سنة العراق لماذا يقاطعون "المنتجات".. عفوا الانتخابات الأمريكية
19 ذو الحجه 1425

مصطلحات مثل "المكدلة، Mcdonaldaization " أو " الكوكلة، Cocacolaization " لم تعد مصطلحات غريبة عن الثقافة العالمية، فهي تعبر عن السعي لصبغ المجتمعات والشعوب بالطابع الثقافي الأمريكي من خلال فرض أنماط استهلاكية معينة، ويضاف إلى الماكدونالد والكوكاكولا، سلعة الديمقراطية التي تسعى أمريكا حالياً إلى ترويج طبعتها الخاصة بالشرق الأوسط عن طريق " دمقرطة " أنظمتها السياسية لكن ليس بالطريقة التي تُمارس بها الديمقراطية في الدول الغربية، فالطبعة الخاصة بالشرق الأوسط – الإسلامي – تُقدم " خلطة سرية " من الديمقراطية المعدلة التي ربما لا تتشابه مع أصلها الغربي سوى في أنها " تقرمش "..<BR><BR>ويذكرني هذا الوضع بما ذكره المشير عبد الحليم أبو غزالة (وزير الدفاع المصري الأسبق، والخبير العسكري البارز) عندما صرح لفضائية أبو ظبي قبل سنوات أنه من السذاجة أن نفترض أن طائرات الإف 16 التي تبيعها أمريكا لدولة الإمارات هي نفسها الإف 16 التي تبيعها لـ"إسرائيل " فهذه مجرد أسماء تجارية للتسويق، وبين الطائرتين فارق كبير في القدرات وإمكانيات الطيران والمناورة..<BR><BR>وقد ظهرت مدارس مختلفة في الدول العربية في مجال تفسير الديمقراطية حسب الرؤية الأمريكية، فبعض الدول عرَّفت الديمقراطية بأنها: الإشراف القضائي على الانتخابات، فكان القاضي يجلس وحيداً في مركزه الانتخابي يتعجب لماذا لا يأتي الناس للتصويت؟ فقد كانوا يمنعون من الدخول، وبعض الدول يُفسر الديمقراطية بأنها: صناديق الانتخاب الزجاجية، ولكن لا بأس بأن تضل بعض الصناديق طريقها ريثما تُستبدل بأخرى بمنتهى الشفافية، ودول ثالثة تفطَّنت إلى سذاجة الأربع تسعات في إثبات ديمقراطية النظام، فجعلتها أربع ثمانيات.. وهناك أيضاً ديمقراطية المرشح الأوحد، وديمقراطية اللجان الشعبية، وديمقراطية الخطوط الحمراء، وغيرها كثير..<BR><BR>وفي العراق ابتكرت الإدارة الأمريكية نمطاً جديداً، هو: ديمقراطية في ظل الاحتلال، وهذا النمط يعني أن هناك حرية كاملة في إنشاء الأحزاب والترشح دون رقابة أو منع، بل هناك ترغيب لممارسة عمليات الترشح والانتخاب، و من المفارقات العجيبة أن يذهب وفد من السفارة الأمريكية إلى مقر هيئة علماء المسلمين السنية كي يقنع قادتها بتأييد الانتخابات، أي أن الأمريكيين لا يمانعون من وجود مكثف للإسلاميين..<BR><BR>وتبدو في هذا الزخم الديمقراطي نقطة ضعف وحيدة، وهي أن الفائزين في الانتخابات لن يكون لهم أي دور، فالاحتلال هو الذي يضع الدستور والقانون، وهو الذي يشرف على تنفيذه وهو الذي يدير شؤون البلد الداخلية والخارجية، وهذا نظام جمهوري مبتكر تصبح فيه رئاسة الدولة ورئاسة الوزراء وعضوية البرلمان مناصب شرفية عديمة التأثير..<BR> وبينما تكالب الشيعة على المذبح الديمقراطي في المعبد الأمريكي، بدا السنة مدركين لأبعاد اللعبة غير عابئين بها، وكانت مواقفهم متفقة في العموم على رفض الانتخابات باعتبارها سلعة أمريكية، ولكن بدرجات ولاعتبارات متفاوتة، وتبنت القوى السنية الرئيسة موقف الرفض، وهي: هيئة علماء المسلمين، الحزب الإسلامي، المقاومة، العشائر..<BR><BR>لكن مع ذلك هناك عدد من المفارقات في موقف السنة من هذه الانتخابات لابد من الإشارة إليها لأهميتها، إذ مطلق الرفض لا يقدم دلالة راجحة على الثبات في مواجهة الاحتلال، ونستعرض فيما يلي أهم هذه المفارقات <BR><BR><font color="#0000FF"> أولاً: </font><BR>لابد من التفريق هنا بين من يرفض الانتخابات في ظل الاحتلال بصورة قطعية، وبين من يطلب تأجيلها لإشكاليات إجرائية، فالمقاومة ترفضها رفضاً قاطعاً عبَّرت عنه في بياناتها وأدائها، وهيئة علماء المسلمين لا تعترف بانتخابات في ظل الاحتلال، ولكنها قدمت عرضاً متوازناً اعتبره البعض تنازلاً، واعتبره آخرون دليلاً على حنكة سياسية اكتسبها قادة الهيئة للتخلص من الضغوط دون تقديم تنازلات، وتمثل العرض في قبول الانتخابات في حال قدَّم الاحتلال جدولاً زمنياً للانسحاب من العراق..<BR><BR>وأما مطلب التأجيل فتبنَّاه الحزب الإسلامي استناداً على عدم ملائمة الوقت المتاح لإجراء انتخابات نزيهة، واعتراضاً على بعض الشكليات، وكان الحزب قد قدَّم قائمة مرشحيه قبل شهرين تقريباً، وتتوزع العشائر بين الرفض التام وطلب التأجيل.<BR><BR><font color="#0000FF"> ثانياً: </font><BR>هيئة علماء المسلمين تُعد مع الحزب الإسلامي أكثر الجهات القادرة على التأثير في سنة العراق، وإن كانت الهيئة تمتلك خطاباً جماهيرياً عاماً واحتراماً لدى فئات الشعب لمواقفها، فإن الحزب الإسلامي باعتباره يمثل جماعة الإخوان المسلمين له كوادره الخاصة المنظمة والمنتشرة في المناطق العراقية.. وهناك أيضاً فصائل المقاومة العراقية على اختلاف توجهاتها.. وهناك عدة فوارق بين هذه القوى الرئيسية الثلاث التي تملك تأثيراً على سنة العراق:<BR><BR>1- هيئة العلماء بعد مرور ما يقرب من 20 شهراً على تأسيسها بدا وكأنها تخضع بصورة متزايدة لعدة اعتبارات ومحاذير وهو ما يجعل مواقفها تتسم بمرونة متزايدة أو بتعبير أدق أصبحت مقيدة في التعبير عن حقيقة مواقفها بشفافية ومصداقية، وقد حاولت سلطات الاحتلال الأمريكية أن تُكبل الهيئة بمزيد من الضغوط عندما زارها وفد من السفارة وانتهى اللقاء بأن الهيئة أعربت عن إمكانية رضاها بالانتخابات لو ترتب على ذلك وضع جدول لانسحاب الأمريكيين من العراق، فهل كان ذلك مجرد مناورة والهيئة تعلم أن الاحتلال لن ينسحب أبداً بهذه الصورة؟ أم أن قادتها كانوا يعنون فعلاً إمكانية مشاركتهم في الانتخابات لو حصلوا على وعد الانسحاب؟ وهل كانت الهيئة على استعداد للثقة في وعود الأمريكيين؟.. هذه علامات استفهام كثيرة، لا تضع قضية الثقة في الهيئة محل شك قطعاً، ولكنها تعبر عن تعرضها لضغوط متواصلة.. ومن ناحية أخرى فإن الهيئة ملتزمة منذ تأسيسها بتبني موقف متوازن ومتعقل من الشيعة درءاً للفتنة، ولكن هذا المسلك يجعلها مقيدة أيضاً في التعرض لمخططات الشيعة في الجنوب، ويمكن فهم فلسفة الهيئة وأدائها من خلال تحديد هدفها الرئيس في المرحلة الحالية، وهو: مواجهة الاحتلال الأمريكي ودفعه للانسحاب باعتباره حجر الزاوية فيما وراءه من مخططات أو مؤامرات يمكن أن يتعرض لها سنة العراق..<BR><BR>2- الحزب الإسلامي العراقي يعاني من خلافات داخلية بين أقطابه وهو ما ظهر واضحاً في تردد مواقفه بين المشاركة في الانتخابات أو الرفض أو طلب التأجيل، ويتنازع الحزب أيضاً توجهات براجماتية تتمثل في التنافس مع هيئة العلماء في التأثير على السنة، فقادة الحزب يعلمون أن تفردهم بتمثيل السنة يعني مكاسب سياسية، ولكن في نفس الوقت تفرد الهيئة بمواجهة الاحتلال يكسبها تأييداً جماهيرياً، وحتى الآن فقد نجحت مواقف الهيئة في تحقيق قوة جذب للحزب الإسلامي نحو مواقف أكثر رفضاً للاحتلال عن ذي قبل وقد حرص الحزب في المدة الأخيرة على أن يبدو متوافقاً مع الهيئة في رفض الانتخابات رغم الفارق الذي ذكرناه سابقاً، وربما تجاوز الأمر إلى محاولة توريط الهيئة في تقديم مواقف أكثر مرونة، كما أعلن متحدث باسم الحزب قبل أيام عن موافقة الهيئة على المشاركة في انتخابات محلية في محافظة ديالي بالتنسيق مع الحزب، وهو ما أعلنت الهيئة عدم صحته لاحقاً..<BR><BR>3- المقاومة السنية في العراق ليس كياناً واحداً أو كيانات متحدة، ورغم التطورات الإيجابية التي تحدث لها، فلا تزال قابلة للاختراق قابلة للانحراف عن المسار الرئيس قابلة للاضطراب في تحديد هدف المرحلة، وفي الآونة الأخيرة تزايدت عدة وحدة العمليات التي تثير الحيرة لدى الشعب العراقي السني حول دواعيها وعوائدها وقدرتها على خدمة القضية الرئيسة وهي طرد المحتل، ورغم أن الرأي العام يؤيد المقاومة، إلا أن هذا النمط من العمليات من شأنه أن يُحدث لغطاً ويشوش على شفافيتها ومصداقيتها وربما مستوى التأييد الذي تتمتع به جماهيرياً، والمحذور هنا أن تصل المقاومة إلى مرحلة تمسح فيها ما بذلت جهداً في كتابته، فهذا يعني أن تعود القضية مرة أخرى إلى نقطة الصفر..<BR><BR><font color="#0000FF"> ثالثاً: </font><BR> بالنسبة للشيعة تكمن القوة في تأييد الانتخابات، ولكن بالنسبة للسنة فإن القوة تكمن في مقاطعتها، وقد وُضِعت كلا الطائفتين بحيث تستمد كل طائفة مزيداً من القوة من ضعف الأخرى، ولذلك عبَّرت القيادات الشيعية عن غضب كبير نتيجة الإصرار السني على المقاطعة، وهذا يُعد نجاحاً جزئياً للسياسة الأمريكية في وضع طاقة الغضب السنية في نسق متقابل مع طاقة الاندفاع الشيعي لتأسيس حكومة طائفية، وهو أمر يحاول الشيعة تجنبه – وكذلك السنة – رغم غضبهم؛ لأنهم يعلمون جيداً أن المكاسب التي يسعون لتحصيلها من الانتخابات سوف يفقدونها ربما بصورة كلية لو حدثت فوضى أو حرب أهلية..<BR><BR>ونقول: نجاح جزئي للأمريكيين؛ لأنهم يفضلون في المرحلة الحالية أن يشارك السنة في الانتخابات، ويتم إقرار الوضع المرسوم مسبقاً، حيث يعترف السنة بأغلبية الشيعة المفترضة وبأحقيتهم في ترجمة هذه الأغلبية في صورة حكومة وبرلمان يهيمنون عليهما تماماً..<BR><BR>وبذلك فإن المقاطعة السنية للانتخابات تصبح بمثابة وضع العصا في كلا الدولابين الأمريكي والشيعي، وهذا الموقف يعطي للسنة قوة سياسية متزايدة وقدرة عالية على المساومة والتفاوض ووضع الشروط، ولكن هذا الإنجاز يصطدم بتفاوت المواقف الذي أشرنا إليه سابقاً بين الرفض وطلب التأجيل، فقد يبدي الحزب الإسلامي في مرحلة متقدمة مرونة سعياً لجني مكاسب المقاطعة بينما يبقى الأكثر تمسكاً – كما هي العادة – متفرداً في الساحة، وهو ما يلقي بسؤال له أهميته الاستراتيجية: ماذا سيكون موقف الشعب العراقي السني مستقبلاً من الانتخابات؟ هل يصمد على موقفه أم يتراجع لأجل مكاسب مرحلية؟<BR><br>