حرب "دحلان" و"عرفات" .. على الإصلاح أم السلطة ؟
20 جمادى الثانية 1425

في لقاء سابق جمعني مع محمد دحلان (وزير الأمن الداخلي السابق) في برنامج "دائرة الحوار" بالتلفزيون المصري كان دحلان – كقائد للأمن الوقائي حينئذ - يتحدث عن الأمن أولاً وأخيراً، وضرورة وقف العمليات ضد الاحتلال الإسرائيلي واعتقال الاستشهاديين الفلسطينيين، ولم يكن يبدو عليه اهتماماً بقضايا الإصلاح الفلسطيني الداخلي رغم ما كان ينشر وقتها عن فساد وتضخم ثروات مسؤولين في السلطة الفلسطينية .<BR><BR>ولم يظهر من تصرفات أو تصريحات دحلان التالية أي اهتمام بقضية الإصلاح أو محاربة الفساد ، بل كانت مسؤوليته تكاد تنحصر في قمع المقاومة ، وفي أعقاب خروجه من المنصب الرسمي ودخوله في صراع مع مجموعات أخرى من حركة فتح بقيادة (الرئيس الفلسطيني) ياسر عرفات بدأ يتحدث عن الإصلاح ، وبالمقابل أصبح دحلان نجماً لامعاً في وسائل الإعلام الإسرائيلية، ويجرى تلميعه هناك كمنافس وغريم ووريث لعرفات ، وظهر عليه ثراء فاحش وأصبحت له – وفق شهادات صحفيين فلسطينيين كبار - شركات أسمنت ، ومحلات مجوهرات، وشركات تامين حتى وتجارة في الأغنام تحت واجهات معروفة، حتى أن مصادر صحفية فلسطينية وصفته بأنه "أكبر مسؤول عن الفساد". <BR><BR>ولهذا لم تكن تصريحات دحلان الأخيرة لصحيفة "الوطن" الكويتية ضد عرفات، والتي قال فيها: "إن الرئيس عرفات يجلس الآن على جثث وخراب الفلسطينيين في وقت هم أحوج فيه إلى الدعم والمؤازرة وعقلية منهجية جديدة" ، وطالب بمحاربة الفساد وإجراء إصلاحات داخل السلطة ، وتوعد بخروج مظاهرات حاشدة في غزة إذا لم يطبق عرفات الإصلاحات الأمنية قبل 10 أغسطس الحالي 2004م .. لم تكن سوى ركوب لموجة الإصلاح لتعزيز مكانته مع اقتراب الانسحاب الإسرائيلي من غزة .<BR><BR>ففي 13/7/2003م، بعث العقيد محمد دحلان بصفته وزير الأمن الداخلي رسالة إلى شاؤول موفاز (وزير الدفاع الإسرائيلي) نشرتها وسائل الإعلام الفلسطينية يقول له فيها: "أن عرفات أصبح يَعُد أيامه الأخيرة، ولكن دعونا نُذيبه على طريقتنا وليس على طريقتكم، وتأكدوا أيضاً أن ما قطعْتُهُ على نفسي أمام الرئيس بوش من وعود فإنني مستعد لأدفع حياتي ثمناً لها" !<BR>وعندما نجح عرفات في إقصائه هو وأبو مازن ، سافر دحلان إلى لندن وبدا عليه الانكسار ، ولكنه عاد مع بدء الحديث عن الانسحاب الإسرائيلي من غزة ليطرح ذات الآراء التي ينادي بها رجل الشارع بشأن إصلاح السلطة ووقف الفساد وإهدار نحو 5 مليارات دولار مساعدات دولية ، الأمر الذي دفع جانباً من الشارع الفلسطيني للوقوف خلفه ليس حباً فيه، ولكن طلباً للإصلاح ووقف الفساد . <BR><BR>ويبدو أن الإسرائيليين والأمريكان وجدوا ضالتهم في دحلان أيضاً لتلميعه كقيادة فلسطينية شابة تخلف عرفات وتمسك بقطاع غزة ولا تتركه فريسة لقوى المقاومة الإسلامية، خصوصاً أن لهم تجارب أمنية سابقة مع دحلان ، ويثقون في قدرته على وقف عمليات المقاومة الفلسطينية، وكان هو الذي تفاوض مع جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي (شين بيت) في روما عام 1994م على خطة لاحتواء حركة المقاومة الإسلامية حماس .<BR><BR>ولا يعني هذا أن دحلان وحده هو الفاسد والساعي لركوب موجة الإصلاح ، فغالبية أعضاء السلطة الحالية والسابقين يلعبون على مشاعر الشارع الفلسطيني ومطالبة بالإصلاح ، وغالبيتهم متهمون بالفساد لا فارق بين صغير وكبير ، وكل طرف يسعى لتحقيق مصالحه والوصول للسلطة ، أما الإصلاح فهو الحصان المطلوب لجر العربة باتجاه السلطة والضحية هو الشعب الفلسطيني كله !<BR><BR>الإصلاح الفلسطيني .. حقيقي أم شكلي ؟!<BR>وكان (الرئيس الفلسطيني) ياسر عرفات قد نزع فتيل الفتنة الداخلية والأزمة المشتعلة في الأراضي الفلسطينية منذ اختطاف عدة مسؤولين أمنيين أبرزهم: اللواء غازي الجبإلى ، واستقالة (رئيس الوزراء الفلسطيني) أحمد قريع ، بإجراء جوهري هام سبق أن طالبت به العديد من القوي الفلسطينية ومصر ، ووافق على نقل الصلاحيات الأمنية كاملة إلى قريع ليفقد بذلك ثاني أهم ملف هام في الحكم بعد ملف الاقتصاد الذي اضطر للتنازل عنه عقب الضغوط الأمريكية المكثفة .<BR><BR>ومع أن عرفات وافق عملياً على شروط (رئيس الوزراء الفلسطيني) لسحب استقالته بقبول اتفاق يقضي بتنفيذ إصلاحات بالسلطة الفلسطينية، منها: وضع وزارة الداخلية تحت تصرف رئاسة الوزراء وضمنها توحيد الأجهزة الأمنية الثمانية الحالية في ثلاثة فقط ، إضافة إلى فتح تحقيق في كافة القضايا التي تتعلق بـ"ملفات الفساد" داخل السلطة ، فقد اعتبر محللون فلسطينيون ما حدث مجرد "مسكنات" و"ترحيل" لقضية الإصلاحات . <BR><BR>صحيح أن قريع سيتولى بنفسه الإشراف على الأجهزة الأمنية ، ولكن ولاء هذه الأجهزة التي يسيطر عليها المقربون من عرفات سيظل للرئيس الفلسطيني ، ما يعني أن ما يقال أيضاً عن فتح ملفات الفساد لن يتم؛ لأنه ليس من صالح هؤلاء المتهمين أصلاً بالفساد أن يتم فتح هذه الملفات (!) .<BR><BR>وصحيح أن عرفات سعى ضمناً لإعطاء بادرة حسن نية بإعطاء ضوء أخضر لاعتقال عدد من المسؤولين وكبار الضباط من المتهمين بالفساد ، ولكن هذه هي الرؤوس الصغيرة ، والسمك الكبير لا يزال هو المسيطر ، كما أن الحكومة قد تجد نفسها في نهاية الأمر لا تملك أي صلاحيات على الأرض على نشاطات هذه الأجهزة الأمنية الموالية لعرفات !<BR><BR>والحقيقة أن الخطر الفعلي الذي يواجه الفلسطينيين هو الفساد أولاً ، والصراعات الداخلية ثانياً .. ليس فقط بين الفصائل الفلسطينية المختلفة ولكن داخل فصيل فتح نفسه الذي كشفت الانتفاضة المسلحة ضد الاحتلال الصهيوني انقسامه إلى حمائم وصقور ، وإلى فريقين متنافسين على النفوذ والصلاحيات والسلطة .<BR><BR>فليس سراً أن هناك صراع واضح بين جناح يقوده (وزير الداخلية السابق) محمد دحلان، ويطالب بإصلاحات أمنية وسياسية و ترضى عنه إسرائيل ، وآخر يقوده عرفات ويميل شأن بقية الحكومات العربية لبقاء الوضع على ما هو عليه .<BR><BR>والخطورة أن هذا السكون والجمود في الأوضاع الفلسطينية الداخلية يدفع القوى الداخلية الداعية للإصلاح ووقف فساد كبار المسؤولين للصمت والإحباط وتفشل عمليات الإصلاح من الداخل ، بحيث تأتي دعوات الإصلاح فيما بعد مفروضة من الخارج ، وتضطر السلطة في كل مرة لتقديم تنازل على غير رغبتها قد لا يناسب الوضع الداخلي ، فضلاً عن اتخاذ أمريكا وإسرائيل هذا الفساد الفلسطيني الداخلي ذريعة للمطالبة بشروط تعجيزية لقبول مواصلة المفاوضات والضغط أكثر على السلطة في قضية الأرض والسيادة الفلسطينية .<BR><BR>صحيح أن الأزمة الأخيرة – كما قال لي صحفي فلسطيني كبير - كسرت العديد من الأصنام في الداخل الفلسطيني وهزت صورة الرئيس عرفات واضطرته – مع خروج المظاهرات ضده لأول مرة – للقبول بأي حل لاستعادة السيطرة على الأوضاع، ولكن هذا لا يعني إغماض العين عن حالة الفساد في العديد من الدوائر الفلسطينية، وحاجة الشعب الفلسطيني إلى الإصلاح ، ولهذا يبدو أن الأزمة لم تحل ، ولكن جرى ترحيلها إلى المستقبل .<BR><BR>والسؤال هنا : هل ستعود الأجهزة الأمنية لممارسة دورها في مطاردة نشطاء الانتفاضة والاستشهاديين، ومنع العمليات ضد الصهاينة كي ترضى أمريكا وإسرائيل أم أنها ستهتم أكثر بمتابعة ملفات الفساد ؟ وهل سينجح قريع في السيطرة عليها ، أم نتوقع انفجارها في وجهه؛ لأن قادتها لا يزالون تابعين لعرفات ؟ <BR><BR>والأهم من كل ذلك، ما مصير الشعب الفلسطيني نفسه في إطار هذا الصراع الدائر على السلطة والمواقع والنفوذ في ظل فشل النظام السياسي الفلسطيني، بعد عشرة أعوام من قيامه ، وعجزه عن بناء سلطة حقيقية، أو إرساء مجتمع مدني تعددي تصان فيه القيم والحقوق والحريات ، وتأثير ذلك على المقاومة الفلسطينية ؟ <BR><BR>ومن يضمن ألا تختطف إحدى القوى المتنافسة أحلام الشعب الفلسطيني في الإصلاح وتركب الموجة لمجرد الصراع على السلطة ؟<BR><br>