حزب العدالة والتنمية والمعايير الأوروبية
15 شعبان 1425

استكمال البرلمان التركي في 26 سبتمبر الجاري التصديق على قانون العقوبات الجديد، في جلسة استثنائية بناءً على طلب تقدم به حزب العدالة والتنمية الحاكم بزعامة (رئيس الوزراء) رجب طيب أردوغان قبل الموعد المحدد لمعاودة النشاط البرلماني بأربعة أيام ، وضع علامة استفهام كبيرة بعد أن تخلى القانون عن مشروع المادة الخاصة الذي يجرّم الزنا نزولاً عند التهديدات الأوروبية والمعارضة الشديدة التي واجهتها إضافة تلك المادة، ويهدف إصلاح قانون العقوبات التركي إلى زيادة فرص انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوربي عبر توسيع نطاق الحريات الفردية وتشديد العقوبات على من يمارس التعذيب. <BR><BR>القانون الجديد يحل محل قانون صدر في 1926م، وعلق العمل به منذ عام 1996م، ويأتي ضمن حزمة إصلاحية هي التاسعة من نوعها منذ قرابة 3 سنوات للإيفاء بوثيقة الشراكة والانضمام التركية الأوربية التي تقدمت بها حكومة بولنت أجاويد للاتحاد الأوربي عام 2000 م، وهو يكشف مقدار الهاجس الأوروبي الذي يعتمل طوال العقود الماضية من موضوع انضمام تركيا إلى الحظيرة الأوروبية، والذي جاء قانون الزنا ليشكل غطاء مشروعا للمعارضة التي تبديها غالبية القوى العلمانية والدينية الأوروبية. <BR><BR>المفارقة العجيبة التي تمارسها الدول الأوروبية مع تركيا لا تبتعد عن الأسباب العقائدية والثقافية، ففي الوقت الذي تعمل هذه الدول بكل جهد من أجل الحفاظ على خصوصياتها ولو انتهكت بعضها الحريات الفردية، تعترض على الحكومة التركية التي تنطلق من ذات الاعتبار وهي تمارس حقها كبلد مسلم في تأصيل هويتها الإسلامية والحفاظ على خصوصيتها ونسيج مجتمعها ، ففرنسا مثلاً انتهكت حرية العقيدة ومنعت الحجاب الإسلامي في مدارسها بحجة أنها تحافظ على علمانية الدولة الفرنسية وتخليصها مما أسمته التهديد الإسلامي، هذه المفارقة تكشف الأهداف المستترة لهذه الدول، وهي توظيف الإصرار التركي في دخول الاتحاد كوسيلة لسلخ تركيا عن هويتها وتهميش إسلامها وتحويلها إلى كينونة مبهمة قد يرفضه الأوروبيون في النهاية بحجة أو أخرى.<BR><BR>وما لا يعد خافياً أن حزب العدالة والتنمية قدم بتجاوزه تجريم زنا الأزواج إخفاقا آخر يضم إلى فشل الحزب في إثارة المسائل الدينية والدفاع عنها وفي مقدمتها الحجاب والتعليم الديني. وإذا اعتبرنا أن قانون الزنا كان خطوة لتثبيت الشريعة الإسلامية في القانون فإن حجم المعارضة الشديدة التي لقيها من فئات شعبية داخل تركيا إلى جانب التهديد الأوروبي اللاذع يقدم صورة صادمة لرد الفعل على أي خطوة يقدم عليها الحزب مستقبلا في محاولة لإجراء إصلاحات لمواجهة خطر اندثار طلاب معاهد أمام خطيب أو للسماح بارتداء الحجاب في الدوائر الحكومية والأماكن العامة. سيما أنه يعد قضية الحجاب من مشاكل حقوق الإنسان، وأنها ستحل إذا تحسن سجل حقوق الإنسان بأكمله في تركيا.<BR><BR>فرغم إعلانه في يوليو الماضي عن أمله في مراجعة القوانين حتى يتاح للطالبات بارتداء الحجاب الإسلامي في الجامعات التركية الخاصة، وذلك على الرغم من رفض سلطات التعليم العالي، لم يذهب أردوغان بعيداً فيها دفعاً للتوتر، ولا سيما قبل الاستحقاق المفصلي في نهاية هذا العام، وانتظار ما إذا كان قادة الاتحاد الأوروبي سيعطون لتركيا موعداً لبدء مفاوضات العضوية، وهي أولوية مطلقة لحزب العدالة والتنمية، وذهب تركيزه على ضرورة التوصل إلى «إجماع اجتماعي» حول هذا الموضوع الشديد الحساسية في تركيا.<BR>ويعول قادة تركيا الجدد المنتمون إلى حزب العدالة والتنمية كثيراً على القمة الأوروبية القادمة والمقرر لها يوم 17ديسمبر 2004م لإقناع كافة الزعماء الأوربيين بأحقية بلادهم في موعد محدد لقبول عضويتها التي قد تطول حتى عام 2010م، خصوصاً بعد حصولهم على وعود بدعم ملفهم من قبل عدد من الدول الأوربية كبريطانيا وإيطاليا وألمانيا ، ذات الثقل الفعلي داخل الاتحاد الأوروبي، كما أن الدول الشرقية الوثيقة الالتصاق بالولايات المتحدة لا يمكنها معارضة ضم تركيا الحليف الآخر لواشنطن وشركتها في حلف شمال الأطلسي، كما يتجه الجهاز التنفيذي في بروكسل ( اللجنة الأوروبية ) إلى فتح صفحة جديدة وتاريخية في روابطه مع تركيا إلا أنه ليس أكيداً أن رؤساء الدول والحكومات سيقرون في قمتهم المقبلة تحديد تاريخ لبدء مفاوضات مع أنقرة في شأن انضمامها إلى الاتحاد.<BR>إصرار تركيا للدخول إلى العائلة الأوربية مهما كانت تبعات ذلك على نسيجها السياسي والثقافي والحضاري لا يحده وجود حزب محسوبة على التيار الإسلامي في الحكم، والذي يثابر لإثبات أن سلوك أول حكومة إسلامية خالصة في تاريخ الجمهورية التركية يرمي إلى توثيق الجسور بين تركيا وأوروبا بشكل خاص والغرب عموما، إذ بدت هذه الحكومة أكثر حرصاً على تحويل البلاد إلى عضو كامل في النادي الأوربي - الغربي. وهذا يذكر بأن ما جرى عليه قادة الحكومة التركية يعد أمرا طبيعيا منسجما مع المصلحة الوطنية التركية بشكل عام ومصلحة حزبهم وغالبية التيار الإسلامي على وجه الخصوص حسب بعض المراقبين. لكن العضوية في الاتحاد الأوروبي تعني أيضا الالتزام الثابت بالخط العلماني.<BR><BR>ويدحض قادة حزب العدالة والتنمية المعادلة القائلة بالتناقض بين الهوية الإسلامية لتركيا وانتمائها الأوربي، ويفسرون الأمر بأن التزام تركيا بمعايير الاتحاد الأوربي، وبالأساس معيار الديمقراطية، سيضمن للشعب التركي حقه في صيانة هويته الإسلامية والتعبير عنها بطريقة حضارية ومعاصرة، على غرار ما هو متاح للأقليات المسلمة في الدول الأوربية، حيث يطالبون بعلمانية حقيقية ترفع يد الدولة في بلادهم عن الدين، كما يعد الإسلاميون الأتراك أنفسهم أبرز المتضررين من الطبيعة الشاذة لديمقراطيتهم، ومن الهيمنة القوية للجيش والنخب العلمانية المتشددة ، بحيث أصبح انتماء تركيا إلى الاتحاد الأوربي سبيلاً محتوماً لتخليص نظامهم السياسي من أمراضه غير المقبولة من وجهة نظر الديمقراطية الأوربية والتي يتأثر بها في الغالب التيار الإسلامي، ومن أهمها عملية الحظر المتكرر للأحزاب السياسية، وتقييد حركة العمل السياسي، والتضييق على الأقليات الدينية والقومية.<BR><BR>ويمكن القول: إن حزب العدالة والتنمية يجد نفسه أمام وضع حرج وهو أن يكون نجاح برنامجه السياسي مرتبط بمظلة العلمانية الأوروبية بما له من دلالات تنال من زخم هويته الدينية، وتضيق الخيارات أمام صعوبة الموازنة ما بين مطالب مؤيديه وأنصاره وحساسية القوى العلمانية وفي مقدمتها المؤسسة العسكرية، في وقت يسعى جاهداً لأن يثبت جدارته ووجوده في السلطة ويرغب في عضوية الاتحاد الأوروبي، ويبقى رهانه الأساسي للاستمرار في الحكومة هو نيل موعد لبدء مفاوضات العضوية الاتحاد الأوروبي.<BR><br>