانات المآثر .. كثير من الأسلحة التقليدية الأمريكية، من بينها القاذفات الشبح من طراز بي-2 وصواريخ كروز، قد طورت إبان حكم ريجان ؛ جميعها استخدم لنشر الرعب بين الأطفال والنساء والشيوخ ؛ جميعها استخدم لفرض الظلم في ربوع العالم، ملايين الأبرياء روعتهم هذه الأسلحة الخؤونة .. عشرات الآلاف استهدفتهم ؛ فقتلت وأصابت ، يتمت وثكلت وأدمت وأرعبت، فسحقاً له من قاتل وسحقاً لها من ذكرى.

الثاني قدم للعالم أنموذجاً للزيف والتمثيل ، التقمته هوليود ثم لفظته لينشر التمثيل في العالم ويرمي بدائه العالم وينسل منه، أطلق على الإمبراطورية السوفيتية مصطلح "إمبراطورية الشر"، وكانت دولته أحق بكثير منه به، فمن للشر غيرها ؟! (مصطلح الشر وقوى الشر ومحور الشر الذي حرص ريجان وخليفتاه الجمهوريان على استخدامه يشي بأن الثقافة التوراتية فاعلة جداً في السياسة الأمريكية إبان الحقبة الريجانية والبوشوية الأولى والثانية).

ريجان يذكره العالم بأنه هو الذي في حكمه شهد اليمينيون المتطرفون من المؤمنين بمعركة هرمجدون مدة ازدهارهم الكبرى، فسرطان الإنجيليون البروتستانت الصهاينة استنبت خلال الحقبة الريجانية ، ومن ثم ترك الرجل للعالم بذرة الشر الكبرى تمتد جذورها في أراضي القارات الخمس، فيستشري الحيف ويسود الغبن، وتتنامى في الأرض الشرور.

ريجان يذكره العالم بأنه أول من اجترأ على رؤساء الدول بمحاولات الاغتيال المباشر كما فعل مع العقيد الليبي معمر القذافي، ويذكره العالم بأنه الذي بدد ثروات الدول المنافسة باستدراجها للفضاء، وبدد ثروات القوى الإقليمية في الخليج العربي باستنزافها في حرب طويلة الأمد (تقدر بعض الإحصاءات بأن الحرب الإيرانية/العراقية قد استنزفت نحو 800 مليار دولار من أموال الخليج ، ضخ كثير منها في جيب صناع السلاح الأمريكيين والقوى الصهيونية، وقد كشف عن ذلك فضيحة إيران كونترا، وصفقات الأسلحة للعراق على الجانب الآخر !!).

يذكره العالم بكل شر بأنه هو الذي نشر الأفيون في ربوع أفغانستان، وصيرها بأوامر مباشرة وصريحة لرئيس الاستخبارات الأمريكية المصدر الرئيس للأفيون والهيروين في العالم بعد أن كانت لا تعرف لذلك سبيلاً.

يذكره العالم بأنه لم تأمن حتى الدول الفسيفسائية من شره ؛ إذ أرعد وأزبد وصرخ بالمارينز أن اغزوا جزيرة جرينادا الكاريبية الصغيرة في العام 1983م..

يذكره العالم بأنه من أكثر الرؤساء الأمريكيين الذين عملوا لمصلحة الكيان الصهيوني الغاصب الذي يحظى بكراهية العالم كله، وأرسل قواته على تخوم فلسطين حين زج بقوات المارينز تحت مسمى "قوات حفظ السلام" في لبنان.

يذكره العالم بأنه ورفيقته رئيسة وزراء بريطانيا مارجريت تاتشر هما المنظران لفكرة "تحسين الأوضاع الاقتصادية لدول العالم الثالث" عن طريق حرمان الطبقات الكادحة من الخدمات القليلة الاجتماعية والصحية بحجة تخفيف ضغوط الإنفاق الداخلي عن كاهل حكومات تلك الدول، وصيرا تلك الفكرة نسقاً متبعاً يتخذه الصندوق الدولي حيال من تثقله الديون من الدول المقهورة والمهضومة فيلجأ إليه.

في قصتي الرجلين .. في حياتهما .. في موتهما عبرة أي عبرة لمن حلَّق بعيداً عن ماديات السياسة وجوامدها، من حلَّق سيرى أن العزة لله يمنحها لعباده المخلصين، وسيرى أن مقاييس الأرض غير مقاييس السماء، وأن تجار السلاح والأفيون والنساء والبيوت البيضاء والحمراء وقصور المستعلين بمظاهر الأرض لا يهبون إنساناً عزة أراد الله ألا تكون له، وسيرى أن الله حين يريد أن يخزي إنساناً فعل وجعل الناس تسخر منه .. من كانت بيده أزرار الحقيبة النووية صار أهله يمنعونه الخروج من المنزل مخافة ألا يعود ناسياً مكانه وناسياً تاريخه وناسياً مجده الضائع، ومن كانت كل العوامل تدعوه لأن يكون على هامش الحياة من فقر وشلل ومرض وضعف صار ملأ السمع والبصر .. ذاك أمر الله وتلك حكمته "قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير".

إن في الفقر إلى الله غنى وارتفاع ، وفي الشعور بالاستغناء عن الله ضعة واستفال.<BR>"إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى إن إلى ربك الرجعى"، وبين الشعور بالاستغناء المفضي إلى الطغيان ؛ والرجعى إلى الغني الحميد تدور رحى الحياة القصيرة مهما امتدت سنواتها وتناسلت أحداثها.

تلك هي الحقيقة التي يهرب منها الساسة ويفرق منها الزعماء .. المسافة بعيدة بكل تأكيد بين قبري الرجلين في غزة وكاليفورنيا .. بيد أن المسافة تبعد بملايين المراحل بين السبيلين : الارتقاء إلى السماء والسؤوخ في الأرض.<BR><br>